تعترف إسبانيا اليوم، متأخرة 10 سنوات، مع بلدين أوروبيين آخرين، بدولة فلسطين. فالبرلمان الإسباني صوَّت بأغلبية ساحقة عام 2014 على هذا الاعتراف، وتأجلت الخطوة الإجرائية التالية؛ تصديق مجلس الوزراء، عدة مرات بحجج متنوعة، أو بالتجاهل، أو محاولة التراجع. لكنه اليوم يتحقق.
يُجمع الكثير من المحللين والمتخصصين الأوروبيين على أنَّ إسرائيل، وبسبب حجم الدم والدمار المذهلين في غزة، وحماقات قادتها، ووقاحتهم الدبلوماسية، نالت خسارة حاسمة هي الأولى في تاريخها، في معركة الرأي العام العالمي. وفقدت للمرة الأولى أيضًا مكانتها كابنٍ مدللٍّ، وأصبحت مادة للنقد، وأحيانًا التوبيخ، من أقرب حلفائها الدوليين. وهو ما يفسر جانبًا من هذا الاعتراف اليوم بفلسطين دولةً. لكن في الحالة الإسبانية، ولفهمها، علينا العودة للتاريخ، وللوضع السياسي اليوم.
فلسطين الأندلسية
الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس
الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود
الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود
دائمًا ما استوقفني سؤال عن هؤلاء الغجر الذاهبين للأندلس في قصيدة محمود درويش، بالذات بعد انتقالي للعيش في إسبانيا قبل ربع قرن. هل يقصدنا نحن بدخولنا الأندلس؟ أم من طردونا منها؟ لكنَّ هذا الوطن الضائع الذي قد يعود لم يكن أبدًا بالنسبة لي ولآخرين الأندلس، بل فلسطين. وإن ذُكِرت الأندلس في القصيدة، فهي استعارة شعرية لفلسطين الضائعة.
لا يحكي التاريخ عن غجر طَردوا أحدًا، فالغجر لم يكونوا في المعادلة أبدًا. هم يشتركون معنا، نحن العرب، في كونهم مطرودين من كل الأماكن. بل أُعِرنا صورتهم القديمة، لنصبح غير المرغوب بهم في أوروبا القرن الحادي والعشرين، ومن نفس الطرف الأوروبي صاحب أكذوبة النقاء.
شكلت الأندلس عند العرب المعاصرين حالةً من الحنين المبهم لأرض فُقدت بهزيمة كبرى. لكنها عند أغلب الإسبان تتقلص إلى مجرد محافظة جنوبية في بلدهم الواسع، لتتحول آثار حضور العرب في الثقافة واللغة والقصور والمساجد، دليلًا، ليس على مجد عربي، بل على تفوق إسباني حدث بطردهم على يد الملكة إيزابيل الأولى، المعروفة بـ"إيزابيل الكاثوليكية"، التي أسقطت آخر معاقل العرب في غرناطة، ووحدت عدة ممالك إسبانية تحت حكمها.
تخبرنا أول مفارقة تاريخية أنَّ أكثر أحفاد إيزابيل فخرًا بها، أي أصحاب النزعة الوطنية الفاشية في بدايات القرن العشرين الذين مجَّدوا وطنًا إسبانيًا عظيمًا ومسيحيًا نقيًا، هم من فتحوا بعض الأبواب الجديدة للعرب في منتصف القرن العشرين. فالديكتاتور فرانكو، وارث المجد الإمبراطوري الإسباني بعد أن تقلص وفقد مستعمراته، ومؤسس الخطابات العنصرية الإسبانية الحديثة ضد الأقليات بعد انتصاره في الحرب الأهلية الإسبانية 1939، وكاره اليهود بسبب أيديولوجيته الفاشية، كسر عزلته الأوروبية بعد اختفاء حليفيه هتلر وموسوليني، بالتقرب من العرب بداية من الخمسينيات.
