برخصة المشاع الإبداعي: CGT SOV del Sur de Madrid CGT، فليكر
متظاهرون في مدريد يدعون إلى وقف الإبادة في فلسطين خلال فعاليات تضامنية شهدتها مدن إسبانية عدة في 25 فبراير 2024

غذاء أوروبي على شرف غزة

منشور الثلاثاء 27 فبراير 2024

لبعض شعوب شمال البحر المتوسط طقس إن ترجمنا اسمه حرفيًا، فسيكون "حول المائدة"؛ حيث يجتمع الأصدقاء والعائلات لتناول الطعام في أيام العطل والاحتفالات، ولا يغادرون المائدة على الفور بل يبقون حولها ساعات لتناول المشروبات والحلوى. يتحدثون، أو يلعبون "ألعاب المائدة"، وأحيانًا يغنون، تصاحبهم عادةً زجاجات الشمبانيا.

في هذا الغذاء الأوروبي الذي سأحكي عنه، حضر أشخاصٌ من أجيال مختلفة، بانتماءات يسارية متباينة؛ من وسط اليسار وصولًا لليسار الشيوعي. وهم كذلك من جنسيات وأصول ثقافية مختلفة من داخل وخارج إسبانيا؛ باسكيون وكتالانيون ومدريديون، وامرأة ألمانية في بداية العقد الثامن، وأخرى إيطالية في منتصف العمر، وثالثة مستعربة ومتخصصة في شؤون العالم العربي، ورجل عربي خمسيني. وجميعهم يعرفون حقيقة أنَّ "الطيور على أشكالها تقع".

دروس الهجرة المبكرة صحيحة دائمًا

يوقن المهاجر سريعًا صحة المثل الشائع في لغات وثقافات عديدة؛ "الطيور على أشكالها تقع"، أو "الطيور المتشابهة تطير سويًا". ليس بمعنى أن يرتبط ويتحرك بالضرورة في دوائر المهاجرين من أبناء وطنه، فهذا الحل السهل لا يناسب الجميع، بل بأن يكتسب مبكرًا مهارة معرفة خطوطه الحمراء، ويلاحظ تغيرها مع الزمن، فيرتبط بمن لا يناقضونها. فإن كان على سبيل المثال شخصًا تقدميًا أو يساريًا، لن يحلِّق مع طيور يمينية متطرفة، وإن كانت فلسطين له قضية حياتية محورية، فلن يصادق من يؤيد إسرائيل.

توقن المرأة الألمانية التي لا تتفق مع موقف بلادها بأنَّ شعور الألمان بالذنب تجاه اليهود "ضروري"

ولأنَّ حاضري "حول المائدة" هذه منتمون لليسار ومنشغلون بالسياسة، يتابع أغلبهم ما يحدث في شرقنا دون ادعاء للحياد، بل بانحياز للفلسطينيين والعرب. ويواظب بعضهم على التظاهر تضامنًا مع فلسطين، وبالذات منذ بداية عملية الإبادة في غزة. وفي هذا الغذاء الاحتفالي تحديدًا، تلقَّى أحد الأطفال الحاضرين مع والديه الإسبان هديةً أرادها وانتظرها؛ عَلمًا فلسطينيًا متوسط الحجم، ليعلقه حول كتفيه في المظاهرات التي يشارك فيها بصحبتهما.

اقتحمت غزة الحوار الهادئ حين علقت المستعربة على تحرك جنوب إفريقيا المشرّف ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وقارنته بالموقف الألماني "المخزي" الداعم لإسرائيل، ليكون رد فعل أحد مَن درسوا العلوم السياسية، والمهتمين بأصول اللغة، هو التدقيق في تعبير "الإبادة الجماعية" مستعينًا بالمعاجم اللغوية، ليصل إلى نتيجة مفادها أنه قد لا ينطبق على أفعال إسرائيل.

