لم تتمكن أي من منظمات عرب أمريكا في الثلاثين عامًا الماضية من إعادة تنظيم نفسها، ولم ينجح أعضاؤها وكوادرها في حشد الآلاف في أي مؤتمر لدعم أي قضية عربية؛ مثلما فعلت حركة الشباب الفلسطيني عندما حشدت أكثر من ثلاثة آلاف مشارك في مؤتمر الشعب من أجل فلسطين في ديترويت، على مدار ثلاثة أيام أواخر الشهر الماضي.
ورغم وجود هذه الحركة في الولايات المتحدة منذ أكثر من 10 سنوات، وعقدها عدة مؤتمرات لتجميع جهود الشباب الفلسطيني في الولايات المتحدة وكندا، فإنها لم تحصد من قبل لا هذا الحشد، ولا مشاركة الكثير من الجمعيات والحركات التقدمية واليسارية التي تعارض الحروب الأمريكية، ومن بينها حرب غزة.
هذا الحشد الكبير جاء ليؤكد على أنَّ الحراك الطلابي احتجاجًا على استمرار جرائم حرب إسرائيل في غزة لم يكن لينتشر من جامعات النخبة مثل كولومبيا وهارفارد إلى عشرات الجامعات الأخرى، لولا هذه التنظيمات والائتلافات التي شكّلها الجيل الجديد من أبناء عرب أمريكا، خصوصًا الفلسطينيين، بمساندة وبمبادرات من رفاقهم المعادين للحروب والمنادين بالعدالة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
وكان من بين هؤلاء، سواء في مؤتمر ديترويت أو في المظاهرات المناوئة للحرب حتى قبل حراك الجامعات، ناشطون يهود معادون للسياسات والممارسات القمعية الإسرائيلية.
من هو الحشد الداعم؟
سبقت المظاهرات والاعتصامات الطلابية واسعة النطاق التي فضتها الشرطة بقسوة في أبريل/نيسان الماضي مظاهرات عديدة ومتفرقة شارك في تنظيمها اتحادان طلابيان، كانا أول جمعيتين تحظر جامعة كولومبيا، بقرار من رئيستها نعمت شفيق، نشاطهما منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2022؛ هما "طلاب من أجل العدالة في فلسطين/ SJP"، التي بدأ نشاطها في الجامعات منذ 1993، وجمعية "الصوت اليهودي من أجل السلام/JVP"، التي تنشط بين الطلاب اليهود المعادين للحركة الصهيونية، وتأسست في مدينة سان فرانسيسكو عام 1996، ولها فروع في 12 جامعة أمريكية.
تنسق الجمعيتان الكثير من أنشطتهما المدافعة عن الحقوق الفلسطينية سويًا.
ومن جمعيات اليهود الأمريكيين التي كان أعضاؤها من أوائل المتظاهرين في واشنطن ونيويورك، ضد الانتقام الإسرائيلي الوحشي من الفلسطينيين بعد طوفان الأقصى، جمعية "إن لم يكن الآن/IfNotNow"، وتأسست في 2014 احتجاجًا على القصف الإسرائيلي لغزة آنذاك. وهي ضد الاحتلال وممارساته في الضفة الغربية وغزة.
أيضًا هناك جمعية الكود البمبي/Code Pink واسمها الفرعي "نساء من أجل السلام"، وهي جمعية نسائية أسستها الناشطة اليهودية الأمريكية ميديا بنجامين في 2002، التي شاركت في المؤتمر. وعادةً ما تنظم الجمعية، المناهضة للحروب الأمريكية والمعادية للاحتلال الإسرائيلي، مظاهرات واحتجاجات داخل قاعات الكونجرس.
وشاركت أيضًا جمعية منتدى الشعب اليسارية، بمؤسسها الناشط مانولو دي لوسانتوس، وهو من مهاجري جزر الكاريبي، ومعه أيضًا لينا الفليحان، الأمريكية من أصل فلسطيني، التي كانت من بين المتحدثين في المؤتمر.
