
إخوة الرب لا يأكلون اللحم
الكنائس طبقات، فقيرة ومتوسطة وثرية. يتحدد موقعها الطبقي، وموقع كهنتها بالتبعية، بناءً على المنطقة والحي، وكم التبرعات التي تتلقاها ممن يُسمّون بـ"شعب الكنيسة"، رعيتها. لا توجد الفروق الطبقية في الكنائس المصرية وحدها، بل تمتد لكل بلاد الرب التي بها كنائس.
كنيسةٌ حديثةُ النشأة في أحد أحياء الطبقة الوسطى القاهرية أواخر الستينيات، سرعان ما ستشغل موقعها في طبقة الكنائس الثرية. تتوسط أرضًا شديدة الاتساع، تم شراؤها لتتوسع بداخلها مستقبلًا ببناء كنائس أخرى أكبر، مبانٍ للخدمات والأنشطة، مسرح، ناد رياضي للأطفال والمراهقين والشباب ملحق به ملاعب.. إلخ. عالم كامل داخل أسوار الكنيسة، التي تفصلها عن المجتمع المسلم المحيط بها. أسوار ترسم حدود الشرنقة الحامية لقطاع من المسيحيين بدأوا في الشعور بأن هذا البلد ليس بلدهم.
نحن الآن في أوائل الثمانينيات. من بين أنشطة الكنيسة جمع التبرعات العينية لتوزيعها على المسيحيين الفقراء من سكان الحي. يترددون في مواعيد منتظمة ليحصلوا على حصصهم منها. لا عشوائية في الموضوع، فهناك مسؤولون عن هذه الخدمة، يُسمُّون بالخادمات والخدام، المتطوعين، كل منهم يتابع حالة عدد محدد من عائلات الفقراء.
الخجل الناتج عن الفقر والتمايز الاجتماعي الواضح بين شعب الكنيسة، منع أغلب أطفال العائلات الفقيرة ممن كانوا في أعمارنا وقتها من الاختلاط بنا. قليلون منهم من يشاركوننا الأنشطة المختلفة. لكنهم بالطبع لا يشاركوننا الرحلات التي تتطلب دفع رسوم للاشتراك فيها، حتى وإن كانت رمزية.
فجأة، تُغلق إحدى الغرف المشيدة في حوش الكنيسة الواسع بالمفتاح. غرفة واسعة كانت تُستخدم في أنشطة مختلفة؛ دروس الكتاب المقدس أو اللغة القبطية. وفي أيام توزيع التبرعات تزدحم بالفقراء. على نافذتها قضبان حديدية، وضلفتا شباك مفتوحتان. بالداخل بضعة مقاعد وبضع مناضد، وطفلان وحيدان في مثل أعمارنا تقريبًا.
سألنا عن سبب حبسهما بالغرفة، فأخبرنا أحد الخدام بأنهما من الفقراء المسيحيين الذين ترعاهم الكنيسة. لكنهم في ليل اليوم السابق، حاولا سرقة بعض محتويات مخزن التبرعات. أمسك بهما حارس الكنيسة وخباز قربانها. لم يخبرنا الخادم بمن أصدر قرار حبسهما بالغرفة لعدة أيام، عقابًا على فعل السرقة. ربما كان الكاهن، أو مجلس إدارة الكنيسة برئاسة الدكتور "فلان"، أو بالاتفاق بينهما.