أزعج وصف "المخزية" المرأة الألمانية التي، وإن لم تتفق مع موقف بلادها، توقن أنَّ المسألة اليهودية/الإسرائيلية في بلدها مركبةٌ ومعقدةٌ، وأنها تستحق هذا التعقيد فعلًا، وأنَّ شعور الألمان بالذنب تجاه ما اقترفوه بحق اليهود "ضروري".

ولكنَّ استمرار الحوار حول عقدة الذنب الألمانية، والابتزاز الإسرائيلي للمواطنين والمواطنات الألمان الذين لم يحرقوا أحدًا، وكيفية استخدام ضرائبهم في تمويل مجازر وجرائم، لم يعد مُجديًا بعد اعتراف الألمانية بصوت خافت، أنها وخلال رحلاتها الكثيرة، وإقامتها في بلدان مختلفة، قابلت من يتوقفون عن محادثتها عندما يعرفون أنها ألمانية.

ولأنه غير مُجدٍ، لنتحدث عن الشمبانيا.

فقاعات الذهب المرتفعة إلى أعلى

الشمبانيا مشروب احتفالي كحولي، أوروبي من أصل فرنسي، يُصنع من العنب، تتصاعد منه فقاعات غازية بلون ذهبي. وهو مرتبط عادة بالمناسبات السعيدة، فلا يُشرب يوميًا أو مع الطعام، بل في طقوس وبمبررات احتفالية. ومع توالي زجاجاته تتصاعد وتيرة الأحاديث ويرتفع إيقاعها، بعكس ما يُسببه النبيذ التقليدي الذي يهدِّئها. وكأن الانسيابية البالغة في تغلغله داخل الجسد، تصاحبها انسيابية مقابلة في خروج الكلمات المتوترة من الأفواه.

نحن الآن مع الزجاجة الثانية؛ انسحب الأطفال إلى غرفة جانبية لمشاهدة الرسوم المتحركة، ومعهم الطفل الذي حصل على العلم الفلسطيني، وانسحب بعض الكبار إلى مقاعد الصالون المريح المجاورة ليراقبوا من بعيد حدة الحوار المتصاعدة "حول المائدة"، التي جعلت الجميع أحيانًا يتحدثون في الوقت نفسه، وبانفعال بالغ.

تجاوزنا عقدة الذنب، لكنَّ الألمانية لا تستطيع أن تتصور ولو للحظة أنَّ ما تسميه بـ"الديمقراطية الألمانية" انحدرت، وأنَّ الحكومة الألمانية الحالية في تماهيها مع إسرائيل تضيِّق على كل أشكال التضامن مع الفلسطينيين، وتجرّم نشاط منظمات مثل "صامدون" المعنية بملف الأسرى الفلسطينيين. تشكك في المعلومة وإن جاءت ممن يتابعون بدقة، وتكتفي بالصمت عندما يطلعها أحدهم على خبر المنع على موبايله.

لا تعاني المرأة الإيطالية، المتطوعة في عدد من الأنشطة الخيرية والخدمية، من عقدة الذنب مثل قرينتها الألمانية، لكن لديها عقدة ذنب مختلفة مرتبطة بآلام الجميع، التي تتساوى عندها. تحكي بانفعال أنَّ فلسطين ليست القضية الوحيدة في الكون، وتعدد باكية القضايا التي تستحق القلق والنضال من أجلها؛ بدءًا بقضايا الهجرة واللجوء، وصولًا للصحة العامة، مرورًا بالبطالة، والفقر، والاحتباس الحراري، وغيرها.

إن أراد العربي أن يكتسب مصداقية فعليه وصف حماس بالمنظمة الإرهابية

لا تدور كل الحوارات في "حول المائدة" بالكلام، إذ يحدث أن يشرد أحدهم، لينغمس بداخل عقله في مونولوجه الخاص، مثل العربي الذي يحضر هذا الغذاء.

