أربع أشهر من السجالات السياسية البريطانية المكثفة بين معسكري بقاء بريطانيا ضمن صفوف البيت الأوروبي أو مغادرته، انتهت رسميًا في صباح الجمعة 24 يونيو/حزيران بإعلان النتيجة النهائية للاستفتاء البريطاني الذي عُقد في السابعة بتوقيت جرينتش من صباح الخميس 23 يونيو في قرابة 382 دائرة انتخابية في المملكة المتحدة. أظهرت النتائج النهائية فوز معسكر المغادرة بما نسبته 51,9 % من مجمل أصوات الناخبين، ليبدأ فصل جديد من فصول تاريخ المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وعلاقاتهما البينية، نحاول في السطور التالية رصد أبرز ملامحه.
من يتحمل مسؤولية الكارثة؟
ديفيد كاميرون.. لم يكفه الامتياز الذي تحصّل عليه في 2012 بإعفاء بريطانيا من الاتفاق المالي الأوروبي، بعد اعتراضها علي البند الثالث، الذي يتيح للمحكمة الأوروبية صلاحية مراقبة الموازنات المحلية، وفرض عقوبات بمقدار 0,1% من الناتج المحلي، علي كل دولة ترفض تطبيق قواعد الميزانية المتوازنة.
لم يكفه الوضع المتميز الذي تتمتع به بريطانيا أصلًا داخل الاتحاد بموجب 4 استثناءات من قوانين الاتحاد وهي ميثاق الحقوق الأساسية، السياسة النقدية والاقتصادية بموجب بروتوكول 25 من اتفاقية ماسترخت، الحرية والأمن والعدالة بموجب بروتوكول 36 من معاهدة لشبونة، والأهم استثناء من بند حرية تنقل الأشخاص في منطقة الشنجن بموجب بروتوكول 19 من معاهدة لشبونة.
لم يكفه كل ما سبق، فلجأ لاستخدام كارت العضوية لحسم صراع انتخابي. وعد كاميرون الناخبين في 2013 بإجراء استفتاء على بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي حال فوز حزبه في انتخابات 2015. الحزب فاز بالفعل وبعد 7 أشهر -تحديدًا نوفمبر/تشرين الثاني 2015- بدأت مراسلات كاميرون مع رئيس المجلس الأوروبي للتوصل لتسوية بين لندن وبروكسل، تقنع البريطانين بالبقاء.
انصاعت بروكسل في 19 فبراير/شباط 2016 لمطالب لندن الأربعة: اليورو ليس العملة الوحيدة للاتحاد، بريطانيا غير ملزمة باندماج سياسي أوروبي أبعد مما يتيحه الوضع القائم، تقييد حصول المهاجرين من دول الاتحاد على إعانات اجتماعية خلال الـ4 سنوات الأولي من إقامتهم، والأهم منح البرلمانات الوطنية مزيدًا من السلطة في الاعتراض على تشريعات بروكسل، لو رفض 55% من أعضاء البرلمانات الوطنية إقرار التشريع.
رغم حصول كاميرون على تسويات تضاعف وضع بريطانيا، إلا أن الوقت لم يكن في صالحه؛ 3 سنوات من الدعاية السلبية البريطانية ضد الاتحاد بقيادة بوريس جونسون ونايجل فاراج، كانت كفيلة بالسيطرة على عقول قطاع واسع من الناخبين، خصوصًا في ملف هجرة 300 ألف شرق أوروبي إلى بريطانيا بعد عملية توسيع الاتحاد بضم 10 دول في الفترة من 2004-2007. لدرجة لم تعد تفلح معها استراتيجية التخويف التي اتبعتها حكومة كاميرون، ولا عشرات التقارير الحكومية المحذرة من كارثة الانفصال، ولا تهديد وزير الخزانة جورج أوزبورن للناخبين، ولا مناشدات زعماء أوروبا، ولا استعطاف أوباما وهو يُذكّر البريطانيين بأن عشرات الألوف من الأمريكيين دفعوا حياتهم لرؤية أوروبا بصورتها الحالية.
كاميرون بالتعبير الدارج "حضّر الوَحْشْ ومعرفش يصرفه" وبريطانيا وأوروبا سيدفعان جراء مقامرته غير المحسوبة الثمن قاسيًا.
