"هو مفيش أمل نوقَّف الحرب دي خالص؟" كان سؤال أحمد بريئًا يشبه سنوات عمره الإحدى عشرة، مثلما يشبه عجزي عن إجابته الأربعين سنةً التي عشتها.
من جعل فلسطين على رأس قائمة اهتمامات أحمد؛ يتابع أخبارها ويبحث عن مستجدات أحداثها، ويحصي أعداد قتلاها ومصابيها؟ من أخبره أن تحرير فلسطين قضيتنا الأولى، فوضع عَلمها على حسابه على فيسبوك منذ اليوم الأول للحرب، وكتب مادحًا أهلها وداعمًا المقاومة مبشرًا وواعدًا بأن النصر آتٍ مهما طال الزمن؟ من علَّم أحمد أصل الحكاية؟
أصعب الأسئلة هي تلك البريئة لأنها تتوقع إجابة مثلها، ماذا لو كانت كل الإجابات سهلة وبسيطة؟ لو قلت له إننا في عالم حقير يشاهد ما يحدث ولا يتحرك، سيفقد صغيري ثقته في العالم الذي يحلم أن يكون أحد بنائيه. ولو كذبت عليه بأن جهة ما ستوقف هذه الجرائم، سيرى التضليل في عينيَّ ويفقد ثقته فيَّ، وأنا بطله الذي لا يكذب ولا يخادع. سيسألني بنفس البراءة: وإيه اللي منعهم يوقفوا الحرب من بدري؟
دخلت الحرب سنتها الثانية وكأنها في أيامها الأولى؛ بنفس الإجرام والقسوة يقصف الطيران البيوت والمدارس والخيام ولا ينشغل أحد بمن يحرقون داخلها. تحاصر الدبابات المستشفيات وتقتحمها ويتجاهل الجميع قدسية المشافي وحقوق المرضى، تضرب المدافع كل مكان وتدمر الجرافات كل شيء.
لا يمكن رصد أعداد الشهداء والمصابين والمفقودين والمهجرين والنازحين، فالأرقام تتصاعد كلَّ لحظة. ومن نجا من الموت مصادفة يموت الآن جوعًا، أو قتلًا بصندوق مساعدات ألقته طائرة من الجو فوق رأسه.
القتل على الهواء لم تعد جملةً أدبيةً بل واقعًا نعيشه جميعًا؛ على شاشات التليفزيون وصفحات السوشيال ميديا، والسادة حماة الديمقراطية والسلام في العالم يتحدثون عن حق إسرائيل في "الدفاع عن نفسها" و"جريمة حماس" في السابع من أكتوبر.
كان أحمد عائدًا يومها من احتفال مدرسته بذكرى حرب أكتوبر، حيث كان هناك من يحدثهم عن معركتنا الكبيرة ومعجزات العبور واختراق خط بارليف واقتحام خطوط العدو. عاد يومها مُحمَّلًا بحماس الحكايات البطولية.
في اليوم ذاته انتشر فيديو لطفلة فلسطينية نُقلِت إلى المستشفى بعد نجاتها من قصف منزلها، كان وجهها شاحبًا وشعرها منكوشًا وعيونها تائهة لا تبكي ولا تتحدث. ترتجف بينما الأطباء يحاولون تهدئتها، شاهد أحمد الفيديو مثلنا، ولم يسألني عن مصير الفتاة لكنه سأل عن تلك الرجفة، خجلت أن أقول له إنها رجفة الخوف.
سألني: هو إحنا مش قدرنا نهزم إسرائيل قبل كدا؟ ليه بقى منهزمهاش تاني ونمنعهم يقتلوا الأطفال؟
لم يكن سؤال أحمد إلا دليلًا على أنه ابن هذه المنطقة، وأحد أطفالها الذي سألوا جيلًا بعد جيل: لماذا لا نوقف المجازر ضد الفلسطينين؟ ولماذا لا يتحرك أحد؟ وأين الجيوش العربية؟
في سنِّ أحمد سألت أبي نفس السؤال، فأجابني "بكرة جيلك هو اللي هيحرر الأقصى". ها هو جيلي يسلم الراية لخليفته دون أن يحقق النبوءة، فهل أستعين بإجابة أبي؟ أتذكر ذلك الحِمْل الذي حملته على صدري بعد إجابة أبي، وقهري وأنا أرى سنوات عمري تمر ولم يحرر جيلي الأقصى، لا أريد أن أمرر القهر نفسه لأحمد.
من اليونيسف إلى الطفل الأبيض
أبحث عن الطريقة العلمية للرد على أسئلة الأطفال المتعلقة بالحروب، فأجد دليلًا من ثماني نقاط وضعته اليونيسف، لكن بعد قراءته أشعر أنه يتحدث إلى أطفال آخرين ليس من بينهم أحمد ولا أبناء هذه المنطقة. لا شيء فيها أقنعني أنا، فكيف أقنع به أحمد؟
ينصح الدليل الآباء والأمهات بتفهم مشاعر أطفالهم وطمأنتهم وأن نقنعهم بأن ما يحدث بعيد عنهم، وأنهم في مأمن من أي خطر، بينما الأخبار تنقل عن قادة الكيان أفكارهم الاستعمارية التوسعية وحلمهم في "إسرائيل الكبرى"، وهي تشمل أجزاءً من مصر والعراق والسعودية وسوريا، إلى جانب كامل فلسطين التاريخية والأردن ولبنان، الحرب ليست بعيدة عنا إذن، إنها مسألة وقت لا أكثر.