هذا بجانب العديد من المنظمات اليسارية المناهضة للسياسات الأمريكية، ولعل هذا ما يأخذنا إلى أيديولوجية المؤثرين في تنظيم الحراك الطلابي والاحتجاجي.
أصوات يسارية جذرية
كان بين أبرز من تحدثوا في المؤتمر، عضوة الكونجرس عن ديترويت النائبة الديمقراطية رشيدة طليب. لكنَّ المفارقة أن اسمها أُضيف لاحقًا، في اليوم الثاني من المؤتمر. وربما يكون ما شجعها على التحدث في مؤتمر يمتلئ بالشعارات المعادية للصهيونية و "الإمبريالية الأمريكية"، وجود ثلاثة آلاف مشارك، وانعقاده في مدينتها في ولاية ميتشجان؛ حيث أكبر تجمع سكاني عربي في أمريكا.
ولم تترك الصحافة الإسرائيلية الأمر يمر دون التحريض والمزايدة على النائبة فلسطينية الأصل، والوحيدة من أصول عربية في الكونجرس، فنشرت جيروزاليم بوست تقريرًا بعنوان "رشيدة طليب تحضر مؤتمرًا يكرّم إرهابيًا ويتحدث فيه إرهابي"!
الفلسطيني الذي كرَّمه المؤتمر، وتصفه الصحيفة الإسرائيلية بـ"الإرهابي"، كان اسم الأسير الفلسطيني الراحل وليد دقة، الذي تُوفي في السجون الإسرائيلية أبريل الماضي، بعد عقود من السجن منذ 1986، بتهمة تزعم خلية اختطفت وقتلت جنديًا إسرائيليًا.
وينتمي دقة، الذي أطلق منظمو المؤتمر اسمه على القاعة الرئيسية لندواته، للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تصنفها الولايات المتحدة "منظمة إرهابية". كما تحدث في المؤتمر عبر الفيديو صلاح صلاح، أحد قياديي الجبهة، وهو من كانت جيروزاليم بوست تعنيه بـ"المتحدث الإرهابي".
تم تكريم وليد دقة على مدى يومين، باستضافة أرملته سناء دقة، قادمة من إسرائيل لأنها من فلسطينيي الداخل شأن وليد، وصحبت معها ابنتهما ميلاد، التي ولدت قبل أربع سنوات عبر تهريب نطفة من السجن!
المواقف والانتماءات السياسية لمنظمي المؤتمر من حركة الشباب الفلسطيني، والشعارات المرفوعة بـ"فلسطين من النهر إلى البحر" والاحتفاء برموز المقاومة داخل حدود 1948 وليس فقط الضفة وغزة، كان بعيدًا كل البعد عن عملية السلام أو المبادرة العربية بدولة فلسطينية على حدود 1967 بجانب دولة إسرائيل.
وكذلك الخطب الحماسية لمقدم فقرات المؤتمر، المحامي الشاب محمد النابلسي، المقيم في ولاية تكساس وأحد قياديي حركة الشباب الفلسطيني في أمريكا، فكانت على غرار "نحن في بطن الوحش"، وهو يخاطب الجمهور قبل ندوة عن "الإمبريالية الأمريكية" وتحالفها مع الصهيونية.
الخطابات والشعارات المرفوعة تعطيك إحساسًا بأنك عُدت إلى زمن ذروة الحرب الباردة، في مؤتمر شعبي منعقد في أحد مخيمات المقاومة الفلسطينية في بيروت!
بينما في الواقع، إنه عام 2024 وأنت في قاعة مؤتمرات مدينة أمريكية، لا تؤمنها إلا سيارة شرطة واحدة، وكأنه ندوة ثقافية أو معرض فنون، لا مؤتمرًا كانت العبارات المتداولة في مطبوعاته وعلى ألسنة منظميه، مأخوذة من الكاتب والأديب غسان كنفاني (1936-1972)، أحد رموز الجبهة الشعبية، ومؤسس لسان حالها؛ مجلة الهدف، عام 1969.
