في السابع والعشرين من نوفمبر عام 1967، وداخل قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسي شارل ديجول أمام نحو ألف شخص من الدبلوماسيين وكبار رجال الدولة الفرنسية: إن بريطانيا تملك "كراهية متجذرة" للكيانات الأوروبية. وحذّر من أن فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدي إلى تحطيمه.
قصة انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة؛ كانت بنفس قدر درامية سيناريوهات خروجها المطروح من الاتحاد الأوروبي.
ففي عام 1961 تقدمت بريطانيا بطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة، وبعد ذلك بعامين رفض ديجول الموافقة على دخول بريطانيا. حاولت بريطانيا مرة أخرى وأعلن ديجول رفضه لانضمام بريطانيا في عام 1967 بالرغم من موافقة الدول الأخرى المنضمة للسوق.
لم تستطع بريطانيا الانضمام للاتحاد إلا بعد أن ترك ديجول الحكم عام 1969، لتصبح عام 1973 دولة كاملة العضوية في السوق الأوروبية المشتركة، وجرى الاستفتاء الأول على عضوية بريطانيا في عام 1975.
كانت بريطانيا تطمع في الحصول على المزايا الاقتصادية التي توفرها السوق الأوروبية المشتركة لأعضائها، خصوصًا رفع الإجراءات الجمركية أمام التجارة بين أعضاء السوق. وكانت بريطانيا تدرك أيضًا، خطورة الابتعاد عن أي مشروع وحدة أوروبية، لأن هذا لن يؤدي سوى إلى المزيد من العزلة السياسية بعد أن خسرت مستعمراتها حول العالم.
ومن اللافت أن بريطانيا لم تكن عضوًا في التجارب الأولى للوحدة الأوروبية، مثل تجربة إنشاء تجمع للحديد والفحم عام 1952. كما لم توقع على اتفاقية روما عام 1957 والتي ضمت ست دول من أوروبا الغربية، وأسست لكيان اقتصادي لا يتم فيه فرض الجمارك على التجارة بين الدول الست.
تبدو مشكلة بريطانيا أنها تريد أن تكون جزءًا من أوروبا، دون أن تكون عضوًا حقيقيًا فيها. فعندما اختار أعضاء الاتحاد الأوروبي الاشتراك في نظام موحد لتأشيرات الدخول، الشنجن، رفض البريطانيون الانضمام. وعندما تبنوا اليورو كعملةٍ موحدة لهم، اختار البريطانيون الاحتفاظ بالجنيه الاسترليني، والحفاظ على سلطة بنك انجلترا المركزي في تحديد أسعار الفائدة، وعدم الخضوع لقرارات البنك المركزي الأوروبي في تحديد سعر الفائدة في منطقة اليورو.
رئيسة وزراء بريطانيا خلال الثمانينيات، مارجريت ثاتشر، لخصت علاقة بريطانيا بأوروبا من خلال قول "لا" ثلاث مرات في جلسة لمجلس العموم عام 1990. كانت ثاتشر معارضة شرسة لمنح بروكسل، حيث مقر المفوضية الأوروبية، أي سلطات مركزية أو تشكيل ما يعرف باسم "الولايات المتحدة الأوروبية".
تاريخيًا لم يكن حزب المحافظين من المؤمنين بفكرة الاندماج الكامل في أوروبا أو كياناتها السياسية مثل الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن زعيم المحافظين التاريخي وينستون تشرشل كان من الذين يؤمنون بأن حل المشاكل الأوروبية لن يكون سوى بإقامة وحدة كاملة.
في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، بدأ التململ يزداد في القاعدة الشعبية للمحافظين تجاه المهاجرين من دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد عام 2004 و2007. لمواجهة هذا التململ والضغط الشعبي، قام رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون بالتعهد بإجراء استفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في حال تم انتخاب المحافظين للحكم عام 2015.
كان كاميرون يعتقد أنه سيضطر للدخول في مشاورات لتشكيل حكومة ائتلافية وأن وعده الانتخابي سيكون أول الأشياء التي يمكن التضحية بها. كما أراد كاميرون أن يقضي على الأصوات المناوئة لأوروبا داخل حزبه من خلال نتيجة استفتاء شعبي سيحسم، وفق تصوره، الجدل حول أوروبا إلى الأبد.
فاز كاميرون بعدد كافٍ من المقاعد التي تمكنه من الحكم دون الدخول في ائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار، وخلال الشهور الماضية خاض كاميرون جولات من المفاوضات الماراثونية مع زعماء دول الاتحاد الأوروبي، من أجل الحصول على صفقة تمكنه من تسويق البقاء داخل الاتحاد للبريطانيين.
وفق رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر فإن كاميرون "حصل على أقصى ما يستطيع ونحن قدمنا أقصى ما نستطيع، وبالتالي لن يكون هناك المزيد من التفاوض ولن تكون هناك صفقة جديدة غير تلك التي اتفقنا عليها في فبراير.. الخروج سوف يعني الخروج"!
الصفقة التي حصل عليها كاميرون شملت نقاطًا عدة؛ أهمها أن لا يحصل المهاجرون الأوروبيون إلى بريطانيا على مساعدات حكومية إلا بعد أن يحصلوا على وظائف في الأراضي البريطانية، ويساهموا في النظام الضريبي للبلاد. كما تشمل الصفقة عدم مسؤولية بريطانيا على إنقاذ الاقتصادات التي تتعثر في منطقة اليورو.
