لدينا في مصر مثل شعبي دارج، من البذاءة المُركَّبة التي تجعل شرحه أخفَّ وطأة من ذكره، يقول بأنك إذا خالطت الأثيم سيصِمُك بإثمه، فهو من فرط ما اقترف سيعمد إلى إلهائك بأن يصفك بما فيه.
ينطبق هذا المثل المصري البذيء على تهمة معاداة السامية التي تطارد كل مناصري القضية الفلسطينية هذه الأيام بمن فيهم اليهود. وعلى القارئ ألَّا يندهش، فهناك عشرات اليهود المناهضين لدولة إسرائيل متهمون الآن في أوروبا وأمريكا بمعاداة السامية، وتُقطع أرزاقهم جنبًا إلى جنب مع العرب المتضامنين مع الفلسطينيين.
الأمر يبدو شديد العبثية، والمشهد ملتبس ويحتاج إلى قدر من الصبر والتأنِّي لتفكيك عناصره المُركَّبة، لكنَّ عنوانه العريض أنَّ الصهيونية والفاشية يتماهيان الآن كما لم يحدث قط في التاريخ.
مبدئيًّا؛ نحن إزاء تيارات يمينية أوروبية معادية تاريخيًا للسامية بدرجات متفاوتة، وكراهية اليهود جزء لا يتجزأ من عقيدتها، تتناسب يمينيتها طرديًا مع تأييد إسرائيل ودعمها، باستثناءات قليلة.
على سبيل المثال لا الحصر؛ ستجد زعماء اليمين المتطرف في فرنسا أمثال مارين لوبان وعلى يمينها إيريك زيمور، اليهودي الأمازيغي، يشاركان بحماس في فعاليات داعمة لإسرائيل. وستجد زعيمة حزب أخوة إيطاليا الفاشي ورئيسة الحكومة الحالية جورجيا ميلوني في موقع مشابه.
أما ألمانيا، التي يحكمها "يسار الوسط"، فلا ينبغي أن تشهد حالة التصهين التام التي تسيطر عليها اليوم فقط من منظار عقدة ذنب الهولوكوست، فمهما كانت أطياف الماضي حاضرة، نحن أبناء اللحظة الراهنة وشرطها المادي.
في اللحظة الراهنة، تُشكِّل الصهيونية الألمانية غطاءً لموجة يمينية وعنصرية موجهة بالأساس ضد المهاجرين من أصول عربية وإفريقية، تهدف إلى ضبطهم وإعادة تربيتهم وفقًا لما يتصوره الألمان قيمًا سليمة، وهي حالة بوليسية معادية للحريات بشكل فجٍّ ومقبض، تتعزز من داخلها قوى أقصى اليمين، بمزيج جديد يخلط القومية الألمانية والإرادة الدولتية مع الصهيونية.
ترديد شعار "من النهر إلى البحر" دون توضيح أهدافه يدفع إلى اعتباره تحريضًا على إبادة اليهود
أوروبا العجوز، ويمينها تحديدًا، تحاول منذ فترة استحضار شبح اليهود في جسد الوجود العربي والشمال الإفريقي المهاجر ذي الطابع العمالي، ويسبغون عليه صفات عرقية وثقافية في إعادة توجيه لموروث معاداة السامية المتأصل في ثقافة اليمين الأوروبي، وفرنسا وألمانيا مثالان فجَّان على ذلك.
هناك موجة أوروبية معاصرة من معاداة السامية، ولكنَّ العرب المهاجرين هم الساميون هذه المرة. ولكن كيف يمكن لفاشيين أوروبيين الوقوع في غرام إسرائيل، ودعمها دعمًا غير مشروط؟
صورة مركبة للحظة مكثفة
إجابة هذا السؤال تتكون من جملة أسباب، أنتجت بتضافرها السعار الحالي، سأورد منها أهمَّ اثنين. كنت أشرت في مقال سابق إلى أنَّ الولايات المتحدة ورهائنها الأوروبيين قرروا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية إعادة تشكيل معسكر جديد اسمه "الغرب". هذا المعسكر يشبه حتى الآن الشخصية التي تبحث عن مؤلف، لأنه لم يعد معسكر الديمقراطيات ضد السلطويات، ولا الرأسماليات ضد الاشتراكيات، بعدما توسعت عضويته لتعجَّ بالديكتاتوريات واليمينيات السلطوية شرقًا وغربًا، عربًا وعجمًا.
