
القانون الدولي وهو يرى فلسطين
حراك تاريخي بعد قرارات المحاكم الدولية ليس مقبولًا أن تغيب عنه مصر
تتزامن التطورات الأخيرة في قضيتنا الفلسطينية مع مرور عام على صدور أول قرار قضائي دولي ضد إسرائيل، يربطها بجرائم حرب وإبادة جماعية. ففي 26 يناير/كانون الثاني 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية أمرها بفرض "تدابير مؤقتة" تُلزم الاحتلال بوقف جميع الأعمال والأنشطة والتصريحات التحريضية التي من شأنها التسبب في قتل المواطنين الفلسطينيين في غزة وإصابتهم بأضرار جسدية ونفسية وفرض ظروف معيشية صعبة بقصد تدمير هم "كليًا أو جزئيًا" مع ضرورة اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لتوفير الخدمات الأساسية ودخول المساعدات الإنسانية.
يوصف هذا القرار بالأول من نوعه، لأن كل ما أصدرته محكمة العدل الدولية من قبله ارتباطًا بالقضية الفلسطينية، اقتصر على الفتوى/الرأي الاستشاري لعام 2004 بعدم مشروعية إنشاء الجدار العازل. لكن مع تصاعد العدوان على غزة، أصدرت المحكمة قرارين آخرين بتدابير مؤقتة لمنع الإبادة الجماعية في مارس/آذار ومايو/أيار الماضيين، ثم أصدرت رأيًا استشاريًا تاريخيًا في يوليو/تموز بعدم مشروعية استمرار الاحتلال والمستوطنات وضرورة اتخاذ إجراءات دولية جماعية وفردية لمجابهة الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي الساحة الثانية للقضاء الدولي، المحكمة الجنائية الدولية، شهد عام 2024 سابقة تاريخية أخرى بإصدار أمر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، مما أشعل أزمة بين الولايات المتحدة والمحكمة تتجاوز التراشق الإعلامي إلى سن تشريع لمعاقبتها يصفها بـ"غير الشرعية".
نحن إذن أمام انتصار كبير يتمثل في توالي صدور قرارات من محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية منذ طوفان الأقصى، لدعم الحق الفلسطيني بصورة أكيدة لأول مرة في تاريخ الصراع. لكن لا يجوز التعامل مع الانتصار باستهتار وكأنه سهل المنال والتكرار، أو مجرد حبر على ورق معدوم الأثر، بل يتطلب منا المزيد من التفكيك والتحليل، حتى نستطيع فهم مفرداته وتحدياته وكيفية استثماره والبناء عليه.
معارك متوازية في ثلاث ساحات
قد يتساءل البعض ابتداءً: هل القانون والقضاء الدوليان مهمان حقًا بفلسطين؟ والإجابة الحاسمة: نعم. فهذه ساحة موازية لكل من سياسة الأمر الواقع والدبلوماسية، وللصراع في كل ساحة تأثيرات على الأخرى. وإذا كانت ساحة سياسة الأمر الواقع أسبق وأقوى نفاذًا وأسرع في تحقيق النتائج، بما تتضمنه من وسائل عسكرية وأمنية واقتصادية، فإن التعقيدات تظهر في الساحة الدبلوماسية لطبيعتها التفاوضية واختلال موازين القوى في المنظومة الأممية كما وُضعت عقب الحرب العالمية الثانية، وتزداد أكثر في الساحة القانونية والقضائية، التي تتميز نتائجها بأنها بطيئة وطويلة الأمد وإن كانت تساهم في تحديد نطاقات الساحتين الأخريين، وتطوير آليات الضغط وفتح آفاق مختلفة للصدام والأخذ والرد، مما يسهم في تغيير العلاقات بين الدول إلى الأفضل أو الأسوأ.
هنا يبرز المكسب الأول من الخطوة التي ندين بها إلى جنوب إفريقيا بنقل القضية إلى ساحة القانون والقضاء الدولي: نمو الوعي العالمي بجرائم الصهيونية، لتصبح تلك المرة الأولى التي تكون فيها الدول الملتزمة بالشرعية الدولية أمام قرارات واضحة تقتضي اتخاذ إجراءات متنوعة من شأنها خنق الصهيوني وتحديد حركته وعلاقاته. ولعل تنوع وعدد الدول التي انضمت إلى جنوب إفريقيا في دعوى الإبادة وساهمت بمرافعاتها في قضية الاحتلال دليلٌ ساطع على حجم التعاطف مع أصحاب الأرض، والاستعداد لبذل خطوات تتجاوز الخطابات الرنانة.
