الأسبوع الماضي، لجأت الشرطة المحلية في مدينة لوس أنجلوس على الساحل الغربي الأمريكي في ولاية كاليفورنيا إلى وسيلة نعرفها جيدًا للتعامل مع الطلبة المؤيدين لفلسطين، تُذكِّرنا إلى حد بعيد بموقعة الجمل، الفاصلة في مسار ثورة يناير، وغيرها من المواجهات التي لم ترغب المؤسسات الأمنية بالتورط مباشرة في قمع المحتجين، فسمحت، وتحت إشرافها، لمجموعات البلطجية بالاشتباك مع المتظاهرين، ليبدو الأمر وكأنه نزاعٌ بين مواطنين، وليس قمعًا أمنيًا.
رغم اختلاف السياق والإمكانات، تفكر العقلية الأمنية بالنمط نفسه. سمحت شرطة لوس أنجلوس من أجل فض اعتصام صغير أقامه مؤيدو فلسطين في جامعة كاليفورنيا لمجموعات مؤيدة لإسرائيل، بينهم طلبة، بالهجوم على الخيام البسيطة المحاطة بأسوار صنعوها بأنفسهم من الخشب والحواجز الحديدية.
وعلى مدى ساعتين كاملتين، استخدم هؤلاء البلطجية أشكالًا متعددةً من العنف، على مرأى ومسمع من رجال الشرطة المدججين بأحدث أدوات مكافحة الشغب. اعتدوا على الطلبة، وضربوهم بوحشية بالعصي، ورشوهم برذاذ الفلفل وغازات مسيلة للدموع، في محاولة لإنهاء اعتصامهم الذي بدأ محدودًا لرفض جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة، وانتهى باحتجاجات أوسع على تدخل الشرطة والسياسيين في شؤون الجامعات، وسعيهم لقمع حرية الرأي والتعبير، المقدسة في الجامعات الأمريكية، ويمارسها الطلاب بشكلٍ اعتياديٍّ، بل ويُفترض أن يشجعها القائمون على إدارة الجامعات.
وعندما طلب المعتصمون من الشرطة حمايتهم، تقاعست عن القيام بمهمتها. ووصفت الشرطة، ومعها وسائل الإعلام الرئيسية، داعمي إسرائيل بـ"محتجين مناوئين" في مواجهة "المحتجين المعتصمين".
استغلت الشرطة طلب منظمي المظاهرات المؤيدة لفلسطين بالابتعاد عنهم وعدم التدخل في شؤونهم، لعدم حمايتهم أثناء تعرضهم للاعتداء. طبعًا ما كان يطلبه المعتصمون هو ألَّا تقوم الشرطة بفض اعتصامهم وأن تتركهم يمارسون حقهم في التعبير عن رأيهم بسلام، لا أن تتركهم يتعرضون للاعتداء والسحل من الذين كانوا يزعمون قبل ساعات بأنهم "يشعرون بالرعب"، ولا يستطيعون "التحرك بحرية" داخل أروقة الجامعة، خشية اعتداءات الطلبة المتوحشين داعمي فلسطين وحماس "الإرهابية".
عزوف الطلبة والشباب عن دعم بايدن قد يؤدي لخسارته الانتخابات خاصة في الولايات المتأرجحة
ولم يمضِ يوم على الاشتباكات، حتى حاصرت شرطة لوس أنجلوس ومعها الشرطة الفيدرالية مخيم الاعتصام، وفضَّته عنوة مستخدمة كل أشكال القوة، تمامًا كما حدث في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك على الساحل الشرقي، وهي إحدى جامعات الصفوة في الولايات المتحدة التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات الحالية.
صحيح أن قوات الشرطة الأمريكية مشهورة بالوحشية في التعامل مع الأقليات، تحديدًا الأمريكيين السود، ولكن مستوى العنف الذي استخدمته في مواجهة المظاهرات الداعمة لفلسطين كان وحشيًا لدرجة غير معتادة في التعامل مع الطلبة، خاصة وأنها شملت كذلك أساتذة، بعضهم متقدم في العمر.
إن مظاهرات الطلبة الأمريكيين في جامعات مختلفة بولايات عدة هي تعبير واضح عن التغيير الكبير في الرأي العام الأمريكي المؤيد عادةً لإسرائيل، خصوصًا بين من يصفون أنفسهم بـ"التقدميين" من أنصار الحزب الديمقراطي والمجموعات اليسارية، وأبناء الأقليات العرقية وخاصةً السود، وأولئك المنحدرين من أصول لاتينية.