يطالبنا بأن نذكَّرهم بأن هناك من يعمل بجد لوقف الصراع وإحلال السلام، لا أعرف كيف أقول ذلك بينما على أرض الواقع نرى كلنا، نحن والأطفال، الأنظمة متواطئة والمنظمات الأممية عاجزة، وحتى المساعدات لا يتمكنون من إدخالها إلى المحاصرين.
يدعونا الدليل إلى الحديث مع أطفالنا عن الجهات والأشخاص الذين يقدمون المساعدة للضحايا. أستبشر خيرًا فهذا ملف مهم فعلًا، لكن بينما أكتب هذه السطور كان الاحتلال يُقرُّ قانونًا يحظر عمل وكالة الأونروا في الأراضي المحتلة. هذه الوكالة الأممية ذاتها قُتِل نحو 220 من موظفيها خلال هذه الحرب، وفق مفوضّها العام فيليب لازاريني في سبتمبر/أيلول الماضي.
كيف أُحدِّث أحمد عن الجهات التي تساعد الضحايا في وقت تجاوز فيه عدد شهداء الطواقم الطبية الألف بخلاف المصابين والمعتقلين، وقتلى الصحفيين في غزة وصل إلى 182 منذ بدء الحرب.
يطالبنا الدليل أن نتحدث مع أولادنا عن أمثلة لأولئك الذين لبّوا نداء المساعدة، أو الشباب الذين يدعون إلى نشر السلام، بينما هناك قائمة طويلة من النشطاء الأجانب الذين قتلوا بالرصاص الإسرائيلي لتضامنهم مع الحق الفلسطيني.
من بين أكثر النصائح التي لفتت انتباهي في دليل اليونيسف، مطالبته بأن نحاول التعرف إذا ما كان الطفل يرغب في المشاركة في أي عمل إيجابي، وأن نساعده لرسم ملصق أو كتابة قصيدة من أجل إرساء السلام. أستبعد هذه النصيحة تمامًا، فمنذ بداية الحرب ألقت الشرطة المصرية القبض على نحو 151 شخصًا لتعبيرهم عن دعم الفلسطينيين، منهم من أُفرج عنه ومنهم من ينتظر. تكرر الأمر في دول عربية أخرى، وجميعنا شاهدنا العنف الذي تعامل به الغرب مع مظاهرات التضامن مع فلسطين.
ينصحني الأخصائي النفسي أن أحكي مع أحمد عن تجارب دول أخرى في التحرر
يدعونا الدليل إلى إخبار أطفالنا بأن الجميع يستحقون أن يكونوا آمنين، تخيل؟! لا نرفض طبعًا محاولة إنقاذ أطفالنا وحمايتهم من الخوف والقلق، لكن عن أي أطفال تتحدث اليونيسف؟ عن الطفل الأبيض الذي يرى العالم من خلال شاشات تردد الأكاذيب عن المقاومة باعتبارها فعل "إرهابي"، أم عن أطفالنا الذين يعيشون في الحكاية بكل تفاصيلها، منحازين لقضيتهم ويحلمون بتحرير فلسطين؟
بعدما فقدت الأمل في الدليل لجأت إلى أخصائيين نفسيين أبحث عن إجابة لديهما. اتفقوا على أن الطفل الذي في قلب المعركة يختلف عن الذي يشاهدها من الخارج، هذا الذي يهرب كل يوم من القصف يحتاج قبل أي شيء إلى وقف الحرب، وإلى أن يحدث ذلك لا بد أن يحاط بالكثير من الاهتمام، وألا نقلل من مخاوفه بل نشاركه المشاعر نفسها.
الآباء في مناطق مثل غزة والسودان غالبًا كانوا ضحايا للحروب عندما كانوا أطفالًا، بالتالي يتوارثون الهمَّ نفسه، لذلك من الضروري علاج الآباء مع أطفالهم، لا الأطفال وحدهم.
تذكرت هنا النقد الذي وُجِّه إلى مفهوم "اضطراب ما بعد الصدمة"، والذي تناوله عبد الرحمن الجندي في مقاله في المنصة "أهُناكَ حَياةٌ قبلَ الموت؟".
استعان في المقال بمقابلة أجريت عام 2019 مع سماح جبر، رئيسة خدمات الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية، ذهبت فيها إلى أن هذا المفهومَ منبثقٌ من الفكر الغربي، يفترض وجود زمن قبل الصدمة وآخر بعدها. لكن بالنسبة للفلسطينيين وكثير من العرب، تمتد الصدمة عبر الزمن وتصيب أجيالًا تلو أجيال. إنها واقع متصل لا ينقطع.
أعود لأستفسر عن إجابة لأسئلة أحمد، ينصحني أخصائي نفسي بأن أكون هادئًا جدًا وأنا أتحدث معه، وأنا أوازن بين كونه طفلًا، وكون العالم مفتوحًا أمامه.
طالبني أن أتحدث معه بشفافية لكن دون التعمق في التفاصيل، وأن أخبره بشكل أوسع عن القضية الفلسطينية وكيف سيطر الصهاينة عليها، وعن نضال الفلسطينيين لاستعادة أرضهم، فما يحدث الآن حتى وإن بدا مؤلمًا وصعبًا، هو حلقة من حلقات كثيرة مرَّ بها الشعب الفلسطيني في طريق تحرير أرضه.
ينصحني الأخصائي النفسي أن أحكي مع أحمد عن تجارب دول أخرى في التحرر، وأن أي احتلال إلى زوال مهما طال الزمن. وأن أتحدث معه عما يستطيع فعله لمساعدة الضحايا، مع الحرص ألا أحمله ما لا طاقة له به، وفي نفس الوقت لا أعامله كطفل ينظر إلى ما يحدث من بلكونة قارته البيضاء.