لندن..تداعيات مالية قاسية ونماذج بديلة مُكلفة
المؤكد أن بريطانيا ستفقد نهائيًا كل امتيازات العضوية الكاملة في حرية دخول البضائع والسلع والخدمات بدون تعريفة جمركية لأكبر سوق في العالم، السوق الأوروبية الموحدة، التي تضم 500 مليون شخص، بحجم ناتج إجمالي يصل إلي 18 تريليون يورو، وستفقد بالتبعية كل اتفاقات التبادل التجاري مع 53 دولة كانت ترتبط باتفاقات تجارة مع الاتحاد الأوروبي، بما فيها كندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والمكسيك، وستكون مضطرة للتفاوض الثنائي مع كل دولة لتحصيل نفس الامتيازات.
وزارة الخزانة البريطانية أصدرت في ابريل/نيسان تحليلًا متشائمًا عن مستقبل الاقتصاد البريطاني حال مغادرة الاتحاد. بموجب التقرير المكون من 201 صفحة، ستقل حصيلة الضرائب 36 مليار سترليني، وسينخفض الناتج القومي الإجمالي بنسبة 6,6% بحلول سنة 2030، في حين لو احتفطت بريطانيا بعضويتها الكاملة في الاتحاد، لارتفع الناتج القومي بنسبة تتراوح ما بين 3,4%-4,4% خلال نفس الفترة. أضف إلي ما سبق مكانة لندن كأبرز سوق مالي أوروبي التي ستتراجع لصالح فرانكفورت ولكسمبورج، اللتان قد تصبحان قبلة الصناديق السيادية بدلًا من لندن.
صحيح أن المملكة المتحدة ستتفاوض مع الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى صيغة شراكة اقتصادية، تستطيع من خلالها تعويض جزء من امتيازاتها المفقودة. لندن مجبرة على التفاوض مع بروكسل بموجب المادة 50 من معاهدة لشبونة، لمدة لن تقل عن عامين لفك الارتباط الاقتصادي، والتشريعي (65% من القوانين البريطانية مصدرها بروكسل ما بين 59% Regulations "قوانين" و6% Directives "توجيهات") وتوفيق أوضاع 1,7 مليون بريطاني يعيشون داخل مناطق الشنجن.
ستُبلغ لندن أولًا المجلس الأوروبي برغبتها في الانسحاب، ثم تُسمي المفوضية الأوروبية مفاوضًا عنها على طاولة المفاوضات مع بريطانيا، وكخطوة ثالثة سيتوصل الطرفان لتسوية نهائية بخصوص انسحاب بريطانيا، قبل أن يخضع اتفاق التسوية النهائية لتصويت أوروبي، يُشترط فيه أن يحصل على موافقة الأغلبية البسيطة من البرلمان الأوروبي، ثم أغلبية 72% من المجلس الأوروبي. ثم تبدأ مفاوضات بخصوص وضع بريطانيا القادم بالنسبة للاتحاد.
بعد الانفصال.. التجربة النرويجية أم السويسرية؟
معسكر خروج بريطانيا روج خلال الشهور الأربع الماضية أن بريطانيا يمكنها الاختيار بين نموذجين للشراكة مع الاتحاد بديلًا عن العضوية؛ إما نموذج المنطقة الاقتصادية EEC على غرار النرويج، أو نموذج الاتفاقات الثنائية Bilateral Accords على غرار سويسرا.
النرويج عضو في اتحاد التجارة الأوروبية EFTA الذي تأسس سنة 1960، وضم 10 دول بريطانيا، النمسا، النرويج، السويد، الدانمارك، البرتغال، سويسرا، فنلندا، أيسلندا، ليشتنيشتاين. في منتصف السبعينيات بدأ الانسحاب التدريجي لبعض الأعضاء مقابل الانضمام للتجمع الاقتصادي الأوروبي EEC (نواة الاتحاد في صيغته الحالية) بداية من بريطانيا والدانمارك سنة 73، مرورًا بالبرتغال سنة 86 وانتهاء بفنلندا والنمسا والسويد سنة 95. تبقى فقط 4 دول في اتحاد التجارة. 3 دول دخلت المنطقة الاقتصادية الأوروبية EEA، وسويسرا فضلت صياغة اتفاقية ثنائية بمعزل عن شركائها في اتحاد التجارة. من هنا ظهر نموذجان متمايزان النموذج النرويجي والنموذج السويسري.
