في صيف 1969 نشر الشاعر محمود درويش مقالًا أقرب للبيان، بعنوان "أنقذونا من هذا الحب القاسي". يخاطب فيه نُقاد الأدب العرب، ممن اكتشفوا حديثًا الشعر الفلسطيني ومجدّوه لأنه فلسطيني، واضعين إياه في مكانة منفصلة عن الإطار العام للشعر العربي، كانت مكانة أعلى.
يصحح درويش تصورات هؤلاء النقاد، مؤكدًا على أنهم، شعراء الأرض المحتلة، ما زالوا يبنون صوتهم الشعري الخاص، وأنهم تعلموا على يد الشعراء العرب القدماء والمعاصرين، وأن ما تُميزهم هي درجة القرب من القضية الفلسطينية كونها قضيتهم اليومية.
يحذر محمود درويش من التأثير السلبي لهذا الحب البالغ، القاسي، على الشعراء الفلسطينيين وإنتاجهم، فربما ينعكس على جودته حين يطمئن الشعراء الناشئون إلى أن مكانتهم محفوظة لمجرد أنهم فلسطينيون، فيصدقون وهم الكمال.
الإفراط في الفلسطينية
نعرف جميعًا حالة الـ"فلسطيني/فلسطينية أكثر من الفلسطينيين". لا علاقة لها بالشعر هذه المرة، ولا تكتفي بالتحيز لكل ما هو فلسطيني. بل إن بها قدرًا من التباهي والافتعال بالإمكان ملاحظتهما عند نشطاء منحازين للحق الفلسطيني. لكنهم في انحيازهم وتضامنهم مع الشعب وقضيته يتصورون أنفسهم فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. للدرجة التي تدفع بعضهم للتصريح بذلك، وإن بأصوات خافتة.
حماقة هذا الشعور وافتقاده للواقعية لا ينبعان من قدسية مفترضة لكل ما هو فلسطيني، أو من استحالة أن ينتمي أحد للقضية أكثر من كل الفلسطينيين. فهناك فلسطينيون انحيازهم لبلدهم وعلاقتهم بقضية شعبهم أكثر هشاشة بكثير من انحيازات ملايين غير الفلسطينيين. بل تنبع الحماقة مما تقود إليه؛ أرضيةٌ زائفة وهشة تدمر القدرة على التفكير الحر والواقعي، وإحساسٌ يقيني بأن ما يتصوره هؤلاء النشطاء هو الصحيح والواجب فلسطينيًا. حتى وإن كانوا لا يعرفون اللغة العربية، ناهيك عن اللهجة الفلسطينية، ولم يزوروا فلسطين قط.
يتجاوز شعور الفرد بأنه فلسطيني أكثر من الفلسطينيين الحماقة، بكثير، حين يتعلق الأمر بعملية إبادة غير مسبوقة في تاريخ الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة. حين نجد أشخاصًا مغرمين تمامًا بالقضية الفلسطينية، لدرجة تقديسها، يهللون لعمليات أو مواقف أو مسارات سياسية تزيد المعاناة الفلسطينية، أو على الأقل لا تسير باتجاه وقفها أو تخفيف حدتها. متصورين أن هذا التهليل نفسه مفيدٌ للفلسطينيين، وأن تصوراتهم هي ما ستقود لتحريرهم.
تستدعي هذه الحالة الآنية، والممكن رصدها بسهولة مع كل يوم جديد خلال الأشهر العشرة الأخيرة، حالة أخرى من "الحب القاسي"، أكثر تدميرًا من حالة تمجيد الشعراء التي هاجمها درويش. وهي الحالة التي استعرت منها عنوان هذا المقال؛ "الحب الأقل أفضل سيد كافاريللي"، من فيلم يوسف شاهين الوداع يا بونابرت (1984).
"لوي ماري دي كافاريللي دو فالجا" كان جنرالًا له توجهات اجتماعية واضحة، لدرجة رفض نصيبه من إرث أبويه. وكانت له كذلك اهتمامات علمية جعلته عضوًا باللجنة التي أسست ما سُمِّي بـ"معهد مصر". أتى الجنرال كافاريللي، صاحب القدم الواحدة، ضمن جيش الحملة الفرنسية، ليكتشف مصر التي أحبها قبل أن يصلها. وفي الفيلم زاد عشقه لها ولأبنائها، على كل المستويات، من التاريخ إلى الجنس، للدرجة التي دمرت المعشوق تمامًا، قتلته. فينصح ابن الجنرال كافاريللي أباه بأن يحبها أقل، قبل أن يدمر ذاته وذات الآخر بحبه البالغ.
