حساب Columbia Students for Justice in Palestine على إكس
جرافيتي يناصر القضية الفلسطينية ويندد بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في جامعة كولومبيا الأمريكية

عاشت القضية.. مات الشعب

منشور الأربعاء 13 أغسطس 2025

أعلنت الحكومة الإسبانية يوم 23 أبريل/نيسان الماضي رفع ميزانية الإنفاق العسكري لنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي مواكبةً لموجة إعادة التسلح الأوروبية الناتجة عن تعاظم الفزع، المفتعل بالدرجة الأولى، من روسيا بوتين، واستجابة جزئية لضغوط ترامب، رئيس البلد القائد لحلف الناتو.

بعد ساعات من هذا الإعلان، وبمناسبة أن يوم 23 أبريل هو اليوم العالمي للكتاب، ارتجل مثقفون وقراء وقفة احتجاجية سريعة، من دون تحضيرات أو تصاريح، في الميدان الرئيسي للعاصمة مدريد، لرفع الكتب عاليًا بديلًا عن الأسلحة. لم يرفعوا كتب ثيربانتس أو شكسبير، اللذين توافق تاريخ وفاتهما في عام 1616، لتختاره بعد قرون اليونسكو يومًا عالميًا للكتاب، بل رفعوا كتبًا بلغات مختلفة عن فلسطين، وحضرت الرمزيات الفلسطينية من كوفيات وأعلام.

انتهت الفعالية. عدنا لبيوتنا. فتحنا نشرات الأخبار لنعرف الجديد من أخبار غزة فيما نجهز الموائد للعشاء. ربما بكى البعض منَّا تأثرًا بما يشاهده على الشاشة. لكن كالعادة ومن ضمن مقومات الطمأنة الجماعية، استضاف أحد البرامج الحوارية خبيرًا، لا أتذكر من كان عليه الدور من بين المترددين الدائمين على هذه النوعية من البرامج.

طمأننا الخبير بأن إسرائيل ترتكب أخطاءً تاريخية مهلكة لها. فشعرنا يومها بالارتياح نفسه الذي شعرنا به في بعض الأيام السابقة واللاحقة، أن كل هذا الدم والمعاناة والجوع سيكون له ثمن تاريخي، انتصار تاريخي، ملائم لفداحتها.

عظمة القضية

من اعتصام طلاب مؤيدين لفلسطين من خمس جامعات مدريدية في جامعة كومبلوتنسي 7 مايو 2024

يبدو أنها حالة أوروبية خالصة؛ أن تتدخل القضية الفلسطينية في الاحتجاج على مسائل محلية، تخص شعوبًا بعيدة عن فلسطين. لكنها حالة عالمية، أكثر اتساعًا من أوروبا، تعبِّر عن حقيقة أن فلسطين أصبحت رمزًا جامعًا للكثير من القضايا والنضالات في عالمنا المعاصر. وهي أيضًا حالة عالمية من البحث عن الطمأنة بأن القضايا والرموز الكبرى لا تموت.

يقينية أن القضية لا تموت أبدًا نعرفها جيدًا نحن العرب، فهي قديمة قدم الثوريين والسياسيين الذين لم يتوقفوا أبدًا وفي عز الكوارث والهزائم المتتالية عن طمأنتنا بأنهم "يرون النور في نهاية النفق". بينما النفق نفسه يمتد، يزداد طولًا، لا ينتهي، تتكثف عتمته، وربما لا يوجد أي نور في نهايته، بل نفق جديد، واكتشاف متكرر أن هذه الخيالات البادية من بعيد نهايةً للنفق، سراب.

نكتشف في كل مرة أن عنصر الطمأنة الوحيد، الذي يزداد هزالًا وضعفًا بمرور الزمن هو مجرد بقاء القضية الفلسطينية بسيرورتها الداخلية رحلة معاناة ونضال دائمة وخالدة وعظيمة. تتغذى من هزائمها ونكباتها نفسها.

ردود الأفعال على قرار احتلال غزة لم تخرج عن نفس نسق "عاشت القضية" بداية من الأقرب وصولًا للأبعد

وتتغذى أيضًا على مفارقات لا تنتهي، مثل أن يقول عرفات المهزوم في بيروت عام 1982، مبتسمًا، صاعدًا لباخرة تحمله ومقاتليه لرحلة منفى جديد، بعيد عن فلسطين، أنه عائد إليها. بينما يدخل الشعب نفسه في مراحل جديدة من الهزال والضعف، والعتمة، منذ 1948 وحتى يومنا هذا، مرورًا بلحظة الخطابية الأكثر وقعًا ومأساوية، 1967، المفتتحة للكثير من الهزائم التالية، التي رغم تراكمها، عاشت القضية.