خلال المناظرات التي جمعت أنصار معسكر الخروج؛ وأبرزهم عمدة لندن السابق بوريس جونسون (محافظين)، وأنصار معسكر البقاء؛ وأبرزهم عمدة لندن الحالي صديق خان (عمال)، كان من المهم ملاحظة أن كلا المعسكرين لا يعبران عن الأحزاب السياسية أو التوجهات الأيدولوجية. فعدد كبير من أبرز من طالبوا بالبقاء هم من حزب المحافظين، ومنهم بالطبع رئيس الوزراء ووزير المالية جورج أوزبورن وزعيمة المحافظين في اسكتلندا روث دافيدسون. وبالتالي أظهر الاستفتاء انقسامًا داخل المحافظين. كما أن عددًا لا بأس به من البريطانيين من أصول غير أوروبية (عرب وأسيويون من شبه القارة الهندية) أعربوا عن رغبتهم في الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى لا تقتصر الهجرة لبريطانيا على القادمين من أوروبا فقط وأن تعود لتشمل الجميع من خارج القارة الأوروبية.
وبالتالي جمع معسكر الخروج أفرادًا من تيار اليمين المحافظ الذي ينادي "بعودة بريطانيا إلى البريطانيين"، إلى جانب أفراد من البريطانيين ذوي الأصول غير الأوروبية. كما جمع أعضاءً في حزب المحافظين إلى جانب أعضاءً في حزب العمال.
لم يعد الاستفتاء إذن ذا صبغة حزبية؛ وإنما أصبح حول رؤية الأطراف المتعددة داخل المجتمع البريطاني لشكل وموقع بريطانيا على خريطة العالم خلال العقود القادمة. وبدا أن الاستفتاء يحاول أن يعيد صياغة هوية بريطانيا والبريطانيين. هل هم أوروبيون أم لا؟
استطلاعات الرأي أظهرت أن المقيمين في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية يعتبرون أنفسهم أوروبيون، وبالتالي فإنه من المحتمل أن تحاول اسكتلندا إعادة الاستفتاء على انفصالها من المملكة المتحدة، في حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك من أجل نيل الاستقلال والانضمام إلى الاتحاد. ما يعني أن المملكة المتحدة مهددة بالتفكك إذا ما قررت الخروج.
وبالرغم من الحساسية الموجودة لدى بريطانيا تجاه هيمنة ألمانيا على الاتحاد، فإن الخروج منه سوف يضر بمكانة بريطانيا السياسية في العالم، وتحديدًا لدى الولايات المتحدة التي قام رئيسها باراك أوباما بزيارة خاصة إلى بريطانيا من أجل حث البريطانيين على البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي.
فواشنطن ترى أن وجود بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي يعد مصلحةً أمريكية من أجل إبقاء التوازن، والحفاظ على التنسيق بين الولايات المتحدة والكتلة الأوروبية. وبالتالي لا يرغب الأمريكيون في أن يخسروا حليفهم الأهم داخل الاتحاد الأوروبي.
وإذا بات في حكم المؤكد أن بريطانيا سوف تتأثر سلبًا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن الأخير سوف يتأثر أيضًا بشدة. فالأحزاب اليمينية المتطرفة في أكثر من دولة أوروبية، لديها ذات الطموح الانفصالي، وتراقب عن كثب استفتاء الخروج البريطاني من أجل المطالبة به في دولها. وتكمن الخطورة في أن شعبية هذه الأحزاب في ازدياد، وهو ما يعني أن خروج بريطانيا من الاتحاد قد يشكل بداية انفراط عقده، وعودة القارة الأوروبية إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية.
ومن المتوقع أن يكون تأثير الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مروعًا على الصعيد الاقتصادي. فالاتحاد الأوروبي سوف يخسر شريكًا تجاريًا كبيرًا، واقتصادًا يعد خامس أكبر اقتصاد في العالم. أما بريطانيا فستخسر شريكها التجاري الأكبر، وسوف تفقد عملتها الكثير من قيمتها بسبب الخروج، وفق تصريحات رئيس بنك انجلترا المركزي. كما سينعكس الخروج سلبًا على حقوق العمال في بريطانيا والتي ينظم الاتحاد الأوروبي الكثير من قواعدها.
وقد يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التسريع ببدء أزمة اقتصادية عالمية جديدة بسبب الأوزان النسبية الكبيرة للطرفين في الاقتصاد العالمي. أما سياسيًا؛ فسيفقد الطرفان الكثير من مكانتهما في العالم، وهو ما سينعكس سلبًا على قدرتهما في التدخل لحل النزاعات الإقليمية، أو تحقيق توازن في القوى الدولية المؤثرة سياسيًا، أمام روسيا والصين والولايات المتحدة.
لم تواجه أوروبا تحديًا يهدد كيانها السياسي الأهم في تاريخها، مثل تحدي استفتاء مواطني المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي هذه اللحظات يتذكر الأوروبيون كلمات ديجول ويقولون: ربما كان الجنرال الفرنسي العجوز على حق!