النموذج النرويجي EEA-Agreement يضمن للدولة الاسكندنافية مساحة مناورة كبيرة. لها الحق في دخول السوق الأوروبي الموحدة، ومعفية من الالتزام بسياسات بروكسل في 5 مجالات: السياسة الخارجية، الإقليمية، الصيد، الزراعة، والتجارة الخارجية. لكن في المقابل عليها التزامات.. ما يُعرف ب 4 Freedoms حرية تنقل (الأشخاص، السلع، رؤوس الأموال، الخدمات)..إضافة لـ Flanking Policies وهي 17 بندًا أهمها البحث والتعليم، البيئة، التعاون الثقافي، وحماية المستهلك.
وبرغم من ترويج مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للنموذج النرويجي كبديل للعضوية الكاملة إلا أن هذا البديل لن يحل مشاكل لندن مع بروكسل.
بإلقاء نظرة على مصدر التشريعات البريطانية سنجد الآتي: 35% منها تشريعات محلية و65% قادمة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي التشريعية البرلمان ومجلس الاتحاد، موزعة بين Regulations 59% وهي حزمة تشريعات موحدة تطبق علي كل أعضاء الاتحاد، و Dierctives 6% وهي عبارة عن حزمة تشريعات يقرها الاتحاد، لكن تُترك للبرلمانات الوطنية مساحة حركة في كيفية تطبيقها. على سبيل المثال قانون عدد ساعات العمل؛ تقرر فيه بروكسل حدًا أدني وحدًا أقصي ولكل دولة الحق في اختيار عدد الساعات الملائم لها بين الحدين، وآلية تطبيقه.
المركز البحثي Open Europe أصدر من سنة ورقة بحثية تُستخدم بقوة من معسكر مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مفادها أن 100 من التشريعات الأوروبية تكلف الاقتصاد البريطاني سنويًا 33,3 مليار جنيه استرليني..5 منها فقط تكلف بريطانيا 19,1 مليار سنويًا.
اختيار بريطانيا النموذج النرويجي بالانضمام للمنطقة الاقتصادية كبديل لن يساهم في تخفيض كلفة التشريعات الأوروبية على لندن إلا بنسبة ضئيلة بحسب نفس المركز البحثي؛ 93 من التشريعات الـ 100 الأكثر تكلفة ستظل تُطبق في المملكة المتحدة، لأنها جزء من اتفاق المنطقة الاقتصادية، بما فيها الخدمات المالية والطاقة والتغير المناخي، وتبلغ تكلفتها 31,4 مليار استرليني.
هذا يعني أنه إذا ما اختارت بريطانيا النموذج النرويجي ستكون ملزمة بحرية التنقل، والاستجابة للتشريعات الأوروبية دون أن يكون لها تمثيل في مؤسسات بروكسل سواء قاض في المحكمة أو ممثل في المفوضية، أو حق الفيتو في المجلس الأوروبي. في مقابل مكسب باهت بتخفيض كلفة القوانين الأوروبية بمقدار 1,9 من أصل 33,3 مليار استرليني، فقط 5,3% من التكلفة الإجمالية. كما أنها ستساهم أيضًا في الميزانية الأوروبية. ساهمت النرويج في 2015 بمبلغ 623 مليون جنيه إسترليني، أي أن كل مواطن تحمل 119 جنيه بحسب تقديرات موقع INFACTS في حين أن بريطانيا، وهي تتمتع بعضوية كاملة، ساهمت ب 12 مليار جنيه إسترليني، أي أن كل مواطن تحمل 96 جنيه لا غير!
وزارة الخزانة في تقريرها رسمت أيضًا سيناريو أسود حال اختيار النموذج النرويجي الذي يعني تقلص نصيب الفرد من الناتج القومي سنويًا بما قيمته 1100 يورو، وتراجع عائدات الضرائب بقيمة 20 مليار يورو.. أما النموذج السويسري فهو يعني تقلص نصيب الفرد من الناتج القومي سنويًا بما قيمته 1800 يورو، بينما تقل عائدات الضرائب بمقدار 36 مليار يورو، فضلًا عن أنه لا يصلح لبريطانيا لسبب حاسم وهو أنه يتضمن قيود علي دخول السلع السويسرية للسوق الموحدة، وقيود أكبر علي الخدمات خصوصًا البنكية غير المتضمنة في الاتفاقات الثنائية، في حين أن القطاع الخدمي يشكل 80% من الاقتصاد البريطاني.
