قررت منذ عدة أسابيع التوقف عن الكتابة عن حرب الإبادة الدائرة في غزة. فما الذي يمكن أن يقال بعد كل ما قيل؟ وما الفائدة من التوجه باللغة العربية لقراء متعاطفين مع فلسطين ويرفضون مثلي هذا الكابوس المتواصل بلا توقف؟ بماذا سيفيدهم تفريغ غضبي وعلو صراخي لفضح تواطؤ الغرب وعنصريته لدرجة المشاركة مع المحتل الإسرائيلي في عمليات القتل اليومي للفلسطينيين، بالتسليح أو بالصمت؟
صدقت الرئيس جو بايدن في شيخوخته عندما كان ممسكًا بقمع الآيس كريم مطلع هذا العام وهو يقول "لم نصل بعد، ولكننا قريبون للغاية من التوصل لاتفاق". لم أكن سعيدًا بالطبع لتناوله مصائر البشر وأرواحهم وهو يلعق حلواه المفضلة، لكن قلت لا بأس، يلعق الآيس كريم أو يلعق الطلاء حتى، المهم أن تتوقف المجزرة.
ذاب الأيس كريم وتوارى بايدن من المشهد بعد قراره الانسحاب من السباق الرئاسي، لكن لم تتوقف الحرب.
هل يجتمعون بلا طائل؟
كنت أعتقد أن مع كل اجتماع لرؤساء مخابرات الوسطاء؛ مصر وقطر والولايات المتحدة، مع وفدي التفاوض لحماس وإسرائيل، أن أفقًا ما سينفتح، فهل من المعقول أن يجتمع هؤلاء المسؤولون رفيعو المستوى مرارًا وتكرارًا دون أن ينتج أي شيء؟
من الواضح أن الإجابة نعم، وسيكون هذا غالبًا مصير اجتماع الخميس الذي دعت له مصر وقطر والولايات المتحدة في بيانهم حاد اللهجة، الذي أعربوا فيه عن نفاد صبرهم من تأخير التوصل إلى hتفاق، بل وعرضوا تقديم مقترحهم الخاص على الطرفين والتقدم نحو مرحلة التنفيذ وبدء وقف إطلاق النار.
تجاوز الاحتلال الخط الأحمر في رفح ولم يدفع ثمنًا، فأدرك أن يده مطلقة
أما الأسوأ على الإطلاق، فهو أن استمرار العدوان الصهيوني وتخاذل الحكومات العربية والعالم دفعانا إلى اعتياد صور المجازر اليومية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي. لدرجة أن اليوم الذي لا يرتقي فيه أكثر من 30 أو 40 فلسطينيًا يصبح يومًا اعتياديًا. نشاهد ببلادة عداد الموت اليومي حتى اقترب من حاجز الأربعين ألفًا، عدا من تحللت أجسادهم تحت مدن كاملة من الأنقاض.
ورغم اعتياد أنباء الدماء المهدرة، تبقى هناك دائمًا نقاط فاصلة تتجاوز كل معقول، منها بالطبع مجزرة مدرسة التابعين فجر السبت، التي أدت لاستشهاد ما يزيد عن مائة فلسطيني دفعة واحدة، بزعم استهداف خلية لقيادة حركة الجهاد كانت تختبئ في المكان نفسه.
صرخات مراسل الجزيرة أنس الشريف من موقع المجزرة "أشلاء.. أشلاء" ترن في أذني طوال الوقت، وأنظر بذهول لكن أيضًا بشيء من البرود إلى عمال الإغاثة وهم يجمعون بالفعل أجزاء متفرقة محترقة من جسد إنسان في غطاء، لتتشكل منه كومة من اللحم والعظم، لا جسدًا ممددًا يمكن حمله على الأكتاف وتشييعه ودفنه بكرامة. ورأيت لاحقًا صورة لكومة في كيس بلاستيك مكتوب عليها "رأس وأشلاء مجهولة".
كان أنس الشريف يصرخ بالطريقة نفسها وينتحب، عندما قرر بنيامين نتنياهو وجنرالات جيشه في منتصف شهر يوليو/تموز الماضي استهداف قائد الجناح العسكري لحركة حماس، محمد ضيف، بضربة من القنابل الثقيلة في منطقة المواصي قرب مدينة خان يونس، ليلقى أيضًا نحو مائة من النازحين البؤساء مصرعهم، جلهم كالمعتاد من النساء والأطفال.
