تصوير باسل رمسيس، لـ المنصة
من اعتصام طلاب مؤيدين لفلسطين من خمس جامعات مدريدية في جامعة كومبلوتنسي 7 مايو 2024



البشائر مع فلسطين.. وإن أتت متأخرة

منشور الثلاثاء 14 مايو 2024

كنت أقف في شرفة منزلي بمدريد، حيث علَّقت علمًا فلسطينيًا. يعبر في الشارع رجل وامرأة مُسنَّان، تطلعا إلى العلم، ثم مضيا، وعادا بعد دقيقتين. وقفا أمام الشرفة مترددين في بدء الكلام، حتى خاطبتني المرأة "عاشت فلسطين". أجبت تحيتها بنفس العبارة، "عاشت فلسطين"، مضيفًا "من النهر إلى البحر".

سألاني عن حال عائلتي هناك؛ في فلسطين. أخبرتهما أنني مصري، وحكيت قليلًا عما يربطني بها. سألني الرجل إن كنت أعلم أنَّ هناك اعتصامًا طلابيًا من أجل غزة في الجامعة، فأخبرته بأنني عائد للتو من هناك. فقالت السيدة متمنية "مَن يعلم؟! ربما تكون 15 مايو جديدة".

ودَّعاني ورحلا، لأندم على عدم دعوتهما للصعود إلى بيتي.

لا بد أنَّ الكثيرين من منتقدي تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية في إسبانيا، والقلقين حيال صعود تيارات اليمين المتطرف، يرددون فيما بينهم أننا نحتاج لـ15 مايو جديدة، في استعادة لذكرى الحركة الاحتجاجية الشبابية، التي بدأت يوم 15 مايو 2011، مستلهمة أسلوب احتلال الميادين العامة للثورة المصرية قبلها بشهور.

متظاهرة ترفع لافتة "ميدان التحرير" خلال الاحتجاجات الإسبانية عام 2011 التي تأثرت بثورات الربيع العربي.

أحدَثت حركة 15 مايو زلزالًا مُهددًا للطبقات والأحزاب الحاكمة، وغيرت الكثير من قواعد اللعبة السياسية، لكنها فشلت في حمل ممثليها إلى السلطة عبر الأحزاب والحركات السياسية التي خرجت منها، بالرغم من مشاركتهم في حكومات ائتلافية، وفي حكم بعض المدن الأساسية.

ومع تراجع القوى السياسية، ابنة حركة الاحتجاج، والصعود السريع لليمين المتطرف والعنصري، كنا نجد أنفسنا، بالذات في مدريد حيث تحكمنا "أيوسو"، نتنهد أسفًا ونردد أمنية السيدة "لابد لنا من 15 مايو جديدة".

أيوسو لا تعرف فلسطين

قد لا تعرفون عن أيوسو، فلأرسم لها صورة "درامية/أدبية" سريعة، لفهم أحد عوامل انتشار الانتفاضة المناصرة لفلسطين في مدن أوروبية جديدة كل يوم، وتحولها لانتفاضة طلابية عالمية، ففي كل مدينة توجد أيوسو واحدة على الأقل.

إيزابل دياز أيوسو هي حاكمة محافظة مدريد منذ 2019. وصلت للمنصب بالصدفة، بفضل فضيحة أخلاقية دمرت سمعة رئيستها السابقة، وأيضًا تحالفها مع اليمين العنصري المتطرف. تتمتع بعدد من المميزات؛ أهمها الشعبوية، والقدرة على السب وتوجيه الإهانات، والملامح الوسيمة التي تستطيع تحويلها لإيماءات قبيحة وشرسة في أقل من ثانية.

تتمتع أيوسو كذلك بموقع شديد القوة داخل حزبها، الحزب الشعبي. للدرجة التي تجعل من يُسمّون بـ"سادة الحزب" يفكرون مائة مرة قبل معارضتها. وبالذات بعد إطاحتها برئيس الحزب السابق لأنه تحدث في لقاء تليفزيوني عن تورط أخيها في صفقات مشبوهة. فأدار مساعدو أيوسو، ووسائل الإعلام التابعة إليها، انقلابًا علنيًا أطاح به خلال أيام قليلة.

أيوسو، ورغم فضائح الفساد التي طالت أخاها، وأباها، وأخيرًا صديقها الحميم، ورغم احتمال تورطها هي نفسها، وارتجالها السهل لأكاذيب ومغالطات تخص هذه الفضائح في مؤتمراتها الصحفية، لا تزال تحقق نجاحات مبهرة في كل استطلاعات الرأي المدريدية. ولا تنكر هدفها؛ أن تكون أول امرأة تحكم إسبانيا. فتكسب تصفيقًا مدويًا من ناخبيها في كل مرة تتجاوز حدود سلطتها، لتناطح رئيس الوزراء مباشرة، وصولًا لسبِّه؛ "ابن الداعرة" في البرلمان، بينما تصور الكاميرات حركات شفتيها.

رئيسة مدينة مدريد إيزابيل دياز أيوسو تستقبل المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للغة وأدب وتاريخ البحار والملاحة، 7 مايو 2024.