لا يرضى العربي بمساواة كلِّ القضايا ببعضها حتى وإن شغلته. وبالرغم من رفضه في مناسبات أخرى مقارنة أنواع الألم ببعضها، لم يرضَ في هذه اللحظة بما ارتضاه ورحَّب به في مناسبات أخرى: أن يتعامل الأوروبيون مع قضية فلسطين باعتبارها قضيتهم أيضًا.

فحين ينبهه أحد الحضور إلى أن كونه عربيًا لا يمنحه علاقة خاصة بقضية فلسطين، وأنَّ بإمكان الآخرين الشعور بنفس مشاعره، وأن تكون للقضية عندهم الأهمية نفسها، يغضب بداخله؛ فهذه المساواة تمنح مشروعيةً لرؤية بعضهم، التي يرفض وسطيتها، ويراها مائعة وإن كان لن يصفها أمامهم بذلك. ولن يعترف أبدًا بأننا نتساوى إلا حين نقف على أرضية العداء الكامل لإسرائيل.

هناك فرق جوهري في هذه اللقاءات بين العربية/العربي من ناحية، والمستعربة/المستعرب الأوروبيين المنحازين لفلسطين وللعرب من ناحية أخرى. يتجسد الفرق في أن مقولات المستعربين لها مصداقية أكبر لأنهم أوروبيون. ربما تهتز هذه المصداقية بعض الشيء إن كان معروفًا عنهم انتماؤهم للتيارات اليسارية الراديكالية التي يرفضها الآخرون. لكن في النهاية يتم تصديقهم، نسبيًا. أما العربي، ولمجرد هويته الأصلية، فيرونه مُنحازًا بالضرورة.

المُنحاز في الفهم الأوروبي هو شخص مُبالغ، يجعله انحيازه قادرًا على إنكار الحقائق الموضوعية، لذلك فعليه دائمًا تقديم الدلائل عما يقول. وفي مجال الصراع والدم الفلسطيني، لا تشفع للعربي معرفتهم الطويلة والممتدة به، فهو طرف متورط بالضرورة.

أيقونة غرقت في بحر الكراهية

عادةً لا يوقظ مبدأ المقاومة، بعموميته، مشاعر النفور والرفض في هذه الأجواء اليسارية من الطبقة الوسطى الأوروبية، بل إن بعض هذه الأوساط تختلط اجتماعيًا بمنتسبين سابقين لحركات مسلحة لاتينية. لكنَّ حماس توصف غالبًا بالإرهابية، وبمجرد ذكر اسمها.

كرست وسائل الإعلام هذا التوصيف لحماس بعد 7 أكتوبر، حتى بين القطاعات المتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني. لكنَّ أصوله أقدم وأكثر أصالة من الدعاية الإسرائيلية. أحد منابعه جمالي/شكلاني. فمظهر مسلحي داعش، ومن قبلهم القاعدة، يختلط في أذهان الكثيرين، ومن دون قصد أو سوء نية، بأشكال المقاومين المنتمين لحماس. بالإضافة إلى عامل آخر؛ الكراهية.

معظم المجتمعين في هذا الغذاء، وبالرغم من ثقافتهم ومعرفتهم المتفاوتة بجذور الصراع العربي الإسرائيلي، تشتتهم الأحداث اللانهائية المتتالية خلال أكثر من 75 عامًا، ومسارات التسوية التي دُشِّنت في مدريد عام 1991، ووضعت الصراع والقضية الفلسطينية في منطقة هلامية، عنوانها الأساسي "الكراهية" بين طرفين، دون التساؤل عن منبع هذه الكراهية.

ياسر عرفات وإسحق رابين وبيل كلينتون أثناء توقيع تفاهمات أوسلو في البيت الأبيض

لذلك، تتلخص الحلول والإجابات في خيالات الكثيرين من الأوروبيين والأمريكيين، في إنهاء الكراهية بين الطرفين. بل إننا نكاد نرى "حلم إنهاء الكراهية" واقفًا كشبح الراعي الصالح خلف المساعي السياسية والدبلوماسية، التي تقدّم "مشروعًا بديلًا" لها في الصورة/الأيقونة التي رآها العالم كله، ومن بينهم المشاركون في طقس "حول المائدة" هذا، لكلينتون واقفًا بين عرفات ورابين دافعًا إياهما لمصافحة. وكأنَّ المصافحة وحدها تُولِّد الحب وتُزيل الكراهية، ليصبح الباقي بعدها مجرد تفاصيل سهلة الحل.