وبما أنه يستحيل على المملكة المتحدة -اقتصاديًا وسياسيًا- قبول النموذجين السويسري والنرويجي، ستصبح مضطرة للتفاوض علي شروط موديل خاص بها مستغلة وضعها كخامس أكبر اقتصاد عالمي. وفي تلك الحالة ستبذل بروكسل كل جهد ممكن لضمان معاناة بريطانيا اقتصاديًا. لأن أية تسوية سهلة ستحمل في ثناياها رسالة سلبية مفادها أن باب المغادرة مفتوح وكذا التحلل من كل الأعباء السياسية تجاه المشروع الأوروبي، وفي نفس الوقت الاستفادة من مزايا السوق الأوروبية الموحدة، وهذا يعني رسالة كارثية لن تسمح بروكسل بتمريرها تحت أي اعتبار.
ألمانيا.. أكبر الخاسرين
قام المشروع الأوروبي بالأساس على أكتاف المحور الألماني-الفرنسي، ثم انضمت بريطانيا عام 1973 بعد حصولها علي الضوء الأخضر من الرئيس الفرنسي جورج بامبيدو، بعد سنوات من ممانعة شديدة من سلفه ديجول.
نظريًا تسود درجة كبيرة من التوافق بين الألمان والفرنسيين فيما يتعلق بمستقبل الاتحاد. ولايات متحدة أوروبية، بسوق اقتصادي موحد، ومركز قوة سياسي في بروكسل، وطموح لتشكيل قوة عسكرية مشتركة، تخفف تدريجيًا من اعتماد الأمن الأوروبي علي المظلة الأميركية. رؤية تختلف كلية عن تلك المطروحة بريطانيًا للاتحاد، و التي ترفض الوحدة النقدية، والفيدرالية الأوروبية، وما يتبعها من اضمحلال سلطة البرلمانات الوطنية، وتفضل تعاون أمني مع الضفة الأخري من الأطلسي على حساب استراتيجية عسكرية أوروبية موحدة.
رغم التوافق على الغايات النهائية إلا أن محور برلين-باريس يعج بالمصالح المتناقضة. تاريخيًا برلين هي صاحبة الإرادة الكبري لتوسيع الاتحاد، بداية من مشروع المستشار براندت في السبعينات للتوجه شرقًا Ostpolitik، مرورًا بسعيها الحثيث لدمج كتل أوروبا الشرقية بعد انهيار الجدار.
توجه برلين مدفوع بإدراكها أن تطوير نفوذها أوروبيًا من قوة اقتصادية تمتطيها قوة عسكرية وسياسية، لتحقيق زعامة أوروبية تعوضها تبعات انهيار مركزها كقوة عالمية بعد الحرب إلى قوة سياسية مكافئة لباريس، أمر مرتبط بتوسيع الرقعة الجغرافية للاتحاد في شرق ووسط أوروبا، وهو ماكانت تخشاه باريس منذ مطلع السبعينات. عارضت السياسة الشرقية لبراندت وتحفظت طويلًا على ضم البرتغال واليونان وأسبانيا للتجمع الأوروبي، وكانت شديدة التردد في قبول واقع ما بعد الحرب الباردة بضم دول الكتلة الشرقية لتطويق المجال الحيوي للوريث الجديد للاتحاد السوفيتي.
في كل مراحل الاندفاع الألماني مقابل التردد الفرنسي، كانت برلين تدير المحور بميزان شديد الحساسية، ينفي هواجس سائدة بأن الاتحاد هو مشروعها للسيطرة علي أوروبا، من بوابة مغايرة لتلك التي اتبعتها تاريخيًا من بسمارك إلى النازي. مثلًا بعد إعادة توحيد ألمانيا توجهت برلين بقوة إلى تطوير علاقاتها مع وارسو، كمنصة انطلاق ألمانية نحو شرق أوروبا. تاريخيًا كانت العلاقة بين الطرفين مشوبة بشكوك كبيرة حتى بعد الحرب. قدمت ألمانيا على فترات ضمانات معنوية لبولندا، منها اللقطة الشهيرة بركوع مستشارها براندت في وارسو أمام نصب تذكاري لضحايا المجازر النازية، وبعد الحرب الباردة قدمت ضمانات مادية أكبر، كوجود بولندا طرفا في اتفاقية 4+2 التي أعيد بموجبها توحيد ألمانيا، وترسيم الحدود لأول مرة برعاية أميركية.
في اندفاعها الشرق أوروبي حرصت برلين رغم ذلك علي طمأنة هواجس فرنسا، أكثر من ذلك استدعتها لتكون طرفا ثالثا في المحور الألماني-البولندي الذي تأسس سنة 1991 في فايمار الألمانية برعاية وزير الخارجية جنشر ونظيره البولندي سكوبستفيسكي، ومن وقتها ظهر أوروبيًا ما يُعرف بمثلث فايمار Weimarer Dreieck.