باختصار، هي صورة أنثوية من ترامب، أو الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو، ونماذج أخرى كثيرة من اليمين المتطرف الصاعد عالميًا. وهي، مثلهم، لا تحتاج للحديث في السياسة لتنجح سياسيًا؛ ففي مواسم الدعاية الانتخابية، وبينما تجتهد القوى السياسية في صياغة البرامج، أو على الأقل ادعاء الجدية وبذل الجهد في صياغتها، كان البرنامج "الأيوسي"، الذي أرسلته لمواطني مدريد عبر البريد، عبارة عن ورقة واحدة، تشغل صورتها أحد جوانبها، وتشغل الوجه الآخر كلمة واحدة، مكتوبة ببنط صغير وموضوعة في منتصف الصفحة؛ حرية.

الحرية كلمة جميلة، تثير أشجاننا نحن أبناء بلدان جنوب البحر المتوسط. لكنَّ الحرية التي تتحدث عنها أيوسو، التي أستطيع وصفها بادعاء البلاهة، مُبسَّطة؛ وهي حرية شرب البيرة في بارات العاصمة في زمن الجائحة والحظر. وإن تدخلنا في السياسة قليلًا، سنجد أنَّ حرية أيوسو الواقعية هي تدمير كل الخدمات العامة الأساسية، من تعليم وصحة ومواصلات ورعاية اجتماعية، لصالح الشركات الخاصة الكبيرة، تحت يافطة "حرية البيزنس".

أيوسو متيمة بإسرائيل، للدرجة التي تجعلنا نشعر أحيانًا بأنها تحبها أكثر من إسبانيا. وهي لا ترى صديقًا أقرب لبلدها من إسرائيل، ولا عدوًا أخطر من حماس "الإرهابية"، سوى الشيوعيين "حلفاء الإرهاب". وحين تتحدث خلال الشهور الأخيرة، نشعر وكأن أشرار حماس واقفون على أبوابنا بأسلحتهم، سيقتحمون بيوتنا، ويقتلوننا.

الحل الوحيد، الذي لا بديل عنه لهذا التهديد، حسب أيوسو، هو تدمير غزة لصالح الديمقراطية الإسرائيلية، في تجسيد مأساوي لمسخرة أن تكون أيوسو، ومعها اليمين الأوروبي العنصري الجديد، ورثة اليمين القديم الذي ساق اليهود للمحرقة، هم من يتهمون الآخرين بمعاداة السامية.

تعلم أيوسو جيدًا أننا نتمنى 15 مايو جديدة، وتعلم أيضًا أنَّ الشرارة تحدث في لحظة. فنجدها، رغم احتقارها للحركة الطلابية العالمية لمناصرة فلسطين، لا تستهين بها، تعي خطورتها، وبأنها من الممكن أن تكون بداية تهديد سلطتها. فلا تتوقف عن مهاجمة الطلاب المتضامنين مع فلسطين في أي مكان بالعالم باعتبارهم "معادين للسامية" و"حلفاء للإرهاب"، مناشدة رؤساء الجامعات المدريدية بألا يسمحوا لهذا التخريب الحاصل في الجامعات الأوروبية والأمريكية، والقليل من الجامعات الإسبانية في مقاطعات أخرى، بالوصول للجامعات المدريدية.

بعد ساعات قليلة من النداء الأيوسي، بدأ اعتصام طلاب الجامعات المدريدية الخمس في أحد أفنية جامعة كومبلوتنسي، جامعتها السابقة. وفي ظرف ساعات قليلة، نُصبت الخيام، وارتفعت اللافتات وأعلام فلسطين، ودعا الطلاب جميع المتضامنين مع فلسطين للاحتشاد معهم لتدشين الاعتصام مساء يوم 7 مايو/أيار الجاري. متزامنًا مع بداية اجتياح رفح، واكتمال الأشهر السبعة لعملية الإبادة.

تخشى أيوسو أن يتسلل دعم فلسطين إلى الجامعات الإسبانية

وهناك، في الاعتصام، وخلال الهتاف لفلسطين الحرة من البحر إلى النهر، عاد التأثر لوجوهنا، وردد بعضنا "ربما تكون بداية لحركة 15 مايو جديدة"، بينما نرى يومها، وفي الأيام التالية، كيف يتضاعف عدد خيمات الاعتصام عدة مرات وتتسع مساحته، وكيف تتضاعف التبرعات التي يستقبلها، وتوافُد المثقفين والفنانين والكاميرات عليه، والبرامج التليفزيونية والإذاعية التي تحييه، بل وتُبث بعضها من ساحته وبين الطالبات والطلاب المرتدين للحطة الفلسطينية. متحولًا لقبلة المناصرين لفلسطين في مدينة أيوسو.

