ليست قصة، بل مجرد لقطة متخيلة عن فيل ضخم في غرفة بها الكثير من القطع الخزفية الهشة، يتحرك بداخلها محطمًا محتوياتها. ربما تكون حركة الفيل مقصودة لإحداث أكبر قدر من الدمار، وربما تكون عفوية وبريئة، فبسبب قوته وحجمه الهائل، لا نجاة للخزف. لكنَّ هذه اللقطة لا تحكي عن مصير الفيل، ولا عن كيفية خروجه من الغرفة، إن كان قد خرج منها بالأساس.
يتشكل أمامنا الآن مصير هذا الفيل المهول المتمثل في دولة إسرائيل، المتورطة بجيشها وكل مؤسساتها في غزة. قد يستطيع الفيل الخروج من الغرفة حيًّا، لكنَّ المؤكد أنَّ من ملامح مصيره عدم خروجه سالمًا تمامًا. مع وجود احتمالات أخرى، من بينها انهيار الغرفة فوقه وموته تحت أنقاضها، أو أن يُخرجه أحدهم ليُطبب جراحه، أو أن يبقى بداخلها بعد تدميرها تمامًا وقتل وتشريد سكانها. وربما يقتله صُناع الخزف.
أبناء إسرائيل ضحاياها وأعداؤها
نشرت لي المنصة أواخر العام الماضي مقالًا عنوانه الإسرائيليون الذين نريدهم بيننا، عن شخصيتين يهوديتين انتسبتا لدولة إسرائيل ثم انفصلتا تدريجيًا عن مشروعها الصهيوني، واتخذتا مواقف معادية له؛ المناضلة العمالية الشيوعية ميشيل شفارتز، والسينمائي إيال سيفان. ولم أقترب حينها من نماذج أكاديمية مثل المؤرخة والناقدة إيله شوحاط، والمؤرخ والأكاديمي البارز إيلان بابيه.
الكتابة عن شوحاط ضرورية بسبب جوانبها المُركَّبة، من بينها هويتها كامرأة عربية ابنةٍ ليهود عراقيين هاجروا إلى إسرائيل، ورفضها لمشروع هذه الدولة، وتقاطعها مع إدوارد سعيد وكيف تقرأه، وعنصرية إسرائيل تجاه مواطنيها من اليهود الشرقيين، وتهميش أجسادهم لصالح الموديل الجمالي الأوروبي الأبيض والأشقر.
يُشبِّه بابيه إسرائيل بجدار بدأت تدب فيه شروخ نرى بعضها
ومثلها الكتابة عن إيلان بابيه، بسبب تأثيره العميق في قطاع واسع من المثقفين والأكاديميين الأوروبيين والأمريكيين الشماليين المنحازين للحق الفلسطيني، وأطروحاته الهامة عن مستقبل إسرائيل بعد بداية عملية الإبادة، أبعد من أسبابها وآثارها المباشرة، وأبعد من "أسئلة اليوم التالي"، دون أن يختلف مع ما نتفق عليه جميعًا، بأنَّ المهمة العاجلة، وقبل أي أسئلة، هي ممارسة أكبر ضغط عالمي ممكن لوقف عملية الإبادة، ومحاسبة مجرمي الحرب الذين يديرونها وينفذونها.
وصفت بابيه بـ "الإسرائيلي السابق" لما له من دلالات عن كيف تخلق إسرائيل ضحاياها وأعداءها. وُلِدَ بابيه في حيفا عام 1954 لأبوين ألمانيين هاجرا إلى فلسطين في ثلاثينيات القرن العشرين هربًا من صعود النازية. وأدى في شبابه المبكر الخدمة العسكرية الإلزامية خلال حرب 1973 على جبهة الجولان، ليعود لدراسته بعدها، ويقرر أن يكون مؤرخًا.
تلعب الصدفة دورًا في مساره، فبينما يخطو خطواته الأولى للتخصص في التاريخ، تُرفع السرية عن وثائق إسرائيلية وبريطانية وأمريكية متعلقة بتأسيس دولة إسرائيل والنكبة. فيحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أوكسفورد، ويعود إلى حيفا ليعمل أستاذًا في جامعتها، كواحد ممن سيتم تسميتهم لاحقًا بـ"المؤرخين الجدد"، الذين بنوا قراءاتهم لتاريخ دولة إسرائيل بالبحث في هذه الوثائق.
ينحاز بابيه مبكرًا للجانب الفلسطيني، كأكاديمي ومثقف ومناضل سياسي، ويتعرف مباشرة على قيادات فلسطينية من بينها ياسر عرفات، وإن لم تتوافر معلومات كثيرة عن هذا الجانب، أو عن احتمالية أن يكون قد لعب دور المستشار في الظل. لكن هناك محطتين أساسيتين حاسمتين في مصيره بترك إسرائيل نهائيًا، ليستقر في المملكة المتحدة ويعمل أستاذًا للتاريخ في جامعة إكستر.