لا حاجة لبدء هذا المقال باستعادة حدث عابر من الربيع الماضي. فكل الأيام التي سبقت وتلت 23 أبريل 2025 نسخ مكررة من اللحظة نفسها؛ مأساة جديدة داخل المأساة الأكبر التي لا تتوقف حلقاتها. وإعلانات من قوى أو دول أو أفراد عن تضامنهم الكامل مع الشعب الفلسطيني، بينما لا يكادون يفعلون أي شيء لتقليل معاناة هذا الشعب، ليصبح الواقع الأكثر كابوسية ومرارة ومهانة، ربما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو الواقع الفلسطيني، ملخصًا الآن في قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على فعل أي شيء وكل شيء، أيًا كان، دون أي رادع أو عقاب.

أكتب هذا المقال بعد ساعات قليلة من قرار الحكومة الإسرائيلية احتلال كامل قطاع غزة، فجر يوم 8 أغسطس/آب الحالي. على الرغم من أن هذا القرار خطوة جديدة في طريق إنهاء وجود الشعب الفلسطيني وتدميره بالكامل، وتحويل الباقين منه إلى مجرد لاجئين، ستكون أفضل أمانيهم أن يُحبسوا في ما يشبه المساكن الشعبية التي تحيطها السياج وقوات الأمن والجيش في أحد الصحراوات العربية، إلا أن ردود الأفعال لم تخرج عن النسق نفسه، نسق "عاشت القضية"، بداية من الأقرب وصولًا للأبعد.

الأقرب مصر، التي لا يخجل نظامها من الإعلان عن تدمير إسرائيل لمعبر رفح أربع مرات خلال عامي الإبادة، واعتدائه بالتالي ومباشرة على السيادة المصرية، التي تتجلى فقط في إغلاق الحدود وإعادة ترميم المعبر. نظام يناشد العالم وقف معاناة الفلسطينيين بعد ساعات من توقيع اتفاقية استيراد غاز من إسرائيل، مسروق في الأصل من الشعب الفلسطيني، بقيمة 35 مليار دولار، أموال ستصب في النهاية بمجرى تمويل إبادة الفلسطينيين، بأموال المصريين.

مِن الأبعد، من غير ذوي القربى، رئيسة الاتحاد الأوروبي السياسية اللامعة والقادرة أورسولا فون دير لاين، التي لم يتخط رد فعلها حدود العالم الافتراضي، مجرد تغريدة على إكس تدعو فيها إسرائيل لإعادة النظر في قرارها. فيكون على الفلسطينيين الانتظار والتماسك بناءً على السياسية الأوروبية، وبناءً على الحكومة المصرية. أن يظلوا قابضين على جمر القضية، وإن كان ثمنها الفناء الكامل، مقابل اعترافات رمزية بدولة لم توجد بعد.

مهانة الواقع

هل يستطيع أحد أن يصل بخياله لتصور الأثر النفسي، النفسي وفقط، على الشعب الفلسطيني في غزة وخارجها بعد هذه الحلقة من الإبادة؟! لا أعتقد.

لا أقصد الآثار الناتجة عن التهجير المستمر داخل القطاع، وفقدان البيوت والأهل، والخراب والدم المعممين، والفوضى الأمنية العاكسة لحقيقة غير معلنة عنوانها ضعف المقاومة وافتقادها الحالي للقدرة على ردع اللصوص والعصابات، ناهيك عن إسرائيل. بل إن المقصود جانب آخر؛ الأثر النفسي لمهانة الجوع والعطش، مهانة اقتران الموت بمجرد محاولة الحصول على حفنة من الدقيق.

إهانة أن يرى الفلسطينيون أنفسهم شعبًا كاملًا يعيش أمام الكاميرات ما لم يعشه أي شعب آخر، لتتفرج عليهم الشعوب الأخرى. تُلقى عليهم من الطائرات بضعة مساعدات، تقتل بعضهم، ليتقاتل الأحياء فيما بينهم، أمام الكاميرات، كحيوانات جائعة في غابة، تتقاتل من أجل الحصول على بضعة أرغفة "حاف" بالتعبير المصري.

مئات الغزيين الباحثين عن المساعدات يتجمعون على شارع الرشيد، فجر 15 يونيو 2025

لا أحد يتحدث عن هذا الجانب، نتجنبه لأنه مفزع. نتجنب السؤال عما سينتجه، عن التركيبة النفسية للأطفال الذين يعيشون هذا المشهد حين يكبرون، إن كبروا.

نتجنب الحديث أو التفكير في هذا الجانب المتعلق بالأثر النفسي ومعنويات الفلسطينيين ونظرتهم لذاتهم بعد هذه الإبادة كي لا نجرح خيالنا الرومانسي عن الفلسطينيين القابضين على قضيتهم وكرامتهم وتاريخهم، مهما حدث.

