تصوير سالم الريس، المنصة 2025
صور لانتشار قوات أمنية تتبع لوزارة الداخلية التي تديرها حركة حماس، على رمزون دير البلح وسط قطاع غزة في أول أيام الهدنة
19 يناير 2025

لصوص وعصابات وقتلة.. انفلات أمني في غزة برعاية الاحتلال

منشور الخميس 24 يوليو 2025

غطَّ سامر عبد الفتاح في نوم عميق بعد يومٍ شاقٍ قضاه في طوابيرَ تعبئة المياه، والسير مسافات طويلة لشراء طلبات من السوق، ثم العودة إلى زوجته وأطفاله في الخيمة التي يعيشون فيها منذ نزحوا إلى المواصي، قرب رفح، وإشعال النار لطهي الطعام القليل، وبعدها المساعدة في غسل الملابس. أخيرًا نام، حتى أنه لم يشعر بدخول اللص إلى الخيمة.

"كنا نايمين ومسكرين باب الخيمة، صحينا الصبح لقيت تليفوني وتليفون مَرتي مسروقين، والحرامي مسكِّرهم، طيب كيف دخل وكيف طلع وكيف ما حدا صحي عليه؟ مش عارفين"، يقول الشاب البالغ من العمر 36 عامًا لـ المنصة، مستغربًا من الجرأة "مش عارف من وين إجت للحرامي، وكيف ما اهتم لوجود نساء وأطفال بالمكان".

أصبحت السرقة أمرًا معتادًا في قطاع غزة في ظل الفوضى الناجمة عن تهجير سكان القطاع وحشرهم في نحو 20% من مساحته البالغة 365 كيلومترًا مربعًا، والانفلات الأمني إثر تراجع السيطرة الأمنية لحماس.

فمنذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى نهاية مايو/أيار الماضي، وثَّق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة مقتل 754 شرطيًّا فلسطينيًا في استهدافات إسرائيلية. ويأتي ذلك في سياق الهدف الإسرائيلي المعلن للحرب الحالية، بتفكيك حركة حماس ونزع سلاحها وضمان عدم قدرتها على لعب أي دور في غزة.

بدائل خطرة

مظاهر فوضى توزيع المساعدات في غزة

حَالَ الفراغُ الأمنيُّ دون أن يجد سامر جهةً يقدم لها شكوى؛ فلم تعد هناك مراكز للشرطة تلاحق اللصوص والخارجين عن القانون. يضطر للسهر بينما زوجتُه وأطفالُه نيامٌ ليمنحهم الطمأنينة، في ظل "المستوى غير مسبوق من التحلل التدريجي للمنظومة الأمنية التي كانت تفرضها حركة حماس منذ سيطرتها على حكم القطاع في 2007"، وفق وصف الباحث الفلسطيني في الشؤون الأمنية والسياسية الدكتور إسلام عطا الله للمشهد الحالي في غزة.

يوضح عطا الله لـ المنصة أنه مع سيطرة جيش الاحتلال على أكثر من 80% من القطاع، فقدت حماس قدرتها على التحكم الأمني، سواء عبر أجهزتها الرسمية أو عبر شبكاتها العسكرية.

ويضيف "كما أن عمليات الاغتيال الممنهجة لعناصر جهاز الأمن والشرطة وكتائب القسام، بما في ذلك القيادات الوسيطة والميدانية، أدت إلى تفكك الروابط التنظيمية التي كانت تفرض السيطرة في المدن والأحياء والمناطق داخل القطاع".

الفراغ الأمني الذي سعى له الاحتلال لم ينحصر في حوادث السرقة، بل تُرجم إلى انتشار السلاح في أيدي بعض العائلات والمجموعات المحلية التي بدأت تتحرك بمعزل عن سلطة حماس المركزية، لا سيما في المناطق التي انسحب منها الاحتلال مؤقتًا، أو تلك التي فقدت الحركة قدرتها على إعادة الانتشار بها.

في شرق، رفح جنوب القطاع، تشكل ما سُمي بـ القوات الشعبية، وهي مجموعة مسلحة يقودها ياسر أبو شباب، تورطت منذ العام الماضي في سرقة المساعدات الشحيحة التي تدخل القطاع عبر هجمات تقع تحت أعين الاحتلال. كما شارك أحد قاداتها قبل عام 2017 في عمليات نفذها تنظيم ولاية سيناء ضد الجيش المصري.