لا أعرف كيف لا تزال لدى أنس القدرة على السير على قدميه ومواصلة العمل، بعد أن شاهد بنفسه زميليه إسماعيل الغول ورامي الريفي، عقب اغتيالهما مباشرة بصاروخ إسرائيلي أدى لفصل رأسيهما عن جسديهما، في نفس يوم اغتيال قائد حركة حماس إسماعيل هنية في طهران في 31 يوليو.
هذه الحرب لن تنتهي
عندما تجاوز الجيش الإسرائيلي الخط الأحمر باجتياح رفح والسيطرة على حدود قطاع غزة مع مصر، مطلع مايو/أيار الماضي، دون أن يدفع ثمنًا، أدرك ومن خلفه حكومة المتطرفين التي تحكم إسرائيل أن يده مطلقة، وتجاوز كل الحدود في قتل الفلسطينيين في المدارس ومراكز إيواء النازحين. وفي خطاب نتنياهو الفاضح في جرأته بتبني هذه الجرائم أمام الكونجرس الأمريكي، الشهر الماضي، تباهى رئيس الوزراء بتجاهله تحذيرات الجميع، بمن فيهم بايدن، من اجتياح رفح، دون أن تحدث الكارثة البشرية التي حذروه منها.
لكن الكارثة وقعت بالفعل عندما اضطر ما يزيد عن مليون فلسطيني إلى النزوح مرة ثالثة وخامسة وعاشرة، إلى جانب تسوية مدينة رفح بالأرض كحال كل المدن الفلسطينية الرئيسية في القطاع محدود المساحة الذي يفيض بالبشر. ولكن هذا ليس ثمنًا يلتفت إليه مجرم الحرب نتنياهو، أو حليفه بايدن الفخور بصهيونيته.
هذه القدرة على ممارسة القتل بلا حساب أو خشية من عقاب، وتجاهل كل تحذيرات الأصدقاء والأعداء، تدفعني للاعتقاد بأن هذه المجزرة الدائرة في غزة ليست بصدد التوقف. بل على العكس، نتنياهو الماكر يعتقد أنه الآن في قمة شعبيته، بعد أن تمكن وخلال أقل من 24 ساعة من اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية في بيروت.
حالة الترقب التي تسود المنطقة في انتظار الرد الإيراني على إهانة اغتيال هنية على أراضيها، ورد حزب الله على اغتيال شكر، لا تخلق الظروف المناسبة لدفع الأطراف المعنية؛ إسرائيل وحماس، إلى الإسراع في الاتفاق. بعض الدوائر الغربية تقول إن واشنطن وحلفاءها المقربين يسابقون الزمن للتوصل إلى اتفاق قبل ضربة إيران وحزب الله، على أمل سحب البساط من تحت أقدامهما.
لكن هذا الاحتمال يبدو شديد السذاجة في ضوء حالة الانتشاء التي يعيشها نتنياهو بعد قتل هنية وشكر، ما دفعه إلى فرض المزيد والمزيد من الشروط التي تجعل التوصل إلى اتفاق أمرًا مستحيلًا.
حتى إن كانت هناك رغبة حقيقية لدى إدارة بايدن في التوصل لوقف إطلاق النار بشكل عاجل، فإن نتنياهو الخبير في الشؤون الأمريكية الداخلية يدرك جيدًا أن الشهور الثلاثة الأخيرة، قبل انتخابات رئاسية صعبة كالتي نترقبها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل بين ترامب وهاريس، لن تكون الفترة التي ستمارس فيها الإدارة الأمريكية أي ضغوط حقيقية على حكومته، خشية أن يؤثر ذلك على فرص هاريس في الفوز.
في جميع الأحوال، لن يجد نتنياهو صعوبةً كبيرةً في إطالة أمد الحرب شهورًا ثلاثة إضافية حتى تتضح نتيجة الانتخابات قبل أن يقرر خطوته التالية. وإذا كان بمقدوره تجاهل العالم عشرة شهور كاملة واصل خلالها قتل الفلسطينيين بلا هوادة، فما الذي يمنعه من الاستمرار في النهج نفسه لشهور قليلة قادمة؟ المؤكد أن أشلاء الفلسطينيين ليست هي العامل الحاسم الذي يؤرق ضمير العالم ويدفعه لوقف هذا الكابوس.