نتجنبه كي لا تتلوث في أذهاننا الصورة الأيقونية القديمة من عام 1987، لهذا الطفل المواجه لدبابة بحجر. الذي إن استشهد سنتذكره، وسيتذكره أهله بهذا المظهر البطولي. نتجنب التفكير في هذا الجانب كي لا تتلوث الصورة/الأيقونة بوجوه الأطفال والنساء والرجال الهازلين، الواقفين في طوابير الطعام التي ينظمها القتلة والمرتزقة الأمريكيون، صارخين ومتوسلين القليل من الطعام.

إنه أحد وجوه الكارثة، أن تكون صورة الفلسطينيين عن أنفسهم هي هذه الصورة، لشعب هائم على وجهه، يتزاحم ويتعارك من أجل قليل من الطعام الذي لن ينجيه من الجوع.

وبعد ثمانية عقود من المقاومة، والثورة، وإشعال المنطقة بالصخب والأفكار والشعر والسينما، ومن التعليم والإنجاز والانتفاضات، ومن المبادرات السياسية المبدعة، تتشكل الآن صورة الشعب الجائع أمام الكاميرات، المغامر بحياة أبنائه من أجل بضعة أرغفة، أو علب من الطعام منتهية الصلاحية وضربها العفن رمتها فوقهم طائرة حربية إسبانية.

أما عن الأمل وهذا الضوء في نهاية النفق فربما يكون الأمل الوحيد هو في الانتحار الذاتي لإسرائيل

لم يعد يصلح الخطاب القديم للطمأنة، خطاب أن القضية باقية، وأنها ستستمر، وستتخذ أبعادًا جديدة. مثلما لم يصلح أبدًا خطاب الضوء في آخر النفق، حتى وإن ردده من نثق بهم، أو لم يرددوه لدواع إعلامية نفعية. فمن أجل القضية لا بد من بقاء الشعب أولًا. هذا الشعب الذي لو لم يكن فلسطينيًا لكانت كل الحدود فُتحت له. لكن، لأنه شعب فلسطين، عليه أن يقبض على الجمر، وأن يحمي القضية، بدمه.

لا أتحدث هنا عن الخطابات الفارغة لوسائل الإعلام التي لم تفعل شيئًا للفلسطينيين سوى الزعيق والمبالغة والصراخ، فيما ممولوها ومديروها لهم مصالحهم مع دولة الاحتلال، بل عنا جميعًا؛ القلقون على القضية والمنحازون لشعبها ولشعوبنا، فيما القضية التي يراد بقاؤها، تمر من نكبة لأخرى. والشعب الذي نطلب له الحرية، يتعرض للفناء والتهجير من جديد. ليس فقط في غزة، فغزة هي الخطوة الأولى، بل في كل فلسطين.

هذا المقال لا يدعو للتهجير أو فتح الحدود المصرية أمام الفلسطينيين للنجاة من الإبادة والجوع. يعبّر فقط عن عجز وارتباك، مثل كل ما قيل وما سيقال. تكتفي هذه الكلمات بالتذكير ببديهية تُنسى وتتحول مسألة عرضية، أن وقف الإبادة والتجويع فورًا هو أهم ما يمكن أن يحدث في عالمنا المعاصر. مجرد أن يأكل الفلسطينيون من دون أن تصيبهم القنابل والصواريخ ورصاص القناصة.

أما عن الأمل، وهذا الضوء في نهاية النفق، فربما يكون الأمل الوحيد هو في الانتحار الذاتي لإسرائيل عبر هذه الدائرة التي دخلتها، وتتسع حولها مع كل يوم جديد، دائرة العدوان المستمر، ورفع وتيرته، وفتحها جبهات جديدة، وشهيتها المتعاظمة لفانتازيا الإمبراطورية القادرة على تحقيق الانتصارات دائمًا، ليس فقط في فلسطين، بل في اليمن وسوريا وإيران ولبنان، وربما في مصر.

إنه سؤال للمستقبل، عن تأثير ذلك الإغواء الإمبراطوري على الدولة نفسها، وكيف من المحتمل أن تأكل ذاتها نتيجة تعميق التناقضات بداخلها، ونتيجة العدوانية التي لا بد وأن تتجذر وتستمر. لكن، ربما كان لنا أن نطمح أن تأكل إسرائيل ذاتها قبل أن تلتهم كل الفلسطينيين. أن يبقى الشعب، ويعيش مثل القضية، أن يُنهي وجود إسرائيل، إن دعمته وشاركته المهمة الشعوب الأخرى.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.