وفي مناطق أخرى مختلفة من القطاع، تكوّنت مجموعات مسلحة من عائلات غزّاوية. يوضح عطا الله أنها حتى الآن لا تتبع أي تنظيم سياسي أو عسكري واضح، وإنما تحركها دوافع الحماية الذاتية أو الرد على خصومات محلية، أو حتى السعي لتثبيت نفوذ مناطقي "وهو ما يشير لتحول أمني أكثر خطورة إذا استمر الفراغ، أو إذا دخلت هذه المجموعات في صراعات جانبية".

قبل شهور، وتحديدًا في يناير/كانون الثاني الماضي وقت سريان الهدنة الثانية بين المقاومة وإسرائيل وانسحاب جيش الاحتلال إلى المناطق الحدودية، عملت حماس على إعادة نشر أجهزتها الشُّرطية والأمنية في مختلف مناطق القطاع.

في تلك الفترة، شرعت الشرطة في مواجهة اللصوص ومحتكري البضائع، وبالأخص عصابات سرقة شاحنات المساعدات الإنسانية التي يتبع بعضها المجموعات المسلحة للعائلات. ولكن هذا لم يدم أكثر من 42 يومًا، فقد خرقت إسرائيل الهدنة وعادت الفوضى وترسَّخ الانفلات.

حالة من الفوضى بإنتشار الباعة والمتجولون يشهدها مفترق السرايا وسط مدينة غزة نتيجة غياب شرطة المرور التابعة لحركة حماس، الأحد 20 يوليو 2025

ناخد حقنا بإيدينا

في مايو الماضي، هاجمت مجموعةٌ مسلحةٌ ملثمةٌ واحدًا من شباب بلدة الزوايدة وسط القطاع، وبعدما أطلقوا النار على نصف جسده العلوي نقله أقاربه في سيارة مدنية إلى مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، لكنه فارق الحياة. أطلق أقاربه الرصاص في الهواء غضبًا، وصرخ أحدهم متوعدًا بالقصاص ليس فقط ممن قتل، بل ممن ساعده.

المنصة التقت أحد أقارب المتوفى، الذي تحدّث إلينا شريطة عدم نشر اسمه، مؤكدًا أنّ العائلة توصلت مبدئيًا إلى أن القاتل ضمن أفراد شرطة وزارة الداخلية التي تديرها حماس، حسب قوله، "قبل هيك هو نفس الشخص تعرض للمغدور وهدده بالقتل، وحاليًا احنا بندور عليه، لنحاسبه إذا ثبت أنه القاتل بالفعل".

يبرر قريب المتوفى بحث العائلة بشكل منفرد عن القاتل للقصاص منه بغياب المؤسسات التي يمكنها تلقي الشكاوى ومباشرة التحقيقات ومحاسبة الجناة، وذلك جرّاء استهداف مقراتهم وعناصرهم. وأضاف "هاي مش أول حادثة قتل تصير في غزة ولا آخر. وإذا ما أخدنا حقنا بإيدنا بكره حقنا بيضيع".

في واقعة أخرى، تعرضت شابةٌ عمرها 29 عامًا للسرقة خلال نزوحها مع عائلتها في مخزن وسط قطاع غزة. "اضطرينا نستأجر حاصل/مخزن صغير مع العيلة. صحينا بيوم الصبح، لقينا مفقود جهاز لابتوب و3 موبايلات، كان فيه حرامي دخل علينا بالليل واحنا نايمين"، تسرد لـ المنصة ما حدث طالبة عدم نشر اسمها.

بعد اكتشاف السرقة، لم تفكر العائلة كثيرًا فيما فقدوه، بل في دخول شخص غريب إلى مكان نومهم "أنا مش قادرة أستوعب إنه فيه شخص غريب كان بمشي بيننا واحنا نايمين، كيف يعني؟ كان بتفرج علينا؟ لمسنا؟ مش عارفة بس فيه كتير أفكار خوفتني. إيش كان ممكن يعمل أكتر من السرقة؟ وكيف إجته الجرأة يدخل مكان نايم فيه 8 أشخاص بينهم بابا واخواني اثنين؟".

بعدها استأجرت عائلة الشابة الفلسطينية شقة سكنية "لكن كتير بالليل بصحى من النوم مفزوعة على كوابيس، أوقات بسبب الحرب والقصف وأوقات بسبب خوفي من السرقة، خاصة ما فيه أي أمن في الشوارع أو المنطقة، وما فيه أي جهة حكومية أو قانونية بتحاسب مرتكبي الجرائم".