حركة الشباب الفلسطيني التي نظمت المؤتمر، برموزها وشعاراتها اليسارية، لم تستبعد سوى السلطة الفلسطينية، وريثة حركة فتح بعد سلام أوسلو. وحتى حين دعت أحد المتحدثين من مواطني الضفة الغربية عبر الإنترنت، اختارت الدكتور مصطفى البرغوثي، متحدثًا من الدوحة بسبب حضوره ندوة هناك وقتها، باعتباره مؤسس وأمين عام المبادرة الوطنية الفلسطينية، التي عارض رموزها عملية أوسلو للسلام، وكانت حماس اختارته وزيرًا للإعلام في حكومتها المنتخبة عام 2007 برئاسة إسماعيل هنية، التي لم يعترف رئيس السلطة محمود عباس بها، دون أن يتمكن من عقد انتخابات أخرى حتى الآن!
أيضًا كان من بين المتحدثين والمشاركين، وإن كان أقل ظهورًا، التيار الإسلامي المناصر لحركة المقاومة الإسلامية حماس؛ وكانوا ممثلين بمنظمة "أمريكيون مسلمون من أجل فلسطين/AMP"، التي تأسست عام 2005.
وهي بالمثل، لا تتحدث عن حل الدولتين بل عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ولا تزال المنظمات الصهيونية تلاحقها وتحرض الأجهزة الأمنية الأمريكية على نشاطها ضد إسرائيل والصهيونية، بدعوى ارتباطها بحركة حماس التي تصنفها الولايات المتحدة أيضًا "مجموعة إرهابية".
واشتد التحريض على المنظمة بعد الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية، حيث استدعت لجنة في الكونجرس الأسبوع الماضي أحد قيادييها للمثول، وتقديم مستندات مؤسسته غير الربحية، للتأكد من أنَّ التبرعات التي تجمعها لا تذهب لدعم أنشطة حماس!
مستقبل الحراك: مواجهة أم مواءمة؟
كان منطقيًا، كرد فعلٍ على الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بقيادة حكومة يمينية متطرفة تريد تطهير فلسطين عرقيًا من الفلسطينيين، أن يتوارى حديث الدولتين وإحياء عملية أوسلو التي أفقدت مصداقية السلطة الفلسطينية، وأعطت زخمًا للمقاومة المسلحة مهما كان الثمن.
بالتالي، أُعيد طرح القضية الفلسطينية، بقيم المساواة ورفض الفصل العنصري والهيمنة وليس فقط رفض الاحتلال، وبغض النظر عن حدود حرب 1967 التي ارتضاها النظام الرسمي العربي. فحركة الشباب الفلسطيني في الولايات المتحدة وكندا كانت لها وفود إلى جنوب إفريقيا منذ خمس سنوات، للتضامن مع "رفاق" الماضي في حركة التحرر من الفصل العنصري الذي دعمته الولايات المتحدة طويلًا.
لا يمكن مطالبة شباب الجامعات باستخدام لغة السياسة ودعوتهم لتبني ما هو ممكن وإن لم يكن بالضرورة عادلًا. نحن نتحدث عن شباب مثاليين، متضامنين مع المضطهدين؛ الفلسطينيون في غزة والسود في جنوب إفريقيا وأيضًا في الولايات الأمريكية حيث يتعرضون لبطش الشرطة، والشعوب التي يجري قمعها بأسلحة وأموال جماعات المصالح.
الحراك الطلابي الأمريكي كان قائمًا منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكنَّ انتشاره اتسع مع قمع الشرطة للمتظاهرين على نطاق واسع، فتضامن الزملاء والأساتذة مع الطلاب المقبوض عليهم بالعشرات، كما تواكب التضامن والقمع مع اتساع أعمال الإبادة الجماعية في غزة ومواصلة الدعم المالي والسياسي الأمريكي لما تفعله إسرائيل، والإصرار على حمايتها من أي عقوبات دولية.
