لم تكن العملية النوعية التي اغتيل على أثرها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران في ساعة مبكرة من صباح اليوم 31 يوليو/تموز 2024 مجرد اغتيال لقيادي كبير بحركة حماس بقدر ما كانت إسدال الستار على حياة إحدى الشخصيات التي حولتها الظروف والتطورات الإقليمية والداخلية إلى أيقونة من أيقونات القضية الفلسطينية.
كان هنية (1963-2024) واحدًا من قيادات قليلة في الحركة تحظى بتوافق سياسي عام بين كافة الفصائل وأبناء الشعب الفلسطيني، ما جعل منه قائدًا استثنائيًا في ظروف شديدة الدقة.
وُلدَ لاجئًا
هنية الذي تواجد في العاصمة الإيرانية للمشاركة بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان جاء إلى الدنيا لاجئًا، ففي الثامن من مايو/أيار عام 1963 وُلد في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، حيث التجأت أسرته من مدينة عسقلان عقب النكبة.
كان إسماعيل عبد السلام أحمد هنية من أوائل الملتحقين بحركة حماس منذ تأسيسها عام 1987، ناشطًا وفاعلًا في "الكتلة الإسلامية" التي كانت تمثل الذراع الطلابية للإخوان المسلمين في فلسطين، والتي انبثقت منها حماس.
شغل هنية خلال فترة دراسته الجامعية عضوية مجلس طلبة الجامعة الإسلامية في غزة بين عامي 1983 و1984، قبل أن يتولى موقع رئيس مجلس الطلبة عام 1985، وعمل خلال تلك الفترة على جسر الخلافات مع الشبيبة الفتحاوية، الذراع الطلابية لحركة فتح. إذ شهدت تلك المرحلة خلافات حادة بين الكتلة الإسلامية والشبيبة الفتحاوية، التي كان يتزعمها في ذلك الوقت محمد دحلان، قائد الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة.
تخرج هنية في الجامعة عام 1987، نفس عام تأسيس حركة حماس، وعُين معيدًا بها. وكغيره من قيادات الحركة، وأعضائها، قضى فترة من حياته في السجون الإسرائيلية، منها ثلاث سنوات بدأها في 1989، قبل أن يتم إبعاده ضمن عدد من أعضاء الحركة وقيادتها إلى مرج الزهور بلبنان عام 1992 بعد إطلاق سراحه.
من المنفى إلى السلطة
قضى هنية سنة بالمنفى بعد تنفيذ كتائب القسام، الذراع العسكرية للحركة، عملية اختطاف لجندي إسرائيلي، مطالبة حكومة الاحتلال بإطلاق سراح معتقلين على رأسهم مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين بعد مهلة قدمتها قبل أن يقوم مقاتلو القسام بقتل الجندي لعدم تلبية الحكومة مطالبهم، ليتخذ المجلس الوزاري الإسرائيلي في 17 ديسمبر/كانون الأول 1992 قرارًا بإبعاد كافة قادة حركة حماس.
عاد هنية من المنفى ليشق طريقه في المسار القيادي داخل حركة حماس، خاصة مع قربه من الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، إذ عُين عام 1997 رئيسًا لمكتبه، وذاع صيت مدير مكتب الزعيم الروحي للحركة وتعزز موقعه القيادي خلال انتفاضة الأقصى.
حمل عام 2005 تحولًا نوعيًا كبيرًا في مسيرة هنية إذ رُشح لرئاسة قائمة التغيير والإصلاح التي فازت بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية عام 2006، لتكتسح بذلك حركة حماس الانتخابات، ما ساهم في ترشيحه لقيادة حماس بعدها في السادس عشر من فبراير/شباط 2006 إذ تولى رئاسة الحكومة المنبثقة عن البرلمان، ليتولى المنصب رسميًا نهاية الشهر ذاته.
وخلال توليه رئاسة الحكومة الفلسطينية هددت إسرائيل باغتياله في أعقاب اختطاف كتائب القسام الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وهو التهديد الذي لم يتمكن جيش الاحتلال من تنفيذه في ظل إدارة مُحكمة من جانب قيادة الحركة والكتائب لعملية إخفاء الجندي والمفاوضات بشأنه.