المحطة الأولى في مطلع القرن الجديد. ربما يتذكر القراء أحد جوانبها، كونها وردت في بداية حلقة الدحيح الشهيرة "حكاية الأرض". وهي ما عُرف في إسرائيل بـ"فضيحة/حالة كاتز"، التي وصلت للقضاء، وتورط فيها بابيه مباشرة، وتتعلق بالطالب تيدي كاتز في جامعة حيفا، الذي قدم أطروحته للدكتوراة في التسعينيات عن مذبحة الطنطورة وتدميرها.
فبعد أن دخل الطالب خلال بحثه لمناطق غير مرغوب فيها، مسجلًا شهادات لإسرائيليين تورطوا في المذبحة، ومتناولًا إياها كنموذج للتطهير العرقي الممنهج الذي نفذته المجموعات الصهيونية في فلسطين، تتفجر الأزمة باكتشاف قطاعات من المجتمع الإسرائيلي ما مارسته دولتهم، ونهاية أسطورة أنَّ اليهود هم الضحايا الوحيدون لعمليات الإبادة في العصر الحديث، لتصل للمحاكم وللملاحقة.
يضطر كاتز للتراجع عن نتائج دراسته تحت وطأة الخوف والترهيب، ثم يعود للإقرار بها. لكن مَن لم يتزعزع في دفاعه عن مقدمات ونتائج الأطروحة، كان إيلان بابيه.
أما المحطة الثانية فقد وقعت بعد هذا الحادث بسنوات قليلة، حين أيَّد بابيه علنًا دعوات أوروبية لمقاطعة أكاديمية للجامعات الإسرائيلية. فطالبته رئاسة جامعته بالاستقالة منها. فيستقيل فعلًا، ويترك إسرائيل في 2007، ويذهب للعيش والعمل في المملكة المتحدة.
المثقف/الأكاديمي المشتبه به
بسبب تردي المناخ الأكاديمي العربي اعتدنا أن نتحسر على أنفسنا حين نتعرف على هذه المواقف الشجاعة والمصيرية التي يتخذها غير العرب، بإشهار مبادئهم والدفاع عنها، وهم واعون بأنها ستُلحق بهم الضرر. لكن قبل أن يستدعي موقف الأكاديمي الداعي لمقاطعة جامعته شعور الحسرة، عليَّ أن أشير لأكاديمي عربي فعل قبل أيام ما يشبه فعل بابيه.
في 15 مايو/أيار الماضي أقامت مجموعة من طلاب جامعة نيويورك حفل تخرجها خارج الجامعة، في مواجهة حفل التخرج الرسمي، بعدما أعلنت إدارة الجامعة أنَّ بعضهم "غير مُرحب به" في حفلها الرسمي، بسبب اعتصامهم من أجل فلسطين. في حفل التخرج البديل وجّه الأستاذ في جامعة نيويورك والروائي والشاعر العراقي سنان أنطون، الذي اعتُقل سابقًا من داخل الجامعة لعدة ساعات خلال الانتفاضة المؤيدة لفلسطين، كلمة للطلاب، وصف فيها جامعته بأنها أقيمت على أرض مسروقة مثلما سرقت إسرائيل الأرض الفلسطينية، وأنَّ الجامعة مؤسسة استعمارية، وأدان إدارتها بالتواطؤ مع حرب الإبادة الأمريكية-الإسرائيلية. واختتم كلمته بعبارة "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".
لا يدهشني استخدام سنان أنطون لتعبير "من النهر إلى البحر". ما يلفت النظر حقيقة هو اتساع استخدامه عالميًا، ومن أطراف كثيرة، من بينها بعض سياسيي الصف الأول الأوروبيين، للمرة الأولى منذ بداية النضال ضد المشروع الصهيوني قبل ثمانين عامًا، وبوعي لما يعنيه، رفضًا لوجود إسرائيل مثلما نعرفها.
لا أبالغ في رؤية هذه المواقف التي يتم تجذيرها من قبل كل الأطراف كمؤشرات لما هو جديد. مؤشرات إلى أننا نعيش مرحلة تحوُّل وبداية زمن حاسم، تتحول فيه فلسطين للقضية العالمية بألف لام التعريف، التي تجمع داخلها كل القضايا الأخرى. وأن تصبح رمزًا للنضال من أجل العدالة والحرية والمساواة.
لأضيف مؤشرًا آخر من ضمن مؤشرات كثيرة لدرجة يصعب حصرها؛ رغم أن إيلان بابيه معروف في أوساط أوروبية وأمريكية واسعة، وبالذات بسبب مؤلفاته التي تتجاوز العشرين كتابًا، فالدوائر الأمنية الأمريكية، ولأننا في زمن المعارك الحاسمة، قررت تجاهل مكانته الأكاديمية، وتعاملت معه وكأنه إرهابي محتمل أو مجرم دولي.