المواجهة مستمرة
بدون لبس، أعلن منظمو مؤتمر الشباب من أجل فلسطين في ديترويت أنهم سيواصلون المواجهة.
أولًا، بتحدي وعرقلة أعمال عملاق النقل ميرسك/Maersk، وهي شركة دنماركية تنقل أسلحة أمريكية لإسرائيل.
ثانيًا، بتنظيم مظاهرة ضخمة حول البيت الأبيض يوم 8 يونيو/حزيران الجاري، بمناسبة ذكرى مرور 54 سنة على حرب 1967، وسيرتدي المتظاهرون ملابس حمراء لتذكير الرئيس بايدن بإخفاقه حتى بإلزام إسرائيل بالخط الأحمر الذي رسمه لها في رفح، لو أقدمت على هجوم عسكري يعرّض حياة المدنيين الفلسطينيين للخطر.
ثالثًا ورابعًا، مظاهرات في يوليو/تموز المقبل أمام المؤتمر القومي للحزب الجمهوري بولاية ويسكونسن، حيث سيعلن رسميًا ترشح دونالد ترامب رئيسًا من جديد، ومثلها في أغسطس/آب أمام المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي في شيكاغو، للإعلان عن ترشيح بايدن لفترة ثانية.
أعاد طوفان الأقصى والحراك الطلابي والتعاطف الشعبي العالمي مع الفلسطينيين، حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم إلى الواجهة، مثلما اضطر اللوبي المؤيد لإسرائيل إلى كشف تهديداته وارتباطاته مع السياسيين والمشرعين والإعلام، وتصعيدها إلى الواجهة.
توارى دور المنظمات التقليدية للعرب الأمريكيين، والمرتبطة بالحكومات العربية، وخصوصًا بعد أن تحول بعض مموليها في الخليج، إثر اتفاقيات التطبيع والصلح الإبراهيمي، إلى تمويل المنظمات الصهيونية كونها الأكثر تأثيرًا في السياسة الأمريكية، بغض النظر عن الحزب وشعاراته السياسية.
ولكن إذا كان طوفان الأقصى أعاد القضية الفلسطينية إلى رأس قائمة قضايا الشرق الأوسط، فإنَّ الحراك الطلابي الأمريكي سيعيد مواجهة منظمات الرفض الشعبي وتعقبها أمنيًا مطلبًا رئيسيًا لجماعات الضغط والمصالح، التي اعتقدت طويلًا أنَّ التيارات اليسارية والتقدمية لم تعد تؤثر، عندما تتظاهر، في عملية صنع القرار.
اليوم، يحاول بايدن استمالة الناخب العربي في ولايات حاسمة مثل ميتشجان، بالمطالبة بالوقف الفوري للحرب في غزة تمهيدًا لانسحاب إسرائيل، رغم معارضة حكومتها حتى الآن. في المقابل، نجد دونالد ترامب قبل أسبوع من الحكم بإدانته، يَعِدُ مجموعة من أكبر المتبرعين لحملته ممن وصفهم بـ"أصدقائي اليهود"، بالعودة إلى البيت الأبيض بفضل تبرعاتهم السخية، ليعيد هذا الحراك ضد إسرائيل "من 25 إلى 30 سنة للوراء"!
ولكن على الجانب الآخر، يعتقد منظمو الحراك الشعبي والطلابي مع حلفائهم من الائتلافات اليسارية والتقدمية والمناهضة للحرب، وحتى بعض جماعات الدفاع عن حقوق المثليين ممن شاركوا في المؤتمر، أنهم أصبحوا حركة اجتماعية وسياسية ودولية، لن يتمكن السياسيون من إسكاتها أو تفريق منظميها باختلاف أعراقهم وانتماءاتهم، السياسية والدينية والقومية، والجندرية أيضًا.