حلم الطيران
يبدو أن عقلي، بقرار غير واعٍ، محا من ذاكرتي أغلب ما رأيته في غزة. اختفت وجوه وأسماء أشخاص قابلتهم وحاورتهم ودخلت بيوتهم في 2006. وكأنها حيلة للحماية الشخصية، لتجنب تكرار أسئلةِ مَنْ منهم لا يزال على قيد الحياة، ومن استشهد، أو اختفى، أو غادر. مَن مِن بين هؤلاء الأطفال الكثيرين الذين نلقاهم في كل مكان في غزة، كبر، ومَن قاتل، أو تحول لمتفرج، لناجٍ، أو لجثة؟
من ضمن الصور القليلة المتبقية في الذاكرة صورة عابرة من رفح، حين قضيت يومًا كاملًا أصور في حواريها وشوارعها؛ أمام مدارس الأونروا، بعض البيوت المهدمة، وداخل بيوت أخرى لم تُقصف بعد، وعند الجدار الحدودي المرتفع الفاصل بين رفح المصرية والفلسطينية. عيد الأضحى يقترب، وبائع متجول يجر وراءه "عربيَّة كارُّو"، ثبَّتَ فوقها قفصًا حديديًا بداخله خروف نحيف. يتحرك بين الشوارع والحارات، عارضًا بضاعته؛ ذلك الخروف الذي يعاني من نقص تغذية. رأيت البائع وخروفه عدة مرات، في شوارع مختلفة، وفي كل مرة يلتفت البائع ناحية الكاميرا، ويبتسم. بينما خروفه يدير ظهره لها.
يحلم أغلبنا بالطيران. ولو ربطنا هذا الحلم بمنطقة الرمزيات سيكون حلمًا بالتحرر، بالخفة، بتحدي جاذبية الأرض، ولنرى ما يحيط بنا من أعلى. أهدت التكنولوجيا أهل السينما ماكينةً تحقق جانبًا من هذا الحلم، تجعل المتفرجين على الأفلام يحلقون ليروا الواقع من أعلى. أهدتنا التكنولوجيا الدرون/المسيرة. صحيح أن هناك معدات سينمائية سبقت الدرون وتحقق تأثيرًا شبيهًا، إلا أنها كانت أجهزة كبيرة ومعقدة، ثقيلة وتكلفة إيجارها وتشغيلها باهظة.
تفوقت الدرون على هذه الأجهزة. لا تحقق فقط الارتفاع، بل إمكانية الحركة بديناميكية مطلقة. تسببت، وبالذات بعد أن انخفضت أسعار أنواعها الأصغر والأكثر بدائية، في أن تبدأ أو تنتهي الكثير من الأفلام، بما فيها الفقيرة ذات الميزانيات المحدودة، بنفس المشهد؛ ترتفع الكاميرا عن الأرض، تستمر في الارتفاع، لنرى بيئة شديدة الاتساع. أو بالفعل العكسي؛ تقترب، وتهبط للواقع. وأغلبها مشاهد ليس لها أي معنى درامي مرتبط بقصص هذه الأفلام.
حلم الطيران الخفيف تحوّل كابوسًا، عدوًا، خارج السينما هذه المرة. فمن سينسى هذه الدرون التي اقتحمت على يحيى السنوار غرفته المدمرة؟ تتحرك مقتربة ومبتعدة عنه وكأنها نحلة، تحاول استكشافه والتأكد من قيمة فريستها. وربما تكون هذه الدرون هي من أنهت حياته بعدما رماها السنوار بعصاه. رمية عصا بدت فعل مقاومة أخيرًا، ولعنة للتقدم التكنولوجي الذي تفوق على البشر وشجاعتهم وحلمهم بالحياة والحرية.
درون تنتقل بين الأماكن، وتصطاد. مجسدةً في كل مرة تظهر فيها هذا الجانب البشع من التطور العلمي. ربما تكون الدرون نفسها التي اقتحمت غرفة السنوار، بعد أن حُمّلت بمكبر للصوت، تحوّلت لمنادٍ لأهل رفح يوم 31 مايو/أيار الماضي، يحثهم على الذهاب لنقطة محددة إن أرادوا الحصول على طعام.
يندفع الجائعون بالآلاف لهذه النقطة، تصاحبهم الدرون المحلقة فوقهم، ترشدهم، وحين يصلون، تسخر منهم. فهذه النقطة هي مكان المقبرة الجماعية لخمسة عشر عاملًا من الإغاثة الطبية قتلوا قبل أسابيع. تحول المنادي الساخر لقاتل محترف، لا يحمل مشاعر من يديره عن بعد، ينفذ فقط أوامره. قتلت الدرون والجنود واحدًا وثلاثين من هؤلاء الجوعى، وأصابوا العشرات غيرهم.
