"لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة... بل سيسألون لماذا صمت الشعراء".
برتولد بريخت، في زمن صعود النازية.
لم يراعِ السؤال الذي راودني التواريخ وتتابع الأزمان. فأمام مشاهد الانتفاضة الطلابية الأمريكية لمناصرة القضية الفلسطينية والتضامن مع أهل غزة، وبالذات في جامعة كولومبيا، وجدتني أتساءل إن كان هؤلاء الطلاب قرأوا لأحد أبرز الأساتذة الذين مرّوا بجامعتهم، وأحد أهم مفكري القرن العشرين، الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد.
انتبهت فورًا لتجاوز السؤال عاملي السن والزمن، فأغلب هؤلاء الطلبة ولدوا مع وفاة سعيد عام 2003 أو بعدها. ربما قرأ له بعضهم، بحكم الدراسة، أو بدافع الفضول والنباهة. لكن ما شغلني أكثر كان سؤال آخر يقع في منطقة الرمزية؛ عمَّا إذا كانوا يدركون، بينما يتصدون لآلة القمع الشرطية والإدارية الأمريكية، أنهم يسيرون على خطى إدوارد سعيد في أحد هواجسه الفكرية الجوهرية؛ ألَّا تنفصل السياسة عن الأكاديميا، وأن يكون للمثقف/الأكاديمي موقف نقدي، وأن يظل مشتبكًا مع قضايا زمنه.
لا أعلم إجابة السؤال، لكنها صورة متخيلة بها بهاء وسحر، أن يحتمي أحدهم/إحداهن بذكرى وطيف إدوارد سعيد الذي مرَّ من هنا، ولم يقابلوه أبدًا، في لحظات المواجهة، والدفاع عن حريتهم في التعبير والاحتجاج.
قصقصة الريش السياسي للأكاديميا
واجه كلُّ الطلاب الجامعيين في العالم العربي، وبالذات من انخرط منهم في النضال السياسي الطلابي، هذه الادعاءات التافهة بأنَّ الجامعة ليست مكانًا لممارسة السياسة بل لتلقي العلم. وكأنَّ العلم "طاهر" من السياسة، حيادي، وبلا انحيازات.
هذه الادعاءات التي يرددها عادة السذج وممثلو سلطات القمع والاستبداد، سهلة التفنيد، تتهاوى بمجرد أن يرد الطالب/الطالبة على أستاذه الأكاديمي المتعالي على السياسة "لكنني سأحصل على شهادة تخرج في جامعة تابعة لسلطة سياسية أو مالية، وسأستخدم العلم الذي أتلقاه منها لخدمة سلطة ما أو طبقة ما". والطلاب في هذه الحالة أكثر شفافيةً واقترابًا من الحقيقة من بعض أساتذتهم، فلا يزعجهم الاعتراف بأنَّ العلم بدوره سياسة.
عادة ما يردد أكثر الأكاديميين ضحالة دعاوى نقاء العلم والبحث الأكاديمي من تلوث السياسة
ادعاءات أنَّ الجامعة ليست مكانًا للسياسة يعرفها بدرجة أكبر الجيل الذي عاش حياته الجامعية خلال ثورة يناير 2011، وصولًا إلى 3 يوليو/تموز 2013، لأنهم عاشوا الحالة وعكسها، ودفعوا الثمن مرتين من دمائهم. في الأولى زخم وسخونة سياسية سادت الجامعات المصرية مع بداية الثورة، لتغيب أي جدران تفصل بين الحرم الجامعي والمجتمع، وتهليل الجميع، بما فيهم السلطة، لهم، باعتبارهم الجيل الذي يغير وجه مصر، رغم المذابح الدورية التي كانوا يتعرضون لها.
وهم كذلك عاشوا الحالة العكسية ودفعوا ثمنها بعد الثالث من يوليو، حين تحول التهليل إلى تجريم للسياسة داخل الجامعة وخارجها، وعادت مزاعم أن الحرم الجامعي مكان لتلقي العلم وفقط. لمجرد أنَّ السياسة، بمعنى التفكير النقدي والتعبير عن الرأي، لم تعد على هوى النظام، ولا بد أن تنحصر في مؤتمرات الرئيس الشبابية.
منع السياسة في الحرم الجامعي، لم يُترجم فقط لإجراءات من نوعية استدعاء الإدارات الجامعية للأمن الوطني للطلاب بعد 2013، أو الفعل الإجرامي لنعمت شفيق، باستدعاء قوى القمع ضد طلاب الجامعة التي تديرها. بل يذهب لما هو أبعد؛ ادِّعاءات انفصال العمل الأكاديمي نفسه عن السياسة، فيما لا يوجد بحث علمي منفصل، ولو في مجرد دوافعه واستخداماته، عن السياسة.