فوضى يصنعها الدمار

ناجون من مجزرة إسرائيلية قرب مركز توزيع مساعدات في منطقة زكيم، 20 يوليو 2025

مع عودة الحرب على القطاع في 18 مارس/آذار الماضي، تعمدّت إسرائيل زيادة وتيرة اغتيالات قيادات وعناصر الشرطة في حكومة حماس لتعميق الفراغ الأمني ونشر الفوضى وتغييب السُلطة، حسبما يرى الخبير السياسي والحقوقي الفلسطيني مصطفى إبراهيم.

وخلال حديثه إلى المنصة، يشير إبراهيم إلى تراجع قدرة حماس على القيام بمهام الأمن الشُّرَطية وتراخي قبضتها الأمنية على مستوى التنظيم والانتشار، وهو ما يبدو واضحًا من غياب أجهزتها وأفرادها في المناطق المأهولة بالسكان، التي لا تتجاوز 20% من مساحة القطاع.

وبينما يتفق الباحث إسلام عطا الله مع ذلك؛ فإنه يرى أن الضربة القاصمة التي تعرضت لها حماس كجسم أمني موحد لا تعني بالضرورة اختفاء التنظيم أو تفككه. لكنه يحذر من الآثار الاجتماعية المترتبة، "لم يعد غالبية السكان يعرفون مَن الذي يحكمهم، ومَن يفرض النظام، ومَن يحمي الممتلكات العامة والخاصة".

اللجوء لـ"السهم الثاقب" 

خلال الأسابيع الأخيرة، ظهرت مجموعة مسلحة في مناطق لا يحتلها الجيش الإسرائيلي وسط وغرب القطاع؛ أغلب عناصرها في العشرينيات، ملثمون يرتدون الأسود ويحملون السلاح والعصي، ويُسمّون أنفسهم السهم الثاقب.

تقول هذه المجموعة إنها تابعة لغرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، التي تضم 12 فصيلًا أبرزهم كتائب القسام، وسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكتائب المقاومة الوطنية التابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. 

استحسن غالبية السكان المفتقدين لأمانهم الشخصي دور المجموعات المسلحة

حذّرت "السهم الثاقب" اللصوص وقطاع الطرق ومحتكري المواد الغذائية الأساسية، وحتى من يبيعون السيولة النقدية للمواطنين بنسبة فائدة مرتفعة تصل إلى 50%. وبعد التحذير أتت المحاسبة، حيث نشروا عبر تليجرام عشرات الفيديوهات يظهر فيها مسلحون يعتدون بالعصي أو بالرصاص على مَن وصفوهم باللصوص والمحتكرين وعملاء إسرائيل. بعضهم قُتلوا وآخرون أصيبوا بكسور أو بترت أقدامهم بعد إطلاق الرصاص عليها.

لم تُصدر حماس أو أجهزتها الأمنية أو الإعلامية أي بيانات بشأن المجموعة التي تصدر الأحكام وتنفذها دون مرجعية قضائية مدنية. ولكن السكان المفتقدين لأمنهم استحسنوا عملها، حيث تحدثت المنصة مع ستة مواطنين من مناطق مختلفة، اتفقوا على أنه لا حلَ آخرَ في ظل الحرب والاغتيالات والسرقات والقتل.

يتحفظ مصطفى إبراهيم على عمل المجموعة "كانت هناك مشاهد قتل بحقِّ لصوصٍ، وهو شكل غير قانوني لمحاسبتهم، ويمثل اعتداءً على سيادة القانون، لكن للأسف كثير من المواطنين يؤيدون ذلك لأنهم يريدون سلطة تحميهم".

"غزة دخلت مرحلة انتقالية، عنوانها الأبرز انهيار النموذج السابق وغياب البديل الواضح، ما يضع كافة أطياف المجتمع أمام مشهد مفتوح على احتمالات تتراوح بين عودة تدريجية للنظام والانضباط، أو انزلاق تدريجي نحو فوضى السلاح والصراعات الداخلية"، وفق الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية إسلام عطا الله.

بلا شك، سيكون الملف الأمني أحد أهم التحديات أمام حركة حماس إذا تم التوصل إلى هدنة قريبة مع الاحتلال الإسرائيلي. لكنْ إذا لم يكن بالمقدور مواجهة حالة التشرذم وانعدام السيطرة المركزية، فقد تتحول الهدنة لفوضى داخلية، تغذيها الأزمات الإنسانية وتصفية الحسابات وصراع الجماعات والعائلات على النفوذ.