من الممكن أن نقول هنا عن كافاريللي، تجاوزًا ولدواعي المقال، إنه أحب مصر لدرجة شعوره بأنه مصري أكثر من المصريين. لم يدمره ويدمر أحباءه الحب، بل الموقف الناتج عن هذا الحب المفرط، وعدم مواجهة الطموحات الاستعمارية والإمبراطورية لبونابرت في الوقت المناسب، لأنها ستقربه أكثر من المحبوب.
تجربة موقع المحبوب
مثلما ننتقد كثيرًا خطابات العداء للفلسطينيين ومقاومتهم، واللامبالاة تجاه معاناتهم، علينا أيضًا التوقف أمام نقيضها، فهي بدورها مثيرة للاهتمام وتستحق النقد. حالة التهليل المصرية/العربية الحالية للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وتكرار عبارة "مات التفاوض" بعد اختيار السنوار رئيسًا للمكتب السياسي لحركة حماس، وأمنيات توسيع دائرة الحرب، التي لن تمس مصر وأغلب الدول العربية بالطبع.
إنها حالة تقف في منتصف الطريق بين الحب القاسي شعريًا، الذي انتقده درويش، ونقيضه المتمثل في الحب الاستعماري البالغ عند كافاريللي. فالشعوب العربية المحيطة بغزة، والشعب الفلسطيني خارج غزة، لم تعش ما يشبه، ولو من بعيد، ما يعيشه الفلسطينيون في غزة منذ أكثر من عشرة شهور.
المصريون، على سبيل المثال، يدركون أنهم قدموا ثمنًا كبيرًا في الصراع مع إسرائيل باعتداءاتها المتتالية على بلدهم. يعرفون أن الثمن الأكبر دُفع خلال أربع حروب بين جيوش نظامية، ستكون خمسة إن أضفنا إليها حرب الاستنزاف. وباستثناء أسابيع المقاومة الشعبية في بورسعيد 1956، والسويس 1973، لم يتعرض المدنيون المصريون للذبح يوميًا في حروبهم مع إسرائيل.
إن استعنَّا بالذاكرة الشعبية المصرية المتعلقة بمجازر إسرائيل ضد المدنيين المصريين، فسنجد مجزرتين يشكلان محورها؛ مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل. كلتا المجزرتين حدثت خلال الشهور الأولى من 1970. وبالرغم من التباين في أرقام ضحاياهما حسب المصدر، لم يتجاوز عدد شهدائهما معًا مائة وخمسين شهيدًا في أقصى تقدير. أي أقل من معدل الضحايا الفلسطينيين في غزة في يوم واحد من أيام الإبادة. يوم واحد وما زلنا نتذكرهما!!
رغم ذلك، بعد المجزرتين، وبتأثيرهما من ضمن أسباب أخرى، قبل عبد الناصر مبادرة روجرز وانتهت حرب الاستنزاف. وهو ما يستدعي الآن، في 2024، سؤالًا: هل هناك مقاومة مسلحة تستطيع الاستمرار دون دعم شعبها وتأييده لها؟! لا أعتقد.
منبع السؤال أخلاقي بالأساس، متعلق بقدرة المصريين والعرب، المحبين، على تجربة موقع المحبوب الفلسطيني، وتخيل ما يحدث في غزة، وتأثيره على من نجوا حتى الآن من القتل. وما إذا كان الخيال البصري لكلٍّ منا قادرًا على رسم صورة محددة لغزة الحالية، غير فوتوغرافية وغير منقولة من وسائل الإعلام، ليبنيها داخل عقله؟!
نحسب الإبادة بالمستجدات الرقمية لكننا لا نعرف أثرها النفسي والوجداني.. فقط أهل غزة من يعرفونه
ليس بإمكاننا أن نشعر أو نتخيل، أو حتى نقترب قليلًا، ما يشعرون به هم تجاه ما يعيشونه يوميًا وفي كل دقيقة. لا نستطيع مقاربة خيالهم، الذي لا بد وأنه دخل منطقةً مَرَضيَّةً ترى الموت يقترب في كل لحظة، ساقطًا عليهم من الهواء الذي يتنفسونه. ولا نستطيع أن نتخيل مشاعرهم تجاه مكانهم الذي تغير جغرافيًا بالكامل خلال بضعة شهور. معذرة؛ لم يتغير، بل مُسح بالكامل.