الخلاف مع عباس
في الرابع عشر من يونيو/حزيران 2007 أصدر رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس قرارًا بإقالة هنية من رئاسة الوزراء، ردًا على سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عسكريًا وطرد قوات الأمن الوقائي التي كان يقودها في ذلك الوقت محمد دحلان.
وقتها رفض هنية القرار معتبرًا إياه "غير دستوري" ووصفه بالمتسرع مؤكدًا أن حكومته ستواصل مهامها ولن تتخلى عن مسؤولياتها الوطنية تجاه الشعب الفلسطيني. واعتبر المجلس التشريعي الفلسطيني الإقالة تصرفًا غير قانوني واستمر في منصبه بقطاع غزة رئيسًا للحكومة المقالة القائمة بتصريف الأعمال لحين منح الثقة لحكومة أخرى من المجلس التشريعي.
سعي للتوافق
ظل هنية طوال حياته داعيًا للتوافق بين المكونات الفلسطينية لتوحيد الجهود تحت راية القضية الأم، وعمل طيلة الأعوام السبعة عشر الماضية على إنهاء الانقسام بين حركته وحركة فتح، ونادى بالمصالحة الفلسطينية، وأعلن قبوله التنازل عن رئاسة الحكومة في إطار المصالحة الشاملة، ثم تنازل عنها فعليًا في 2 يونيو/حزيران 2014 لرامي الحمد الله، قائلًا خلال مراسم التسليم "إنني أسلم اليوم الحكومة طواعية وحرصًا على نجاح الوحدة الوطنية والمقاومة بكل أشكالها في المرحلة القادمة".
تمكن هنية من إدارة علاقة الحركة مع كل من قطر وتركيا وإيران بشكل متوازن
بعد الحصار الذي ضربته إسرائيل على غزة في أعقاب سيطرة حماس على القطاع تحول هنية لسياسي بدرجة قائد أو زعيم شعبي، وبات منزله في مخيم الشاطئ مقصدًا للجميع، خاصة بعدما أصبح الرمز الأبرز والأهم في الحركة في أعقاب اغتيال زعيمها عبد العزيز الرنتيسي عام 2004.
شخصية هنية التوافقية جعلته أيضًا بمثابة رمانة الميزان داخل حركة حماس، حيث عمل على ضبط بوصلتها، وتقريب وجهات النظر بين ممثلي الجناحين العسكري والسياسي طوال فترة تزعمه للحركة، أو خلال فترة رئاسة المكتب السياسي.
فعقب تولي السنوار قيادة المكتب السياسي للحركة في غزة عام 2017، سيطر ما يعرف بالقساميين (أصحاب الخلفية العسكرية) على القيادة، إذ شغل نحو 6 من المطلق سراحهم في صفقة وفاء الأحرار، التي تم بموجبها إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليط عام 2011، عضوية المكتب. وكان جميعهم من خلفيات عسكرية وأمنية، وهو ما دفع بعض القيادات للقول بأنه لولا وجود رجل مثل هنية على رأس القيادة في هذه الأثناء لتبعثرت الأوراق بالكامل.
على المستوى الإقليمي، تمكن هنية خلال فترة قيادته للحركة من إنهاء الخلافات مع القيادة المصرية، وإسدال الستار على حالة التوتر التي أعقبت سقوط حكم جماعة الإخوان في مصر، كما تمكن من إدارة علاقة الحركة مع كل من قطر وتركيا وإيران برشاقة من يسير على حبل مشدود.
مهمة صعبة لحماس
الآن، ومع إعلانات إسرائيل المتوالية خلال الشهور العشر الأخيرة، وبالتحديد منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن عمليات اغتيال لقادة الحركة السياسيين والعسكريين، لم يكن هناك ثمة قلق حيال قدرة حماس على تعويضهم. لكن هذه المرة المصاب قد يكون من الصعب تعويضه، فبخلاف قدرة هنية على إدارة الحركة والداخل الفلسطيني بشكل عام، استطاع إدارة شبكة شديدة التعقيد إقليميًّا، مع حلفاء وشركاء وأصدقاء دوليين.
فهل تتمكن حماس من تدارك الأزمة سريعًا والوصول إلى البديل الذي يحقق لها التوازن المنشود، لا سيما في هذا التوقيت من العدوان على غزة، والتهديد باتساع رقعة الحرب؟