رانيا تعرف فلسطين.. وتعرف أيوسو

بعد سبعة أشهر من التظاهر أسبوعيًا، والوقفات الاحتجاجية أمام وزارة الخارجية الإسبانية أو مقر الاتحاد الأوروبي، في مساء يوم 7 مايو أشركنا طلاب جامعات مدريد في أكثر الوقفات حيوية وسخونة من أجل فلسطين، بالرغم من أنهم لم يتعدوا بضع مئات في اليوم الأول.

يشبهون غيرهم من الطلاب الذين يرون في فلسطين قضيتهم، أيًا كان الزمان والمكان. فمثلما غطى الطلاب المصريون وجوههم أحيانًا بالحطة الفلسطينية وقت المواجهات مع قوات الأمن، متشبهين بصورة الفدائي الفلسطيني على مدار عقود، يغطي بعضهم وجوههم بالحطة بينما يرددون أكثر الهتافات جذرية. ويشبهونهم في نظرات الأعين المباشرة والغاضبة، والصوت المبحوح، بينما يتداولون بينهم الميكروفون اليدوي الذي تعطب بطارياته سريعًا.

دعت إدارة جامعة كومبلوتنسي العام الماضي سفيرة إسرائيل للقاء مع طلابها. كان على الطلاب تسجيل أسمائهم لحضور اللقاء في قاعة المناسبات الكبرى. فوجئ الطلاب عند مدخل القاعة بعلامات على قائمة المدعوين، وضعها الأمن على أسماء من يُشتبه أنهم عرب، أو من أصول عربية، لمنعهم من حضور اللقاء. غضب الطلاب، وحاولوا منع السفيرة من دخول القاعة، فأخرج حراسها السلاح في مواجهتهم وفي حرم جامعتهم، وكانت رانيا من بين الطالبات.

تدرس رانيا التاريخ في كلية الآداب. وهي اليوم إحدى المتحدثات باسم الاعتصام. ابنة مهاجرين مغربيين أتيا في نهاية الثمانينيات. ومن ضمن الأقلية العربية، أو ذات الأصول العربية، في الاعتصام المشكل في أغلبه من طالبات وطلاب وأساتذة إسبان.

تقف رانيا أمام كاميرات وميكروفونات الإعلام، بينما تلف الحطة الفلسطينية حول كتفيها. تبدأ الحديث معهم، ومعي، بمطالب الاعتصام المباشرة: وقف كل أشكال التعاون الأكاديمي والثقافي بين الجامعات الإسبانية والإسرائيلية. وقف مبيعات السلاح الإسباني لإسرائيل. قطع كل العلاقات بين الدولتين الإسبانية والإسرائيلية. واعتراف الحكومة الإسبانية الفوري بدولة فلسطين. لكنها تبحث عن فرصة خلال الحوار لتصل للنهاية، للسقف الأعلى الذي يشاركها فيه زملاؤها الجذريون، "لا بد وأن تنتهي دولة إسرائيل"، وتحرير فلسطين بالمقاومة المسلحة من النهر إلى البحر، لا أقل.

رانيا وزملاؤها مثلنا، حين كنا في مثل أعمارهم، ومثل طلاب الجامعات الأمريكية والأوروبية المنتفضين الآن، ومثل كل الشابات والشباب المصدقين حقيقة في قضاياهم في كل الأزمنة والأماكن؛ لا يستطيعون فصل القضايا عن بعضها، ويتخذون حيالها الموقف الأخلاقي/السياسي الأكثر صدقًا، حتى وإن كان مستحيلًا أو مرتبكًا بعض الشيء، وحتى وإن كان على حساب مستقبلهم في وقت اقتراب الاختبارات النهائية.

هم يقررون في اللحظة الفعل المناسب، وينفذونه مباشرة. فبينما يتم الاعتصام على عكس رغبة إدارة الجامعة وأيوسو، ومن المحتمل أن يتسبب في أضرار للمشاركين فيه، يقررون في يومه الافتتاحي قطع الطريق، ليسيروا ونحن معهم لعدة مئات من الأمتار في الطريق الرئيسي الذي يربط بين أجزاء ما يعرف بمدينة الجامعة. بينما نتلفت حولنا منتظرين ظهور قوات مكافحة الشغب لفض هذا التمرد الفلسطيني الصغير في قلب مدينة مدريد.

لم تحضر قوات مكافحة الشغب، ينهي الطلاب المسيرة، ويدشنون اعتصامهم بقراءة بيانه الأساسي. فندرك أنهم يأتون في لحظة الظلام التام، ليشهروا الموقف المبدئي الأقصى، ضد إسرائيل، والصهيونية، والإبادة، والبرجوازيات الأوروبية، والإمبريالية، والاستعمار، والعنصرية، واليمين المتطرف.. إلخ. كل ذلك في بيان واحد.

يستعيد الطلاب فلسطين لتكون القضية الرمزية التي يجتمع عندها كل الثوريين والمتمردين في العالم، أيًا كانت أماكنهم، وأيًا كانت قضاياهم الأساسية. وتعود إسرائيل، وأصدقاؤها "الأيوسيون" رمزًا لكل ما هو قبيح في العالم، باختلاف الثقافات والأماكن.

وليجعلونا نتمنى "ربما تكون 15 مايو جديدة".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.