يؤسس فرانكو لعلاقات ودودة مع العديد من البلدان العربية، وبالذات مع أمثاله من الجنرالات الذين حكموا بلادًا عربيةً. فنجد من آثار هذا التقارب معبدًا فرعونيًا وسط مدريد أهداه إليه عبد الناصر، ومنحًا دراسيةً كثيرةً لأبناء المشرق العربي من سوريين وفلسطينيين للدراسة في إسبانيا، والعديد من المراكز الثقافية الإسبانية في مدن عربية، ستكون بذرة معاهد ثيربانتيس فيما بعد، وصولًا لاستثناء إسبانيا من حظر النفط خلال حرب أكتوبر، كون إسبانيا لم تعترف بإسرائيل حتى عام 1986. أنتج ذلك كله تدريجيًا واقعَ أنَّ قطاعات واسعة من المجتمع الإسباني، وإن لم تدرك تفاصيل صراعنا مع إسرائيل، تشعر بالتعاطف مع الجانب العربي/الفلسطيني. وإن لم يُترجم هذا التعاطف لمواقف.
تزداد المفارقات غرابة بقفزة زمنية. فإن كان الفصل الأول طرد إيزابيل للعرب من الأندلس بدعوى التطهير العرقي والديني، والفصل الثاني تقربًا إسبانيًا من العرب على يد النظام الفاشي الكاثوليكي، فسيكون الفصل الثالث، الآني، أن يرى ورثة فرانكو في لحظة صعودهم وإحياء عَلَمه وأفكاره بعد موته بخمسين عامًا، المهاجرين العرب والمسلمين عدوًا أساسيًا، وخطرًا على نقاء الدولة الإسبانية. ويكون التحالف مع إسرائيل وتمجيدها هما الخطاب الجديد لهذا اليمين الأوروبي المعادي للسامية تقليديًا، الذي ساق اليهود للمحرقة.
من يوروفيجن للمنظر الجميل
في مساء يوم 11 مايو/أيار الجاري بدأ اليمين التقليدي والمتطرف الإسباني حملة فريدة على السوشيال ميديا وعبر الهواتف، للتصويت المكثف لصالح المغنية الإسرائيلية في مهرجان "يوروفيجن". بينما كانت المغنية منهارة من حملات الرفض لوجودها ومقاطعة المهرجان. ليس فقط في شوارع مالمو حيث عُقد المهرجان، بل داخل القاعة الهائلة التي تغني فيها.
بعد هذه الحملة بأسبوع، تحديدًا في 19 مايو، احتفَل في مدريد أكبر تجمع أوروبي ولاتيني لليمين المتطرف. شيء أشبه بـ"الأممية الفاشية"، بدعوة من حزب "بوكس"، الوريث الأوضح للفاشية الفرانكية، في قصر مؤتمرات "المنظر الجميل"، الذي كان في السابق حلبة لمصارعة الثيران، ويُستخدم اليوم قاعة للاحتفالات والمناسبات الكبرى.
حضر المؤتمر المُسمى بـ"أوروبا تعيش 2024"، لتدشين حملة اليمين المتطرف لانتخابات الاتحاد الأوروبي، عشرات الآلاف، على رأسهم قادة ورموز وممثلون عن كل حركات اليمين العنصري المتطرف في أمريكا اللاتينية وأوروبا. وكان من بين الضيوف المُحتفى بهم عميحاي شيكلي، وزير الشتات ومكافحة اللاسامية في حكومة نتنياهو.
المفارقات في زمننا لا تنتهي، فالوزير الإسرائيلي القادم ليتلقى دعم كل هؤلاء وهتافهم لبلاده، جاء مقعده في الصف الأول قريبًا من دعائيين بارزين لليمين النازي الجديد ومنكري المحرقة، مثل الكاتب الإسباني بيدرو باريلا، للدرجة التي أثارت دهشة واستنكار صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية. ولم يكن دعم إسرائيل، دولة المهاجرين اليهود، السمة الوحيدة التي وحدت الحضور، بل أيضًا الهجوم العنيف على المهاجرين العرب والمسلمين، واليسار الشيوعي والوسطي، بلهجة تُذكِّر بخطابات الفاشية الأوروبية قبل الحرب العالمية الثانية.
"المنظر الجميل" يستدعي مفارقة جديدة، فقد ارتبط في ذهن الإسبان خلال الأعوام الأخيرة باليسار الجديد، خاصة حركة "نستطيع"، حيث كانت تعقد مؤتمراتها الكبرى. ومن بين هذا اليسار إيوني بيلارا، الوزيرة السابقة التي انتشرت صورها بالكوفية الفلسطينية، وتصريحاتها الجذرية ضد إسرائيل مع بداية الإبادة في غزة. وأول من اتهمتها إسرائيل بمعاداة السامية من بين السياسيين الأوروبيين، قبل أن تترك الحكومة بعد أن حقق تيارها نتائج هزيلة في انتخابات الصيف الماضي.