الضبط الألماني لميزان القوة مع فرنسا، على أهميته، ليس كاف بمفرده لتمرير مشروع بالتوسيع. بريطانيا تنحاز دائمًا لألمانيا، لأن توسيع الاتحاد متوافق مع الطموح البريطاني بعدم تحول الاتحاد لفيدرالية بمشروع سياسي موحد. التوسيع من شأنه تحويل الاتحاد لمجرد سوق داخلي كبير، تصعب فيه فرض إرادة فوق قومية من بروكسل على دول البلقان وشرق أوروبا ذات العنفوان القومي، وهو ما اتضح بشدة في أزمة اللاجئين، إذ أن الانقلاب على سياسة الحدود المفتوحة لميركل بدأ من مجموعة فيزجراد بقيادة المجر وتأكد بمؤتمر غرب البلقان في فيينا.
هنا الانحياز البريطاني لبرلين هو لمد الحدود الجغرافية للاتحاد شديد الحيوية، لأنه حتى المرة الوحيدة التي تغيرت فيها قناعات النخبة السياسية الفرنسية من التردد لصالح الاندفاع بتوسيع الاتحاد في 2004 بضم 10 دول جديدة وتأسيس دستور أوروبي، كان الرأي العام الفرنسي أكثر ترددًا في قبول التوسيع وخذل برلين في المعركة الثانية برفضه التصويت لصالح دستور موحد في استفتاء 29 مايو/آيار 2005. أضف إلى ما سبق دور القيم الاقتصادية المشتركة بين لندن وبرلين، من وجوب ضبط الإنفاق الحكومي وعجز الموازنة، في إعطاء برلين أيضًا مساحة حركة أكبر لتمرير مشروع التقشف القاسي على جنوب أوروبا، المتشكك بإفراط في نوايا برلين، والطامح باضطراد لدور فرنسي أكبر في ترسيم السياسة الاقتصادية للاتحاد.
فقدان بريطانيا -على ما سبق- خسارة محققة لألمانيا في سعيها لميزان قوة متكافيء مع باريس.
بروكسل: دلالات الانفصال
الفكرة الأوروبية فقدت جاذبيتها: لا يوجد رضاء سياسي أوروبي -خارج المحور الألماني-الفرنسي-بمركزية بروكسل كعاصمة للقرار السياسي والتشريعي، ولا بأوضاع الاتحاد المؤسسية التي ترهن القرار كاملًا في يد بيروقراطيي المفوضية غير المنتخبين، مقابل مرتبات مكونة من 6 أرقام. لا يوجد رضاء شعبي عند قطاعات واسعة. المؤشر الأول الذي لم يستوعبه قادة الاتحاد كان نتائج الانتخابات الرئاسية النمساوية بتصويت 49,7% لصالح نوربرت هوفر مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف المعادي للمشروع الأوروبي، ثم جاءت نتائج الاستفتاء البريطاني لتؤكد فقدان الفكرة الأوروبية بأحلام الفيدرالية والجيش الموحد جاذبيتها.
الاتحاد الأوروبي مشروع سياسي بالغ الهشاشة في مواجهة الأزمات: مليون لاجيء كلفوا القارة انقسام غير مسبوق، وحدود مغلقة، وتكتلات في مواجهة أخرى، وصعود غير مسبوق لليمين المتطرف وعجز عن تنسيق آلية مواجهة مشتركة، وجاءت أزمة الاستفتاء البريطاني لتؤكد هشاشته. لا تحكم في مسار الأزمة، انصياع كامل لشروط بريطانيا رغم عدم إيمانها من الأساس بمشروع الوحدة السياسية، وفي الأخير ضربة قاسية بمغادرتها دون وجود خطة استباقية للتعامل مع العواقب.
انتشار العدوي: دول كثيرة ستقلد النموذج البريطاني في الاستقواء بالناخب المحلي في مقابل سلطة بروكسل. أولها دول وسط وشرق أوروبا المتضررة من الإملاءات الأوروبية بخصوص أزمة اللاجئين، ودول جنوب أوروبا المتحفظة على سياسات التقشف. ديكتاتور المجر أوربان-كما وصفه جان كلود يونكر رئيس المفوضية أمام عدسات الإعلام- رفض خطة بروكسل سبتمبر/أيلول 2015 بقبول حصص في خطة توزيع 160 ألف لاجيء. المحكمة الدستورية أقرت له بالفعل في مايو الماضي حق إجراء استفتاء علي التزام بودابست بتوجهات بروكسل فيما يختص بقضية اللاجئين بعد أن دعت بريطانيا لاستفتائها. ربما هي مسألة وقت قبل أن نشاهد المجر تلوي هي الأخرى ذراع الاتحاد. نموذج مرشح بشدة للتكرار في دول أخرى من النمسا للسويد للدنمارك.