في هذا الإطار، يمكن للصهيونية أن تصبح أحد أشكال تعريف هذا المعسكر "الحر"، يتبدَّى هذا جليًا في مقاربة إسرائيل بأوكرانيا، باعتبارهما ضمن "ديمقراطيات" تحارب الاستبداد والبربرية الشرقية. قطاع معتبر من القوميين الأوكرانيين فاشيست ويفتخرون، ولم يمنع ذلك وضعهم في طليعة معارك "العالم الحر" من وجهة نظر أوروبا وأمريكا، والصهاينة لا يحتاجون أيَّ مجهود لكشف هذا الطور المنحط لليمين الأوكراني.
وعليه، فإن هذا "الغرب" العاجز عن تعريف نفسه، سيسعى لإيجاد هذا التعريف من خلال "معاركه المقدسة" التي لا صوت يعلو فيها فوق صوت الرصاص.
ولهذا أيضًا سنجد كلَّ تيارات اليمين الغربي، وحتى يسار الوسط، في حالة تماهٍ مع التعريف الإسرائيلي المعاصر للصهيونية؛ حيث تتناص دولة إسرائيل مع الصهيونية مع اليهودية والسامية. وفقًا لهذه القاعدة، سيصبح أيُّ عداء مع إسرائيل كدولة، أو مع الصهيونية كأيديولوجيا، عداءً لليهود وللسامية بالتعريف، حتى لو كنت يهوديًا.
وحدهم مَن في تيارات أقصى اليسار والشيوعيون يشذون عن هذا التوجه، لذا تطالهم تهم معاداة السامية صباحًا ومساءً، من جيرمي كوربين في بريطانيا إلى جون لوك ميلانشون في فرنسا ويانيس فيروفاكيس في اليونان.
أما السبب الثاني؛ فهو أنَّه في وقتٍ تمارس فيه إسرائيل على أرض الواقع سياسة الدولة اليهودية من البحر إلى النهر، عاد داعمو الشعب الفلسطيني لترديد شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، بعدما غاب عن المشهد السياسي الدولي لسنوات طويلة.
ترفع مظاهرات عملاقة في قلب أوروبا وأمريكا الشعار الذي تتبناه الآن تيارات يسارية محلية، ليدخل في متن اللغة السياسية الأوروبية والأمريكية من جديد وبقوة، ومع هجوم مسلح شديد الدموية من المقاومة الفلسطينية، بعد إدراك استحالة شعار حل الدولتين، المستحيل أصلًا من البداية قبل أن تزيده إسرائيل استحالة، وهنا تأتي صدمة الصهيونية.
ولكن على جانب آخر، لا يمكن إنكار الطبيعة الغامضة لهذا الشعار، لأنه لا يملك تصورًا واضحًا عن مصير ملايين اليهود في فلسطين بعد تحريرها من البحر إلى النهر. وكتبت منذ عدة أعوام مقالين عن هذه المعضلة. يُرفع هذا الشعار وليس في مخيلة من يرفعه تحقيقه فعليًا، لأنَّ ثقافة الانتصار واستحقاقاته ومسؤولياته غائبة عنه.
يذهب هذا الشعار في صيغته النهائية نحو تأسيس دولة ديمقراطية غير دينية، يتساوى كلُّ مواطنيها في الحقوق والواجبات، بما فيها حق عودة كل لاجئ فلسطيني، وتفكيك الآلة العسكرية والأمنية الصهيونية. ولكنَّ ترديده دون توضيح مراميه، يدفع القوى الصهيونية والمتصهينة إلى اعتباره تحريضًا على إبادة اليهود عرقيًا في فلسطين. ولأنَّ غموضه غير بناء، ويعكس عدم تبلور رؤية واضحة لمرحلة ما بعد إسرائيل، فهذه أزمتنا نحن، وليست أزمة من يتخذون من هذا الغموض حجَّة علينا.
عزز الأمر أيضًا أنَّ عصيان 7 أكتوبر المسلح اتخذ أشكالًا شديدة القسوة على مستوى العنف الشعبي الانتقامي من الاحتلال، ما اعتبرته الذهنية الصهيونية الغربية "مقتلة مفتوحة"، يجب أن تكون متبادلة وفقًا لقاعدة البقاء للأقوى، وعليه يجب تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، طالما أنها إبادة في مقابل إبادة.
هل الساميون معادون للسامية؟
يشعر العربي المعاصر بأنَّ له ألف ثأر مع "اليهود". وعندما يرى المواطن العربي العادي "العالم المتحضر" يساوي اليهودية بالصهيونية بإسرائيل، لا يكون مطلوبًا منه التمييز بين المعاني الثلاثة. العامة ليسوا مثقفين ولا أنبياء، وهم إذا وجدوا الصهاينة يُعرِّفون أنفسهم كيهود، فلماذا لا يعادي هو هؤلاء اليهود؟
لكن بالرغم من كلِّ شيء، يظلُّ مقدار كراهية هذا العربي لليهود مرتبطًا بالوضع الذي ينتجه وجود دولة الاحتلال، لأنها كراهية محمولة على أكتاف السياسة والحروب، وتظلُّ أقلَّ بُغضًا من كراهية قطاعات من الأوروبيين نحو اليهود بشكل صامت وخبيث.