نتصور، نحن الواقفين خارج حدود الإبادة، أن الدمار أقل أهمية من الدم، وأهون من أن يطلب أب من المحيطين به أن يبحثوا معه عن رأس ابنه. الدمار يأتي في تصورنا في المرتبة التالية مع الجوع والعطش المستمرين، والهرب من مكان لآخر طيلة الوقت. لكن حتى على مستوى الدمار، الأثر الأقل أهمية للإبادة مقارنة بآثارها الأخرى، لا يمكننا تخيل الأثر النفسي والعقلي لعملية نسفِ مجملِ الواقع الجغرافي على من يعيشونه.
نحن نحسب الخسائر بالأرقام، بعدد القتلى والمفقودين تحت الأنقاض، والجرحى، والأيتام، ونسبة البيوت المهدمة، والمستشفيات والمدارس التي لم تعد موجودة. نحسب الإبادة بالمستجدات الرقمية المنشورة في الأخبار. لكننا لا نعرف أثرها النفسي والعقلي والوجداني، فهذا غير قابل للحساب، ويعرفه فقط أهل غزة. وهم من يعرفون حاليًا ما تفعله الإبادة بعلاقتهم بقضيتهم نفسها، وعلاقتهم بالمقاومة، وعلاقتهم بالسلاح، والأهم؛ علاقتهم بالمستقبل.
لكننا نعرف نظريًا شيئًا آخرَ، وإن كنا لن ندرك مدى صحته سوى بعد توقف الإبادة، ليؤكده أو ينفيه سكان غزة. نعرف أن الهزيمة لا تقاس بمعايير عسكرية أو سياسية فقط، بل معنوية أيضًا. وأن أثر الدم والجوع والعطش والتشرد، أثر إبادة تحمل كل ملامح المحرقة، لا ينتهي بمجرد توقفه، بل يُنتج شيئًا جديدًا، نجهله، رغم معرفتنا نظريًا ألَّا قضية تعيش بالموت المستمر الذي لا يتوقف.
في هجاء الحب الاستبدالي
تخبرنا المعطيات التاريخية شديدة الموضوعية، غير العنترية، بأن لا حل لقضية الشعب الفلسطيني سوى بالقضاء على دولة إسرائيل، ونهايتها بشكلها الحالي تمامًا وللأبد، لصالح دولة جديدة ديمقراطية وعلمانية لشعبين. معرفة هذه المعطيات لا تعطينا الحق في عدم التساؤل حول ذواتنا، حول ما نقوله، وحول تقديسنا التدريجي لما لا يجب أن يكون مقدسًا، وتبعيتنا المرفوضة "لممثلي المحبوب"، حتى وإن كانوا مَن في المقاومة، بينما لا ندفع أي ثمن لهذه المقاومة أو للموقف الداعم لها.
يقول درويش في مقاله المكتوب في أجواء هزيمة 1967 وانهيار المشروع الناصري "لسنا أهلًا للتقديس في زمن لا يجوز فيه التقديس كما لا يجوز فيه اليقين المطلق". لا يتحدث درويش عن الشعر والأدب فقط، وإن بدا ذلك. يتحدث عن رفض تقديس أي شيء وكل شيء، عن رفض اليقين، حتى وإن كان بفلسطين وثورتها، التي باتت البوصلة البديلة بعد هزيمة ناصر "المقدس".
بالعودة إلى غزة الآن، مثلما هُزم عبد الناصر وسقط مشروعه، من الممكن أن يُهزم أي شخص وأي مشروع. لكن ما يحمينا من السقوط والهزيمة الأبدية هو أن نفكر، أن نكون نقديين، ألا نفقد بوصلة الأولويات. والأولوية اليوم هي وقف إبادة الشعب الفلسطيني في غزة قبل أي شيء آخر. وأن نحبهم حبًا أقل.
والأولوية أيضًا ألَّا يكون حبًا استبداليًا، يستبدل بعض القطاعات أو الأفراد من الشعب المحبوب ليصبحوا هم من يُجسِّدونه، مثلما تصور كافاريللي أن الشعبَ المصريَّ ممثلٌ في شابين يافعين اختارهما هو، وألَّا يكون حبًا يستبدل ذات المُحب بذات الحبيب، ليرى ويتخيل ويشعر ويقول ويقرر بدلًا منه.