عادة ما يردد دعاوى نقاء العلم والبحث الأكاديمي من تلوث السياسة أكثر الأكاديميين ضحالة، والأكاديميون الذين يرفضون، سياسيًا، النتيجة المعرفية التي يصل إليها الباحث، إذا قال لهم على سبيل المثال إنَّ ما يحدث عملية إبادة عنصرية ممنهجة ضد شعب كامل، علينا محاسبة مرتكبها، وليس التعاون معه.
أما الأكاديميون الجادون، فيعرفون الفرق جيدًا ليس بين الأكاديميا والسياسة، بل بين البروباجندا السياسية والتزييف من ناحية، والأكاديميا من ناحية أخرى. وأغلبنا، أيًا كان موقعنا طلابًا أو أساتذة، قادرون على تمييز البحث الأكاديمي الجاد المتعلق بالسياسة عن البروباجندا، بمجرد قراءة قائمة مراجعه وصفحاته الأولى، عبر تتبع مصادر معلوماته ودرجة مصداقيتها، وكيفية استخدامها إن كانت موثوقة، بنزاهة أكاديمية، باعتبارها مقدمات توصل لنتائج. وهذه النتائج نفسها هي ما تقود للموقف السياسي، بأشكاله الأكثر مباشرةً وصراحة أحيانًا، بناءً على الطرف الذي ينحاز إليه الأكاديمي.
في قلب المكان
لإدوارد سعيد كتاب عن المراحل الأولى من حياته بعنوان خارج المكان. يكتسب اسمه من شعوره المبكر بأنه لا ينتمي تمامًا لأماكنه الأربعة؛ فلسطين، مصر، لبنان، والولايات المتحدة.
يستحق هذا الكتاب تناولًا منفصلًا، وبالذات كيف رأى إدوارد سعيد جسدَه مكانًا منفصلًا عنه، فُرِضت عليه القيود وتحول لسجنه نتيجة تربية صارمة ومتزمتة. نستطيع أن نفترض أنَّ هذا الشعور الأصيل عنده لعب دورًا أصيلًا في أن يدخل تدريجيًا لقلب المكان كقضية. فيصبح ليس فقط المتحدث الأفضل باسم القضية الفلسطينية، مثلما وصفه البعض، بل أحد أهم المفكرين خلال النصف الثاني من القرن العشرين الكاشفين للعبة السلطات مع المثقف، ودور المثقف والعمل الذهني الإبداعي في إنتاج المعرفة واستخدامها.
ربما لم يقرأ طلاب الجامعات الأمريكية أعمال سعيد، لكنهم يدركون بالفطرة أنَّ المثقف/الأكاديمي منحاز بالضرورة. وأنَّ المثقف يفقد صفته إذا لم يكن منحازًا، أو تساوت أمامه المواقف والأطراف. وأنه يتوقف أيضًا عن حمل صفته هذه، إذا جَبن عن إشهار موقفه المبني على المعرفة، أو اقتضت مصلحته الشخصية أو المهنية ألَّا يكشف عن انحيازه ويحجب معرفته.
وكأنَّ أبناء إدوارد سعيد يدخلون لعمق المكان، ليس فقط فلسطينيًا، بل أمريكيًا أيضًا، في لحظة اكتشافهم للعبة القمع، لمفاجأة أن لا حرية أكاديمية، بل ملاحقة ومنع من التعبير عن الموقف إن تعلق الأمر بفلسطين/إسرائيل. وللدقة، هي ليست حالة أمريكية فقط، بل تمتد الآن للكثير من الجامعات الأوروبية.
قد أكون مخطئًا، لكنَّ الانتفاضة الجامعية الأمريكية توحي بأنَّ الإبادة الحالية هي القشة التي قصمت ظهر البعير، دون أن تنفصل عن الوضع الأمريكي الداخلي في سنة الانتخابات، وصعود اليمين المتطرف والاستبدادي في أوروبا والولايات المتحدة، وبداية فرض شروطه في عالم الثقافة والفن والأكاديميا. فيكون حجم عملية الإبادة والمشاركة الأمريكية فيها بالتمويل والدعم والتغطية دافعًا للاحتجاج على بداية انهيار كلِّ المزاعم المتعلقة بالديمقراطية الغربية، وقيم العالم الحر، من قَبل عملية إبادة الفلسطينيين في غزة.