مصير عضوية تركيا: بريطانيا كانت واحدة من الدول القليلة التي تدعم عضوية كاملة لتركيا، عكس ألمانيا وفرنسا. ورغم ذلك، في وقت الجد استُحضر الملف التركي قسرًا في السجال بين معسكري بقاء وخروج بريطانيا. خوف الناخبين من عضوية تركية محتملة بعد إشاعات تفنن معسكر الخروج في نشرها عن محادثات عضوية بين بروكسل وأنقرة في 30 يونيو، كان واحد من العوامل التي دفعتهم للتصويت لصالح مغادرة الاتحاد.
الاستفتاء البريطاني أظهر أن الاقتراب أكثر من اللازم من ملف العضوية التركية قد يحرق ساسة الاتحاد شعبيًا. وهنا أوروبا أمام سؤال التضيحة بالدور التركي في حماية الحدود الخارجية مقابل عدم تأليب الشارع وتقوية المعسكرات الهوياتية؟ أم المماطلة المعتادة مقابل احتمالية اللعب على وتر العضوية التركية للسحب من أرصدة أحزاب يمين ويسار الوسط المؤمنة بالتكامل الأوروبي؟
خطوة للوراء: في تصريح لمجلة دير شبيجل قبل أيام قال دونالد توسك: "بغض النظر عن النتائج، سيكون من الغباء تجاهل إشارات التحذير التي أرسلها لنا الاستفتاء البريطاني". إشارات التحذير باتت مضاعفة بعد خروج بريطانيا. لأول مرة سيكون الاتحاد مجبرًا بداية من قمة بروكسل المقبلة في 28-29 يونيو/حزيران على إعادة تعريف هويته. التقليل بشكل صارم من كل خططه التوسعية تجاه اندماج سياسي كامل، والاكتفاء حتى وقت طويل بما تم إنجازه، وإتاحة سلطة أكبر للبرلمانات الوطنية لاستيعاب نمو المد القومي والحركات الانعزالية، مع تحمل مخاطرة التحول لمجرد سوق اقتصادي موحد دون مشروع تكامل سياسي.
تجاهل كل إشارات التحذير والتردد في ترتيب البيت المتهالك من الداخل لن يعني سوي بداية النهاية لمشروع أوروبي بدأ أصلًا في التداعي.
24 يونيو يوم تغير فيه وجه بريطانيا والاتحاد الأوروبي مرة واحدة وللأبد. بريطانيا فقدت جزءًا من مكانتها العالمية وأدوات تأثيرها خارج نطاق حيزها الجغرافي وربما تجد نفسها مضطرة لقبول تقزم جديد بعد إعلان رئيسة وزراء أسكتلندا أن بلدها تفضل أن تكون جزءًا من الاتحاد الأوروبي، وإعلان حزب الشين فين دعوته لاستفتاء لتوحيد أيرلندا.
أما الاتحاد فلن يعود يومًا كما عرفناه: فقد التوازن القائم في الترويكا الأوروبية بين لندن-باريس-برلين، فقد قوة نووية صاحبة مقعد دائم في مجلس الأمن، وتحول إلي قطب في (أوروبا جديدة متعددة الأقطاب) كيان بقوة نووية واحدة، تحيط به قوتين نوويتين عند الأطراف بريطانيا العضو السابق، وروسيا الخصم اللدود، إضافة لفقدانه امتدادًا استراتيجيًا عبر الأطلسي بفقدان دور بريطانيا المحوري في الربط بين بروكسل وواشنطن.
كلاهما خصم من مكانة الآخر عالميًا بشكل يصعب بشدة تدارك آثاره السلبية!
المصادر:
1- A French view on European Enlargement and Neighbourhood Policy, Gesa-Stefanie Brincker, Institut für europäische Politik, Brussels, 4/5 November 2009.
2- A EU without the UK: The Geopolitics of a British Exit from the EU. A European Union without the United Kingdom, Tim Oliver,SWP,Feb 2016.
3- HM Treasury analysis: the long-term economic impact of EU membership and the alternatives, April 2016.
4- Norway and the EU - partners for Europe, Norwegian Ministry of Foreign Affairs