يسيطر على الحياة السياسية الإسبانية التقليدية حزبان كبيران يتبادلان الحكم، الاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط)، والحزب الشعبي (يمين تقليدي). وجد كلا الحزبين خلال السنوات العشر الأخيرة قوتين جديدتين تدفعهما للاستقطاب. حركة "نستطيع" الآتية من الحركات الاحتجاجية، التي ستنقسم قبل الانتخابات الأخيرة بعد أن خرجت منها حركة جديدة باسم "إضافة"، تقفان على يسار الحزب الاشتراكي الديمقراطي وتضغطان عليه ليذهب أكثر لليسار. و"بوكس" اليميني المتطرف دافعًا الحزب الشعبي للتطرف يمينًا، كرد فعل على ظهور قوى يسارية جديدة.
لم يُصِب زلزال السابع من أكتوبر أسطورة الأمن الإسرائيلي فقط بل أصبحت توابعه أوراقًا داخليةً للصراع في الغرب
للتصدي للصعود اليميني، يضطر الحزب الاشتراكي الإسباني للتحالف أولًا مع حركة "نستطيع"، لتشكيل حكومة ائتلافية في صيف 2018، سُمِّيت بالحكومة التقدمية، وهي التي كانت بيلارا، صاحبة الكوفية، وزيرة فيها، ثم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يتحالف مع حركة "إضافة"، في ائتلاف برلماني هش لكنه قادر على الحكم.
وفي حين استطاع فعلًا حزب اليمين العنصري أن يدفع حزب اليمين التقليدي لمزيد من التطرف، وتبني بعض سياساته، ومن ضمنها الانحياز الكامل لإسرائيل، لم يتمكن الجذريون اليساريون، ولأسباب مختلفة من بينها تراجع شعبيتهم، من دفع الحزب الاشتراكي التقليدي يسارًا. وإن كانوا فرضوا عليه تبني بعض السياسات، بتأثير ضغطهم عليه داخل الحكومة والبرلمان.
فلسطين ورقة صراع داخلي
لم يُصِب زلزال السابع من أكتوبر أسطورة الأمن الإسرائيلي فقط، بل أصبحت توابعه، وتوابع الإبادة التي تلته، أوراقًا داخليةً للصراع في أغلب بلدان أوروبا والغرب.
في الحالة الإسبانية أصبحت فلسطين ورقة صراع يستخدمها طرفان أساسيان؛ اليمين التقليدي والمتطرف في هجومه العنيف ضد اليسار والحكومة، لـ"تهديدهم" مصالح إسبانيا والديمقراطية الغربية عمومًا، بسبب نقدهم لإسرائيل واعترافهم بالدولة الفلسطينية. والقطاع اليساري/الشيوعي القديم والجديد، المتعاطف تاريخيًا بثبات مع القضية الفلسطينية، والمشارك في كل الاحتجاجات المتعلقة بالقضايا العربية، في نقده لحكومة الحزب الاشتراكي و"إضافة"، لأنها لم تتخذ المواقف المناسبة ضد عملية الإبادة، وأولها قطع العلاقات مع إسرائيل، للدرجة التي جعلت البعض يبالغون في هتافاتهم في مظاهرات الأسابيع القليلة الأخيرة، "حكومة تقدمية.. حكومة صهيونية".
وبين الطرفين، يسيطر على الحكومة، وبالذات ملف الشؤون الخارجية، رئيسها بيدرو سانشيز من الحزب الاشتراكي الديمقراطي. يعلم، وتعلم وزيراته من حركة "إضافة"، غير الراضيات عن وسطيته تجاه ما يحدث في غزة، أنه محكوم عليهم بالتعاون، والوصول لحلول وسط، فالبديل هو سقوط الحكومة التقدمية، وحكم يميني يشارك فيه أحفاد فرانكو.
لم يكن للاشتراكيين الديمقراطيين تقليديًا مواقف منحازة بوضوح لفلسطين وللعرب مثلما هو شائع. فعلى سبيل المثال لم يشاركوا بشكل رسمي في الدعوة لأي تظاهرات من أجل فلسطين، رغم قدرتهم الهائلة على الحشد.