أزمات بايدن المتجددة
غير أنَّ هذا تأثير التحول، الذي يأتي قبل ستة أشهر فقط من انتخابات رئاسية سيخوض فيها جو بايدن منافسة شرسة مع عدوه اللدود دونالد ترامب، لن يكون مماثلًا لأثر المظاهرات المعارضة لحرب فيتنام في نهاية الستينيات، التي ساهمت في وقف تلك الحرب بعد سنوات طويلة ومكلفة من القتال. ففي تلك المظاهرات لم يكن الطلبة يتظاهرون دعمًا لقضية بعيدة، بل دفاعًا عن مصيرهم الشخصي، كمجندين محتملين في حرب استعمارية.
لا تزال استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجرتها سي إن إن تشير إلى أن قضية فلسطين تشغل موقعًا متأخرًا في قائمة اهتمامات الطلبة عمومًا، الذين قال أقل من نصفهم إنهم يتابعون تطورات الحرب باهتمام وأنهم سيضعونها في اعتبارهم أثناء التصويت، وإن ارتفعت النسبة بين الطلبة الذين يصنفون أنفسهم كمؤيدين للحزب الديمقراطي، بنحو 60%.
وهنا تكمن أكبر مشكلة تواجه بايدن وقادة الحزب الديمقراطي. فبينما يحقق الشعبوي ترامب، المفرط في دعمه لإسرائيل، المزيد من النجاح في حشد أنصاره من الجمهوريين، بنسبة تصل إلى نحو 92%، لا يضمن بايدن إلا تصويت نحو 70% فقط من الديمقراطيين، وتنخفض هذه النسبة في شريحة من هم دون 35 عامًا، والذين أعرب 82% منهم عن استيائه من دعم بايدن للحرب.
عزوف الطلبة والشباب عن دعم بايدن قد يؤدي لخسارته الانتخابات، خاصة في الولايات المتأرجحة، التي تصوت تارة للمرشح الجمهوري وأخرى للديمقراطي.
أزمة ترامب هذه سبق وواجهتها المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي خسرت في مواجهة ترامب عام 2016، بفقدان أصوات مؤيدي المرشح التقدمي والسيناتور البارز بيرني ساندرز، بعد أن سعت لتشويه سمعته بكل الوسائل، بما في ذلك وصفه بـ"اليهودي الكاره لنفسه/self hating jew"، وهو الوصف الذي يستخدمه داعمو إسرائيل لإهانة اليهود من رافضي الاحتلال الصهيوني. بالطبع لم يصوت هؤلاء الشباب لصالح ترامب، بل فقط لم يتوجهوا لصناديق الاقتراع.
يدرك بايدن، الذي يصف نفسه بـالصهيوني، أنه إذا وجه انتقادات تشبه التي أطلقها ترامب بحق الطلبة مؤيدي فلسطين وإدارات الجامعات التي اتهمها بـ"التخاذل" لعدم استدعائها الشرطة في وقت مبكر، سيخسر المزيد من أصوات مؤيديه. ولذلك حاول إمساك العصا من المنتصف، مؤكدًا دعمه لحرية الرأي والتعبير ورفضه الإسلاموفوبيا، مع تأكيد عدم تسامحه مع "معاداة السامية".
هذه التوليفة لن ترضي غالبًا الشباب الأمريكي الغاضب، خاصة في أعقاب وحشية الشرطة وتكنيكاتها القمعية القادمة من العالم الثالث، التي لم تشفع لمن جرّبها فأطيح به من السلطة، ليبقى الأمل الوحيد لبايدن أن يتمكن من التوصل لاتفاقٍ بوقف إطلاق النار في غزة وربما إنهاء الحرب، لينهي الطلاب احتجاجاتهم مع نهاية العام الدراسي.
أما لو استمرت التظاهرات بنفس القوة والاتساع، وظلت الحرب مستمرة مع عودة الدراسة في سبتمبر/أيلول المقبل، فإنَّ بايدن على الأغلب سيجد المزيد من الوقت للراحة والعلاج خلال السنوات المقبلة، بينما يستقر ترامب مجددًا في المكتب البيضاوي.