بلغت حدة الصراع بالمنطقة ذروة جديدة باغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بالعاصمة الإيرانية طهران، بعد يوم واحد فقط من اغتيال القائد العسكري لحزب الله اللبناني فؤاد شكر بالضاحية الجنوبية لبيروت، قبل أن تعلن حركة حماس اختيار يحيى السنوار رئيسًا للمكتب السياسي العام خلفًا لهنية.
مثَّل إعلان حماس صدمة لكثير من الدوائر الإقليمية والدولية المعنية بمتابعة المشهد، رغم أن السنوار، الذي تصفه إسرائيل بـ "الحي الميت"، واحد ضمن ثلاث شخصيات تتيح اللائحة الداخلية للحركة خلافة هنية مباشرة، بحكم موقعه كرئيس لمكتب غزة.
رب البندقية والقلم
قبل ما يزيد عن ستة عقود، وتحديدًا في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1962، ولد السنوار، في مخيم خانيونس بعدما نزحت عائلته إلى غزة قادمة من مجدل عسقلان المحتلة، في أعقاب النكبة عام 1948، حيث عاش ظروفًا شديدة القسوة في بداية حياته، عانى خلالها شظف العيش.
اثنان وستون عامًا مليئة بالمشاهد والمحطات والأحداث، التي يعجز خيال أكبر كتاب الدراما عن تصورها. ومنها حين أنقذه جلادوه من الموت في سجون الاحتلال الإسرائيلي خلال لحظة استثنائية ساقها القدر، حيث كان بين المُفرج عنهم في صفقة جلعاد شاليط عام 2011، عندما تدهورت حالة السنوار الصحية ليكتشف طبيب سجن بئر السبع إصابته بورم على المخ في مرحلة متأخرة، ويأمر بنقله فورًا لمستشفى خارجي نظرًا لارتباط مصير الجندي الإسرائيلي وقتها بحياته.
نُقِل السنوار لمستشفى سوروكا، وهناك أجريت له جراحة عاجلة لاستئصال الورم، دون أن يدرك من اتخذوا القرار ومن نفذوه أن هذا الرجل هو من سيهز كيانهم ويضع مستقبلهم في المنطقة على المحك.
من بين المفارقات العجيبة في حياة السنوار، أن الرجل الذي كان صاحب فكرة تأسيس ما يعرف بجهاز الدعوة والأمن/مجد عام 1985 لملاحقة المتعاونين مع الاحتلال واختطاف جنوده لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين، كان أيضًا يحمل بين جنباته روح أديب، حملته على كتابة رواية الشوك والقرنفل من داخل محبسه.
ظهرت قدرة السنوار جلية على الحسم خلال فترة سجنه عندما كان يتولى الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس
صهر الرجل، الذي تصفه إسرائيل بالدموي وتضعه الولايات المتحدة الأمريكية على قائمة الإرهاب منذ عام 2015، في روايته ذكرياته وقصته الذاتية لتصبح قصة كل فلسطيني. يقول في مقدمتها:
كل أحداثها حقيقية، كل حدث منها أو مجموعة أحداث تخص هذا الفلسطيني أو ذاك. الخيال في هذا العمل فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه.
ثلاثة وعشرون عامًا قضاها السنوار في سجون الاحتلال عقب اعتقاله عام 1988، وصدور أربعة أحكام ضده بالمؤبد، بعد اتهامه باختطاف وقتل جنديين إسرائيليين، و4 فلسطينيين متعاونين مع الاحتلال. لم تستطع تلك السنوات الطويلة، التي تنقَّل خلالها بين السجون الإسرائيلية وزنازين العزل، أن تغير من عقيدة الرجل الذي ظل يعتقد طوال الوقت أن الصراع في حاجة لمحطة فاصلة يتم فيها زلزلة الكيان المحتل؛ ربما كانت تلك المحطة من وجهة نظره هي "طوفان الأقصى".
عقب خروجه من السجن، ضمن ألف أسير فلسطيني خلال صفقة جلعاد شاليط عام 2011، شارك السنوار في الانتخابات الداخلية لحماس سنة 2012، وفاز حينها بعضوية المكتب السياسي للحركة، وبات المشرف على كتائب عز الدين القسام والمنسق العام بينها وبين المستوى السياسي.
تزوج السنوار في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته عقب إطلاق سراحه، وكان وقتها يبلغ من العمر 49 سنة، حيث حال نشاطه المقاوم وسجنه دون زواجه، لينجب بعد ذلك ثلاثة من الأبناء هم إبراهيم وعبد الله ورضا.
وفي 2017 انتُخب السنوار رئيسًا للمكتب السياسي للحركة في غزة، خلفًا لإسماعيل هنية الذي اختير وقتها رئيسًا للمكتب السياسي العام. خاض أبو إبراهيم وقتها معركة انتخابية داخلية شرسة ضد شخصيات سياسية وازنة ولها تاريخها وثقلها.