يؤدي بنا هذا إلى المكسب الثاني: فرض قيود متنوعة على إسرائيل وقياداتها. منها المباشر بموجب أمر اعتقال نتنياهو الذي أثار جدلًا حول تطبيقه في بولندا والاتحاد الأوروبي انتهى بامتناعه عن المشاركة في الاحتفال الاستثنائي بالذكرى الثمانين لتحرير معسكر أوشفيتز النازي، رغم تعهد الحكومة اليمينية في بولندا بعدم اعتقاله بالمخالفة لسياسات الاتحاد الأوروبي.
ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى مستجد مهم لم ينل حظه إعلاميًا، وهو صدور قرار من المحكمة الجنائية الدولية في 24 أكتوبر/تشرين أول الماضي بإدانة منغوليا بارتكاب خرق خطير لنظامها الأساسي لعدم تعاونها مع المحكمة عندما استقبلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصادر ضده أمر اعتقال مماثل للذي صدر بحق نتنياهو، وإحالة الأمر إلى جمعية الدول الأطراف. وشددت المحكمة في قرارها على أن "حصانة الرؤساء الحاليين لا تلغي أوامر الاعتقال، ولا تسمح بتجاوزها أو الامتناع عن اعتقالهم وتسليمهم" وهو ما يزيد وضع نتنياهو حرجًا، ويقلّص خيارات سفره.
قيود دولية على سياسات الاحتلال
بينما تمتد القيود غير المباشرة إلى ما قررته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن الآثار القانونية للاحتلال، من "ضرورة التأكد من عدم استخدام الأسلحة والسلع الموردة إلى إسرائيل في أعمال الإبادة" و"عدم المساهمة في بقاء المستوطنات غير الشرعية" فنجد صدى ذلك في القرارات التي اتخذتها بعض الدول مثل النرويج وبلجيكا والبرازيل وتشيلي وناميبيا ضد الاحتلال، ككيان من خلال محاولة تقييد توريد الأسلحة والتصدير إلى المستوطنات والاستيراد منها، ووقف تعاقدات اقتصادية ومراجعة استثمارات واتفاقات مشتركة، وكأشخاص عبر ملاحقة بعض الجنود السابقين، استنادًا إلى القرارات القضائية الدولية، والالتزام بتعميم حجية تلك القرارات على الكافة.
مصر الكبيرة ليس مقبولًا أن تغيب عن أي محفل بل يجب عليها الانغماس الكامل في كل القضايا
أما ثالث المكاسب فهو تنامي الشعور داخل هيئتي القضاء الدولي بالخطورة الاستثنائية لممارسات الاحتلال وضرورة مواكبة الواقع السياسي، وهو أمر في غاية الأهمية، لاحظنا مؤشراته في صدور الأوامر والقرارات من العدل الدولية والجنائية الدولية خلال فترة العدوان، رغم الضغوط السياسية والإعلامية العلنية من أمريكا وإسرائيل، وحملات التخويف والإساءة للقضاة وسلطات التحقيق.
ورأينا أيضًا الأغلبية الكاسحة التي صدر بها الرأي الاستشاري بعدم مشروعية الاحتلال وأوامر التدابير المؤقتة في غزة، إلى الحد الذي دعا قاضٍ مثل الألماني جورج نولته إلى الاتفاق مع ضرورة إصدار تلك التدابير بسبب الفشل المستمر في ضمان سلامة المدنين وانعدام الدليل على المزاعم الصهيونية بإدخال المساعدات وتوفير مناطق آمنة على الرغم من "عدم اقتناعه بأن الأدلة المقدمة تقدم مؤشرات معقولة على أن العملية العسكرية لإسرائيل -بحد ذاتها- يجري تنفيذها بنية الإبادة الجماعية".
وتعكس حيثيات تلك الأوامر توسع المحكمة في الاعتداد بالتصريحات الإعلامية الصادرة من وزراء الاحتلال، والمقاطع المنتشرة عبر المنصات الإلكترونية، والتقارير الدولية، كدلائل على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو اتخاذ مسلك يؤدي لارتكابها. كما توسعت المحكمة في مراقبة الوضع على الأرض وإلى أي مدى ساءت الأحوال في غزة، لتقرر تعديل التدابير وتفرض إجراءات جديدة على إسرائيل في مايو/أيار الماضي.
وربما يلعب هذا الاتجاه "التوسعي" دورًا في تخفيف الأضرار المحتملة جراء ترك القاضي اللبناني نواف سلام رئاسة محكمة العدل الدولية ليتولى رئاسة حكومة بلاده، إذ يبدو من مراجعة تاريخ التصويت في القضايا الأخيرة أن معظم زملائه مستقلون تمامًا عن المواقف السياسية لبلادهم، وأحدثهم القاضية الأمريكية سارة كليفلاند التي التحقت بالمحكمة في فبراير/شباط 2024 وكتبت رفقة زميلها الألماني نولته تقريرًا إيضاحيًا خاصًا في قضية عدم مشروعية الاحتلال قالا فيه إن "تشييد المستوطنات يسهم في حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره والسيادة على أراضيه واستقلاله".