عالمان متناقضان تمامًا يفصل بينهما باب ونافذة؛ غرفة إخوة الرب وعالم اللهو والمرح والبراءة خارجها
ليس أمام الجوعى من مفر سوى الذهاب إلى هذه النقاط، لفخاخ القتل، على أمل النجاة والعودة بأي طعام من أجل أطفالهم. يدخلونهم ممرات أشبه بالأقفاص، ضيقة، ومكشوفة، لا يستطيعون الفرار منها، على أمل أن يصلوا أخيرًا للوقوف أمام مندوبي أعدائهم؛ مرتزقة أمريكيين مسلحين، ربما يمنحونهم كيس طحين. وفي كل مرة تتكرر المصيدة، يومًا بعد يوم، لتحصد 126 ضحية حتى ثاني أيام عيد الأضحى.
لا تحصر الدرون عملها في النداء، والقتل. بل تصور هؤلاء وهم داخل القفص، تصور الجموع وهم يتدافعون للحصول على قطعة خبز. لتُخلِّدَ للأبد هذه الجدران الفاصلة بين عالمين على نقيض كامل؛ عالم الموت والجوع المعممان داخل غزة، وعالم المتفرجين عليهم خارجها؛ نحن من نتناول طعامنا أمام نشرات الأخبار، ونتجنب النظر في عيونهم. نتخيلهم وكأنهم يحملون على ملابسهم المهلهلة إشارة معممة، تقول "أنا فلسطيني وجائع"، سببان للقتل والمهانة. فيكون الحل الوحيد محاولة الإحسان إليهم، وليس العدالة والحق لهم.
إخوة الرب
يُسمُّون فقراء الكنيسة بـ"إخوة الرب". تسمية عاطفية، تمجدهم، تُقرِّبهم من قلب المسيح الرب، بجعلهم إخوته. يُدخِل الخادم المتطوع المياه وسندويتشات الفول والطعمية للطفلين السارقين في مواعيد منتظمة، يتركها لهما في قفصهما، زنزانتهما. يتركون شباك النافذة مفتوحًا، فلا مهرب منها ما دامت فوقها قضبان. نلعب بالقرب منهما، لا بد أنهما يسمعان ضوضاءنا، وإن تطلعوا من النافذة سيروننا.
ولأنهما لا يقتربان من النافذة، يدفعنا الفضول من حين لآخر للاقتراب منها، لنتلصص عليهما. رغم نحافتهما نلاحظ أنهما أقوى منَّا جسديًا، وكأن عظامهما وأعصابهما وعضلاتهما الصغيرة قويت بسبب البرد الليلي في بيتيهما الفقيرين. في كل مرة نقترب من النافذة يستدير أحدهما، يعطينا ظهره، مبتعدًا كي لا نرى وجهه، لكننا نرى ملامحه خلسة. أما الآخر فلا يتحرك، يستمر في جلسته بهدوء، يتطلع لعيوننا مباشرة بنظرة ثابتة، ربما كانت نظرة غضب أو تحدٍ. وحين نحدثه لا يجيبنا، يكتفي بهذه النظرة.
عالمان متناقضان تمامًا يفصل بينهما باب ونافذة. عالم داخل غرفة إخوة الرب، وعالم اللهو والمرح والبراءة خارجها، عالمنا، نحن أبناء الرب. بعد أيام، وفي موعد اللعب بعد القداس الصباحي ليوم العطلة الأسبوعية، نذهب لنتلصص عليهما. كانت الغرفة مفتوحة، وحارس الكنيسة وخبازها ينظفها. يخبرنا بأن عقوبتهما انتهت، ورحلا. لم نرهما أبدًا بعدها. ربما لم يدخلا الكنيسة أبدًا بعدها. وإن بقيت هناك في الغرفة، وفي ذاكرتنا، نظرة التحدي والغضب لهذا الولد الذي لا يدير لنا ظهره.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.