قال رئيس الأركان الإسرائيلي وقتها جادي إيزنكوت، إن انتخاب السنوار زعيمًا لحماس في غزة يلغي التمييز بين المستوى السياسي والمستوى العسكري في نظر إسرائيل، وباتت جبهة قطاع غزة على رأس أولويات جيش الإحتلال.
صاحب الكلمة النافذة
تجلت قدرة السنوار على الحسم خلال فترة سجنه، عندما كان يتولى الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس، حيث نجح من داخل محبسه رفقة قيادات بارزة أخرى فيما فشلت فيه القيادات التي كانت تتمتع بالحرية خارج السجون. نجح السنوار مع القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي، وأحمد سعدات الأمين العام المساعد للجبهة الشعبية، في صياغة ميثاق الأسرى للوفاق الوطني عام 2006 في سجن هداريم شمال إسرائيل، والذي مثَّل وقتها محاولة لرأب الصدع بين فتح وحماس، على الرغم من ممانعة قيادات كبيرة بالحركة داخل السجون وقتها.
وبعد الإفراج عنه برزت هذه القدرة في أروقة حماس بحكم موقعه السياسي والدعم المطلق من الذراع العسكري للحركة، ما مكنه من تمرير الكثير من القرارات التي كانت شبه مستحيلة خلال تولي سابقيه في ظل التجاذب والسجال بين ما هو سياسي وما هو عسكري داخل الحركة.
السنوار الذي يوصف بالمتشدد هو نفسه الشخص الذي يتمتع بقدر كبير من البراجماتية السياسية
أخذ السنوار في حسم المواقف العالقة واحدًا تلو الآخر، فبدأ بحسم تصفية القيادي بكتائب القسام محمود اشتيوي الذي أعدمته الحركة في السابع من فبراير/شباط 2016، أما الناطق السابق باسم الحركة أيمن طه، نجل محمد طه أحد الرعيل الأول ومؤسسي الحركة، فقُتل في ظروف غامضة.
براجماتية سياسية
السنوار الذي يوصف بالمتشدد هو نفسه الشخص الذي يتمتع بقدر كبير من البراجماتية السياسية التي جعلته يقود مصالحة أو تهدئة بين حماس ومحمد دحلان، عدو الحركة اللدود، في 2017، والاجتماع معه في القاهرة برعاية مصرية، رغم ما بينهما من بحور دماء سالت عام 2007 عندما سيطرت الحركة عسكريًا بشكل كامل على قطاع غزة عقب مهاجمة مقرات الأمن الوقائي الذي كان يرأسه دحلان.
بعد اجتماع القاهرة، وصف دحلان السنوار بـ" الشخص المنفتح، المهتم بالمصلحة الوطنية والذي يتمتع بشجاعةٍ نابعةٍ من قناعاته".
جاءت المصالحة مع دحلان، عقب جهود مماثلة قاد خلالها السنوار الحركة بمباركة كتائب القسام لمصالحة مع مصر أنهت التوتر الذي شاب العلاقات في أعقاب سقوط حكم جماعة الإخوان في مصر عام 2013، وكان من نتائج تلك المصالحة مشاركة حماس وأجهزتها الأمنية في تأمين الشريط الحدودي بين غزة وسيناء، وتنسيق أمني كامل مع القاهرة بشأن محاربة تنظيم داعش في شمال سيناء وتتبع عناصره الهاربين إلى قطاع غزة.
خطوة تاريخية
بعد فترة وجيزة من تولي السنوار قيادة الحركة في غزة أقدمت حماس على خطوة لم يكن بمقدور قيادة أخرى الإقدام عليها في ذلك الوقت، عندما أُعلِن عن تعديل ميثاق تأسيس الحركة المعروف باسم وثيقة 1987.
في هذا التعديل، جرى حذف عدد من المواد شديدة الحساسية لارتباطها المباشر بعقيدة الحركة، وعلى رأسها المادة الثانية التي كانت تنص على أن حماس هي فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، وحذف شعار الجماعة من وثيقة الحركة، وكذا المادة السابعة التي تشير لأدوار قامت بها جماعة الإخوان في عامي 1936 و1948 في القضية الفلسطينية، وهي الخطوة التي جاءت ضمن محاولات استرضاء السلطات المصرية وإظهار حسن النوايا والجدية في فتح صفحة جديدة من العلاقات.
يملك السنوار منذ أن كان في سجون الاحتلال القدرة على إبرام صفقات ناجحة، وصياغة مقاربات وتسويات تراعي التوجهات والمصالح التي يتبناها أو يمثلها، وهو ما يمثل شعاع نور ضمن غيوم القلق التي تشير إلى مزيد من التأزم في الموقف الراهن عقب توليه قيادة دفة حماس.