طموحات التغيير تتحدى اللوبي واليمين
أما المكسب الرابع الذي يجب أن نعيه جيدًا، فيتمثل في أن تجاوب جانب معتبر من نخبة القضاء الدولي مع الحقوق الفلسطينية في القضايا المختلفة، ناتج عن تصاعد الوعي بضرورة تطوير منظومة القانون الدولي، لتصبح أكثر نضجًا وحيوية وتلبية للاحتياجات الاجتماعية والإنسانية، وأن تتحرر من المواءمات السياسية والجمود المتوارث.
وقد ساهم الفقيه القانوني الألماني الشهير برونو سيما، القاضي السابق بالمحكمة الجنائية الدولية، في بلورة هذا التوجه قبل ثلاثين عامًا، عندما دعا إلى تمتع المحاكم الدولية بمزيد من الاستقلال لـ"رعاية احترام القيم الأساسية التي لا ينبغي أن تُترك للدول فرادى أو فيما بينها، بل يجب إقرارها كأساس لمصالح جميع الدول والشعوب".
يستوجب ذلك مجابهة تحديات عديدة كالحصانات السياسية وحق النقض في مجلس الأمن (الفيتو) والاتفاقيات الثنائية بين الدول لتجاوز بعض مبادئ القانون الدولي وافتقار القضاء الدولي بذاته لوسائل ناجعة لتنفيذ قراراته على عكس المحاكم الوطنية.
ويظهر هذا الاتجاه في إصرار الجنائية الدولية على سلامة مواقفها وعدم تراجعها عن اتهام نتنياهو، ومضيها قُدمًا في اتهام بوتين وانتقاد رئيستها مؤخرًا لأمريكا، واتهام واشنطن صراحة بالعمل على "هدم المحكمة".
ويتجلى أيضًا في العبارات التالية للقاضي الجنوب إفريقي داير تلادي في تقريره الإيضاحي على هامش أمر التدابير المؤقتة الصادر من محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل في مايو الماضي "إن الكلمات التي تصف الأهوال في غزة لا تكفي لوصفها. وألفاظ مثل 'مروع، كارثي، خطير للغاية' كلها تتضاءل مقارنة بما يحدث أمام أعيننا. ومن غير المنطقي أن يحدث ذلك في العصر الذي قيل فيه إن القانون الدولي قد نضج".
لكن اللوبي الصهيوني واليمين المحافظ في أوروبا وأمريكا، بشقيه السياسي والقانوني، لا يعدمان الحيلة أمام تلك المحاولات التوسعية الحقوقية، بل تُنشر العديد من الدراسات والمقالات التي تتهم المحكمتين الدوليتين بتجاوز صلاحياتهما، والانغماس في الأنانية، وإصدار قرارات وأوامر غير قابلة للتطبيق مما يقلل أهميتهما.
وهنا علينا أن نتساءل بجدية: ما دور مصر ونخبتها القانونية والدبلوماسية في خضم هذا الحراك الهائل والتاريخي؟
لعبت مصر دورًا هامًا في إحالة طلب جديد من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى محكمة العدل الدولية لتصدر رأيًا استشاريًا بشأن التزامات إسرائيل نحو أنشطة المنظمات الأممية في الأراضي المحتلة بغية إلزامها بالتراجع عن حظر الأونروا.
لكن مصر الكبيرة ليس مقبولًا أن تغيب عن أي محفل، بل يجب عليها الانغماس الكامل، بوعي وفاعلية، من خلال المساهمة في كل القضايا ذات الصلة، وفتح آفاق التوعية بتلك المستجدات والنقاش حولها ودراستها والاشتباك معها، والبناء على ما تحقق. وقبل ذلك كله.. توثيق التعاون السياسي والاقتصادي مع الدول التي تولت حمل قضيتنا إلى ساحات غير مطروقة.
لقد اختتم القاضي تلادي تقريره سالف الذكر بلهجة بدت بائسة "المحكمة تبقى مجرد محكمة" وكأنه يعتذر عن عدم قدرة محكمة العدل الدولية على تقديم المزيد لإنقاذ شعب غزة. والطريق الوحيد لتغيير تلك الحقيقة الآن ومستقبلًا، يبدأ من القاهرة المؤهّلة بالتاريخ والثقل الشعبي والخبرات والكفاءات لقيادة تحالف واسع لاستثمار مكاسب القانون الدولي وترجمتها في الساحتين السياسية والدبلوماسية لصالح فلسطين.. القضية المركزية، وخط الدفاع الأول عن الأمن القومي المصري.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.