ولكنَّ هذه الصورة/الأيقونة لم تعش كثيرًا، بل تحولت لنقيضها؛ فرابين قتله أحد مواطنيه، وعرفات عاش سنواته الأخيرة تحاصره الدبابات الإسرائيلية، أما كلينتون فغرق في كذبه وفضائحه الجنسية.

تعيدنا هذه الصورة لمسألة الشكل؛ كان لعرفات لحية مثل الكثير من مقاتلي حماس، ولكن على وجه مبتسم، بعكس وجوه رجال حماس التي لا تبتسم. ولأنَّ أيَّ فعل يؤدي لمزيد من الكراهية هو إرهاب مرفوض، تصبح عملية السابع من أكتوبر إرهابية، ومغذية للكراهية.

إن أراد العربي أن يكتسب مصداقية، فعليه أن يصف حماس بالمنظمة الإرهابية. لا يكفيه خلافه الفكري والسياسي المعلن معها. في المقابل، لن ينال أي مصداقية إن اعتبرها مقاومةً مشروعةً للاحتلال العسكري. بل سيفقدها أكثر حين يتعثر في اللغة والتعبيرات الدقيقة، واللهجة التي تعوق الفهم أحيانًا، ليكون داعمًا للإرهاب، لـ"الكراهية"، تحت تأثير زجاجات الشمبانيا المثيرة للأعصاب، فالزجاجة الثالثة فرغت، والرابعة في الطريق.

لا يسعى الأوروبي على العكس لاكتساب المصداقية، فجزء من فكرة المركزية الأوروبية هو تصور الأوروبيين أنَّ ما يقولونه صحيح، لأنهم هم من يقولونه، في نتيجة تلقائية لقرون طويلة جدًا سعى فيها الأوروبيون للمعرفة، وصولًا للديمقراطية.

لا يقدر الجميع على وصف إسرائيل بالإرهابية، حتى وإن قتلت آلاف الأطفال، لمجرد أنها دولة. فمسموح للدول بالعنف المستند لقوانين، وبمجرد سن هذه القوانين لا يمكن وصفها بالإرهاب. وفي حالة الدولة الإسرائيلية تحديدًا هناك عامل مطمئن، وجود الشرير التقليدي للفيلم، نتنياهو السيئ وحكومته اليمينية التي ترتكب الجرائم. لكنها ليست حكومةً خالدةً، فمصيرها التغيير بفضل الديمقراطية الإسرائيلية، الوحيدة من نوعها في المنطقة، التي ستصحح تلقائيًا أخطاء من انتخبوه. ولأنَّ الديمقراطية خالدة، وإسرائيل خالدة، فأيُّ فعلٍ لردع وإضعاف إسرائيل مرفوض بدوره.

يشعر العربي بالغربة، يشك في صحة تعبيراته حين يساويه أحد الأوروبيين بالإسرائيلي، باعتبار كليهما ضحية "كراهية" لا يستطيعان الخروج من دوامتها اللعينة. وسيكون الاتهام أكثر قسوةً عندما يعترف العربي بأنَّ الإيجابي في عملية 7 أكتوبر هو معرفة الإسرائيليين بقدرتنا على إيلامهم. هو الآن يسعي للإيلام، وبالتالي لصنع المزيد من الكراهية، التي تجاوزتها الحضارة الأوروبية في مخيلة مواطنيها، الراضين في أغلبهم، حسب استطلاعات الرأي "الديمقراطية"، على إمداد بلدانهم لأوكرانيا بالسلاح، لاستمرار "حرب الحب" مع روسيا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.