وتقليديًا، تغلب على مواقفهم الوسطية والحديث المبهم عن سلام ما وحل الدولتين، وترتهن في أوقات كثيرة بـ"الأممية الاشتراكية الديمقراطية"، التي يتحالفون فيها مع حزب العمل الإسرائيلي. وكثيرًا ما لعب السفير الإسرائيلي السابق في مدريد شلومو بن عامي، الصديق المقرب لعناصر قيادية في الحزب، دورًا في تشكيل رؤيتهم للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، ولجم نزعات النقد الجوهري لإسرائيل.
خلال الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر لم يختلف خطاب رئيس الوزراء الإسباني ووزير خارجيته عن الخطاب الرسمي الأوروبي الغالب، الداعم بالكامل لإسرائيل، والمشجع على عملية عسكرية تقضي على حماس إن أمكن. لكن بعد الأيام الأولى، وإن لم يتغير الخطاب الرسمي، فإنه خُفف بعض الشيء بضغط من وزيرات "إضافة"، وكرد فعل على الدعوات المتطرفة داخل دوائر الاتحاد الأوروبي لقطع كل المساعدات والدعم عن غزة، ووقف تمويل الأونروا، بما يعني الحكم بالإعدام على سكان القطاع والضفة. وهو ما لا تستطيع إسبانيا الأندلسية القبول به.
لكن التأثير الأهم جاء من الأسئلة التي بدأت تشغل وسائل الإعلام عن مدى العملية الإسرائيلية التدميرية. دون نسيان الحماقات الدبلوماسية الإسرائيلية، وخسارة إسرائيل لمعركة الرأي العام، وأن تكون للمرة الأولى موضع نقد رسمي، ومادة متداولة في محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية.
في مواسم الانتخابات تحتدم الصراعات، خصوصًا إن كان موسم انتخابات متتالية، فبعد انتخابات إقليمي الباسك وكاتالونيا قبل أسابيع قليلة، بدأت الحملات الانتخابية للبرلمان الأوروبي، باستطلاعات للرأي تشير لصعود مخيف لليمين المتطرف الأوروبي، وتحالفات جديدة له مع اليمين التقليدي. وهو ما يعقِّد الصورة أكثر.
أصبح الحزب الاشتراكي الحاكم مضطرًا ليس فقط للاعتراف بدولة فلسطين، بل لممارسة نقد أكثر وضوحًا لإسرائيل، حتى وإن ظل موقفه ثابتًا برفض استخدام مصطلح "الإبادة" لوصف ما يحدث في غزة، حتى أنَّ وزير الخارجية أسرع ليؤكد أنَّ وزيرة الدفاع عندما استخدمت هذا الوصف قبل أيام، كانت تعبر عن "وجهة نظرها الشخصية".
هناك سببان لهذا الاضطرار؛ أولهما إرضاء من يقفون على يساره، خصوصًا أنَّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية كان إحدى نقاط برنامج الحكومة الائتلافية، ومن قبل أحداث غزة، وثانيتهما الدخول بثقله لحلبة الصراع مع عدوه الأساسي؛ تحالف اليمين المتطرف والتقليدي. وإن شخصن نقده في نتنياهو، باعتباره المجنون أو المجرم الوحيد المسؤول عن الإبادة، دون استخدام هذه التعبيرات بشكل واضح أو مباشر بالطبع، ودون أن يمس جوهر النقد الرسمي الإسباني إسرائيل كمشروع عنصري واستيطاني وتدميري.
وهنا تأتي المفارقة الأخيرة؛ أنَّ كل قوى اليمين، بما فيها الحزب الشعبي الذي صوّت قبل عشرة أعوام في البرلمان للاعتراف بدولة فلسطين عندما كان حاكمًا، يشارك في الهجوم اليوم على هذا الإعلان بحجة أنه يُهدي حماس "الإرهابية" دولةً، مكافأةً على جرائمها.
أما عن الشارع، فنعم، المجتمع الإسباني يميل للتعاطف مع العرب الذين خرجوا مع بكاء الكمنجات، لأنَّ أصول الكثيرين اختلطت بهؤلاء الراحلين، ولأنَّ بقايا الثقافة العربية حاضرةٌ في العديد من المجالات، وإرث التقارب الفرانكي/العربي خلق واقعًا، حتى وإن رفضه المعادون للفاشية، والفاشيون الجدد. لكنَّ ميزان الصراع الحالي، في إسبانيا وأوروبا، وتطوراته، ستنعكس على صيغة الاعتراف اليوم، وخطواته التالية؛ أن يكون مجرد فعل رمزي بروتوكولي، أو أن تتبعه سياسات وخطوات عملية لصالح فلسطين.