تبدو الانتفاضة كاحتجاج على مذبحة شديدة الضخامة، تدعمها حالة من البله السياسي الرسمي، تتمثل في منافسة اثنين على حكم مستقبل هؤلاء الطلاب، أحدهما رجل أعمال فاسد ومعادٍ لكلِّ الأصول الديمقراطية، وثانيهما يلقي عمره المتقدم شكوكًا جادةً حول أهليته للحكم، بعد أنَّ فجر قبل أربع سنوات حالة من التفاؤل بفوزه، باعتباره الأمل لوقف كابوس المرشح الأول، ومن خلفه أول امرأة سوداء في منصب نائب الرئيس، لتوضع في الظل بعد انتصاره، وينحصر ظهورها في مناسبات نادرة لاعتبارات الديكور، وتظل رجعيته وتصريحاته المتناقضة، والمفتقدة لأي معنى سوى دعم إسرائيل، سيدة الموقف.
المثقف الخادم.. والفاعل المبتسم
إن تأملنا جيدًا نعمت شفيق ربما نتذكر نماذج أخرى شبيهة ومكررة. مثل حامد كرزاي، الرئيس الأول لأفغانستان بعد الغزو الأمريكي. تكنوقراطي تربية الغرب، وإن ارتدى أحيانًا الملابس التقليدية. ارتبط بعلاقة وثيقة مع المخابرات المركزية الأمريكية خلال حرب المجاهدين ضد الحكومة المدعومة من موسكو. وبعد سيطرة طالبان على الحكم، عمل في الخارج لصالح شركة بترول أمريكية، لتستمر تربيته على يد الأمريكيين حتى يحضّروه معهم، وينصبوه رئيسًا لدولة منهارة تحت احتلالهم.
لا أرى اختلافًا كبيرًا بين أن يعمل المثقف الذي تربى على يد المستعمرين في شركة بترول أمريكية أو في البنك الدولي، مثلما هي حالة نعمت شفيق. ولا أرى أيَّ مبرر للفخر الوطني بالمسار المهني لأيٍّ منهما. ربما تكون هذه النماذج المتطرفة من المتعلمين الذين يوظفون معارفهم لصالح الجهة التي تدفع أفضل، أيًا كانت قذارتها وعداؤها لشعوبهم، هي السبب في شعور الكثير منَّا، وإن لم نقرأ لإدوارد سعيد، أو لجرامشي من قبله، أو لبريخت الذي بدأت المقال باقتباس منه، بالنفور الشديد من مثقفين وفنانين وأكاديميين، لا يُشهرون مواقفهم في الأوقات الصعبة والكابوسية مثل تلك التي نعيشها منذ بداية عملية الإبادة.
هذا النفور ليس من الصور الشخصية اللاهية على السوشيال ميديا، أو السفر في الرحلات، أو المشاركة في مهرجانات، أو التهليل في موسم المسلسلات الرمضاني. فليس مطلوبًا من أحد البكاء الدائم. منبع هذا النفور أعمق؛ ينحصر في السؤال عن موقف الفنان أو المثقف أو الأكاديمي. أين ممارسته لدوره إزاء ما يحدث؟
الصامتون نتيجة الإحباط أو للعزلة، أو لافتقادهم منابر وطرق ممارسة دورهم كمثقفين، ليسوا مقصودين هنا. من أقصده هو المثقف/الأكاديمي الذي يمكنه الفعل والكلام ولا يفعل. وعلى النقيض من هؤلاء، ومن نماذج مثل نعمت شفيق، نجد أنَّ المشاركين في انتفاضة الجامعات الأمريكية من طالبات وطلاب وأساتذة، نظموا أهمَّ فعل احتجاجي عالمي حين فَرَضت عليهم المعرفة الموضوعية اتخاذ الموقف السياسي، وبالذات أمام عملية إبادة بهذا الحجم والتكثيف والديمومة، حتى وإن اضطروا لتغطية وجوههم؛ خوفًا من عقاب الشركات الكبرى التي يفترض أن تتعاقد معهم بعد تخرجهم.
في فيديو انتشر على السوشيال ميديا فجر يوم 23 أبريل/نيسان الماضي، رأيت وجوهًا من بينها وجه الشاعر والروائي والمترجم والأكاديمي العراقي في جامعة نيويورك سنان أنطون. يخرج ليلًا من جامعته، ويداه مكبلتان بالقيود من الخلف، في صف طويل يضم طلابه وزملاءه. لا أعرف إن كان وجهه مبتسمًا حقيقة، أم أنني أحببت أن أراه مبتسمًا. لكنني تصورت ذلك، وأحب أن يظل في ذاكرتي مبتسمًا ومحتميًا بطيف إدوارد سعيد.
كان هناك محتشدون يحتجون بعبارة "عار عليكم" ضد من يلقون القبض على سنان وزملائه وطلابه. لكن تعبير "عار عليكم" أكثر تعميمًا، عابر للحدود، يلاحق كل أصحاب المعرفة الصامتين.