معاداة السامية حالة أوروبية بشعة وكريهة تفوق أيَّ تصور، نحن لا نفهمها، ولا نفهم منطقها، وما معاداة العرب والمسلمين المهاجرين إلى أوروبا حاليًا إلا مجرَّد طيف بسيط وخافت من تراث عداء السامية المتجذر في أوروبا ضد اليهود.
فمثلًا، ظلَّ كارل ماركس الذي تحولت عائلته إلى البروتستانتية اللوثرية قبل ميلاده بعام، يهوديًا في عين أوروبا كلها حتى مماته، وربما إلى الآن. ولم تعترف الأنظمة الفاشية في أوروبا بتحول عشرات آلاف اليهود إلى المسيحية، وساقتهم إلى معسكرات الإبادة، لأن اليهودية عندهم وجود شاذ عالق بين القومية والهجرة ذات الملامح الشرقية، أي أنه وجود لا يعالجه الزمن. هي ليست مجرد دين كتابي مُحرَّف عند أشد المسلمين غلوًا.
في مصر كان يكفي أن تشهر ليلى مراد إسلامها لتزيل آخر ضغينة عند آخر إنسان طائفي، وستجد أكثر الإسلاميين تطرفًا في فلسطين يحتفى بكلِّ صدق وإخلاص بإسلام أحد اليهود، ليتحول بين عشية وضحاها من حفيد للقردة والخنازير إلى أخ في الله ندعو له بالثبات.
بلادنا لا تعرف معاداة السامية بالمفهوم الأوروبي، بل تعرف التمييز الطائفي الديني الذي يضع غير المسلمين في مرتبة أدنى من المسلمين، سواء كانوا مسيحيين أو يهودًا، وهي مظاهر محمولة على تراث التقليد الإسلامي للحكم. وتاريخيًا، مورس هذا التمييز ضد المسيحيين بشكل أساسي، فيما ظلَّ اليهود أكثر حظوة في البلاطات السلطانية الإسلامية.
لا يزال التمييز الطائفي في بلادنا محلَّ كفاح ونضال على طريق تأسيس جمهورية المواطنة والمساواة، لكنه ليس محلَّ مقارنة مع معاداة السامية لدى الأوروبيين، التي لا نفهمها، وإن كان بإمكاننا أن نلمح أطيافها في تراث العلاقة مع بعض الطوائف الباطنية في المشرق العربي، مثل الدروز والعلويين.
أما في حالة اليهود العرب، فحتى تأسيس دولة إسرائيل لم يكن هناك موضوع من الأصل فيما يخص وجودهم في بيئتهم الاجتماعية الطبيعية، سواء في المغرب أو العراق أو مصر أو اليمن، بل إن نسبة من يهود هذه البلدان، وبحكم معرفتهم بتنامي النشاط الصهيوني في المنطقة، قرروا وبشكل مبكر خوض معارك ضارية ضده، وهو ما يفسر انضمام كثير منهم إلى صفوف الحركات الشيوعية العربية في بداياتها.
مشكلة العرب والمسلمين مع اليهود مشكلة سياسية محمولة على وجود دولة إسرائيل التي تشنُّ العدوان تلو الآخر علينا. وفي هذا الإطار السياسي تُستدعى أدبيات الكراهية الدينية للحشد والتعبئة، بنفس الكيفية التي حوَّل بها العراقُ الإيرانيين إلى مجوس وفرس عبدة للنار أثناء حربه مع بلادهم. العرب لم يرتكبوا مذابح إبادة مثلما فعل الأتراك بحق الأرمن، وعلى الأغلب لن يرتكبوها بالرغم من كل ما حدث ويحدث.
لتكن البوصلة أكثر وضوحًا
في ظني، كاشتراكي ومصري وعربي، يظل الهدف النهائي من هذا الصراع تفكيك دولة إسرائيل كحاملة طائرات أمريكية يسكنها مستوطنون إحلاليون، لأنَّ أصل إشكال "الاستيطان اليهودي" هو وجود هذه الدولة وسيادة آلتها العسكرية، والدور المركزي الذي تلعبه في تشكيل المنطقة وتحديد مصائر شعوبها بأشدِّ الصيغ ظلامية وكآبة.
وجود إسرائيل كرأس حربة للإمبريالية والاستعمار والاستيطان الطبقي الاستعلائي هو لُبُّ صراعنا معها، وما المآسي المتولدة العديدة، بما فيها المأساة الفلسطينية منذ 1948، إلا عرض بشع من أعراض هذا الوجود، ويظلُّ العرض الرئيسي لوجودها في المنطقة هو عسكرة ودروشة دولنا ومجتمعاتنا وسيادة الاستبداد والغمِّ والرداءة، بعلة وجودها وسيادة منطقها المنتصر.