في يوم 13 مايو الماضي، احتُجز بابيه في مطار ديترويت في الولايات المتحدة، وسُمح له بدخول البلاد بعد تحقيق استمر لمدة ساعتين من قبل المباحث الفيدرالية، ونسخ بيانات هاتفه الشخصي. نشر بابيه على فيسبوك ما حدث، وعرض بلهجة ساخرة أسئلة المحققين معه؛ عن موقفه من حماس، وإن كان يرى ما يحدث في غزة عملية إبادة، وعن تصوراته لحل الصراع، ومن هم أصدقاؤه من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة. وربما يكون السؤال الأخير هو الأكثر منطقية في تحقيق أمني.
لم يتخلَّ عن حسه الساخر في التعليق على هذه الواقعة، مشيرًا إلى أن ملاحقة الأكاديميين، سواء كانت نتيجة لضغط مباشر من إسرائيل، أو نتيجة لضغط اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبسبب معاداته للصهيونية، مؤشر هام عن حالة الرعب التي تعيشها إسرائيل فيما يخص لحظتها الآنية ومستقبلها، رعب من اهتزاز أسسها.
الجدار المتهاوي وغباره
احتجاز إيلان بابيه له علاقة، غالبًا، بتصوره عن نهاية دولة إسرائيل، الذي بدأ في تطويره بداية من شهر فبراير/شباط الماضي، في محاضرة ألقاها أمام "اللجنة الإسلامية لحقوق الانسان" بالمملكة المتحدة(1). يفتتح أطروحته بفقرة سيستعيدها في خاتمتها، وإن كانت في البداية تبدو مخيفة، إلا أنها تكتسب جانبها المتفائل في النهاية.
يقول بداية "نحن في أول أربعة أشهر من فترة ستستمر سنتين، ستشهد أسوأ توحش تستطيع إسرائيل القيام به ضد الشعب الفلسطيني". ويعدل هذه الفقرة في النهاية مضيفًا إليها "فهذا المشروع الصهيوني التاريخي وصل لنهايته، وستكون نهاية عنيفة". وأنَّ نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وفي محاولته للنجاة، سيستخدم أبشع الوسائل دموية. لكننا، ودون أي شك، نشهد الآن نهايته.
يُشبِّه بابيه إسرائيل، كدولة ومشروع سينهاران في المستقبل المنظور، بجدار بدأت تدب فيه الشروخ، ربما نرى بعضها ولا نستطيع رؤية البقية، لكنه سيتهاوى فجأة، وفي تهاويه يتسبب، وسيتسبب، في الكثير من الدمار والضحايا، ليس من الفلسطينيين وحدهم، الذين كانوا دائمًا أول ضحايا المشروع الصهيوني، بل من اليهود أيضًا، باعتبارهم من ضحايا دولة إسرائيل.
لكنَّ نبوءة بابيه، إن تحققت، ليست مرعبة حصرًا لإسرائيل، بل لكل حلفائها، وأولهم الولايات المتحدة، الشريك التاريخي الأساسي في مشروع الدولة الاستعمارية الاستيطانية. بل ويمتد الرعب لأنظمة الشرق الأوسط، فزلزال السقوط قد يمسها.
بعيدًا عن استعارة الفيل المنتهي والجدار المتهاوي، تتفجر اليوم أسئلة لا تنتهي عن القضية الفلسطينية، وبصيغ شديدة المباشرة والتنوع، بداية مما يسمونه بأسئلة اليوم التالي، وصولًا لمعضلة الدولة الفلسطينية، وإنهاء وجود إسرائيل، مرورًا بأسئلة عن نهاية أو استمرار سلطة الحكم الذاتي، وفتح وحماس، وإعادة إحياء وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، وحقيِّ العودة وتقرير الشعب الفلسطيني لمصيره، وغيرها كثير.
إن كانت فلسطين التي نريد في المستقبل، بعد أن نشل حركة هذا الفيل داخل غرفة الخزف، تتسع للجميع من أمثال إيلان بابيه، كمواطنين في دولة ديمقراطية وعلمانية من النهر للبحر، وتتسع لضحايا الصهيونية من اليهود، فهي تستحق كذلك أن نلتفت لما هو عملي من أسئلة الحاضر والمستقبل، أبعد مما هو عاجل؛ إيقاف الإبادة. وهو ما سأحاول مناقشة بعض جوانبه في مقالات تالية، أطرح فيها الأسئلة حوله، والكثير منها بلا إجابات، وأولها تصور إيلان بابيه أننا نعيش نهاية المشروع الصهيوني.