المبدئية نفسها تقتضي الاشتباك أيضًا مع "معاداة السامية"، ونقد موقعها في الخطابات السياسية العربية المعاصرة، وبيان خطورتها على فرص انتصارنا على إسرائيل. فعلى الرغم من التباس معنى ودلالات هذا المفهوم في ثقافتنا، واختلافه الجذري عن المدلول الأوروبي، فإنه يفرض علينا وجود إسرائيل الذي تحقق بقرار دولي واستعماري الاشتباك مع المدلول الأوروبي لمعاداة السامية وأثره على وعينا.
لأنه مثلما بدأت إسرائيل واستمرت بقرارات وتوافقات أطراف دولية، ستساهم أطراف ومكوّنات دولية أخرى في تفكيكها، خاصة وقد أصبح جليًا أنَّ قوى اليمين الغربي المعادية للسامية أصلًا، تدرك ولا تمانع أن تؤسس بدعمها المطلق لإسرائيل وضعًا يُفضي في تصاعده إلى محرقة يهودية ثانية، ولكن بأيدينا نحن هذه المرة، وبالوكالة عنهم.
سيجد مصطلح "الصهاينة العرب" مكانه في اللغة السياسية العربية قريبًا، لوصف عقيدة وممارسة الاستيطان
لذا وباعتبارنا أحرارًا ذوي إرادة عاقلة، أو بعضنا على الأقل، علينا أن نكون واضحين مع أنفسنا، قبل الآخرين، في أننا لن نرتكب إبادة أو محرقة، وعلينا أن نتجنب كلَّ السبل التي تؤدي إلى ذلك، مهما بلغت حدة الصراع المسلح.
إنَّ مكافحة المدلولات الأوروبية لـ"معاداة السامية" مدخل رئيسي للقضاء على هذا الكيان المأفون المُسمَّى إسرائيل، بعد أن أصبح خطرًا على البشرية، والسلام العالمي، والأمان النووي. تفكيك هذا الكيان يصبح مع الوقت مهمة إنسانية، وجزء منها هو الحفاظ على اليهود أنفسهم، وتحييد أكبر عدد ممكن منهم عن مصائر مشؤومة اختارها جزء معتبر منهم.
المفتاح الرئيسي في إنهاء دولة إسرائيل هو فكُّ ارتباطها بالغرب والمصالح الإمبريالية، عبر إضعافها سياسيًا وعسكريًا وأخلاقيًا للدرجة التي تحولها إلى عبء على هذه المصالح. ومكافحة معاداة السامية جزء من هذه الاستراتيجية، لأنها في صميم فك ارتباط إسرائيل بالإمبريالية والاستعمار أثناء عملية تفكيكها.
للصديق العزيز عاصم قزاز تعريف خاص للماهية الفلسطينية، وهي أنها تشمل كلّ من تضرر من وجود دولة إسرائيل، ووفقًا لتعريفه فأنا بمعنىً ما فلسطيني. وبمفهوم المخالفة، بإمكاننا تعريف الصهاينة في المنطقة بأنهم كلُّ من استفاد من وجود دولة إسرائيل، سواء كانوا يهودًا أو مسلمين، عربًا أو مستعمرين.
علينا أن نمدَّ أيدينا إلى كلِّ اليهود المناهضين للصهيونية، في نفس اللحظة التي نركل فيها بأقدامنا كلَّ "الصهاينة العرب".
أعتقد أنَّ مصطلح "الصهاينة العرب" سيشقُّ طريقه ويجد مكانه في اللغة السياسية العربية في الفترة المقبلة، ليس للتحقير والإدانة، بل لوصف عقيدة وممارسة الوجود الاستيطاني المسلح، المشمول بامتيازات طبقية خاصة وحصرية يُحرَم منها أغلب السكان، الذين إن عبّروا عن رفضهم لهذه الصيغة طلبًا للمساواة أو الكرامة، سيعاملون كـ"حيوانات بشرية".
وعليه، بإمكان هذا الوصف أن يشمل صهاينة مصريين، وصهاينة يهودًا، وصهاينة سوريين، بل وصهاينة فلسطينيين، يجتمعون جميعًا حول هذه الدلالة الجديدة لمعنى "الصهيونية"، المغايرة على مستوى التحقق والممارسة في الشرق الأوسط لمعناها الأصلي. فنحن نعيش اليوم في عالم أكثر صهاينته تصهينًا هم من العرب العاربة، وليس كلّ اليهود فيه صهاينة، بل أغلب صهاينته مِن غير اليهود.