حزب الخضر الألماني، فليكر
صورة أرشيفية لرئيسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، الألمانية أنالينا بيربوك، من إحدى فعاليات حزب الخضر الألمانية عام 2019

الإفلات من العقاب ينتصر في زمن التخاذل

منشور الاثنين 9 يونيو 2025

لا يمكن قراءة فوز وزيرة الخارجية الألمانية السابقة أنالينا بيربوك برئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا كرسالة إهانة وازدراء للشعوب ولقيم العدالة في مقاربة القضايا الإنسانية، حيث تبدو ازدواجية المعايير عنصرًا جوهريًا في تسيير المنظومة الدولية التي أثبت العدوان على غزة هشاشتها وانسدادها.

نتحدث هنا عن مكافأة، ولا يمكن وصفها بأقل من ذلك، لمسؤولة دبلوماسية ظلَّت طوال عام ونصف تقدَّم الدعم شبه المطلق لحكومة بنيامين نتنياهو، أثناء ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. بررت قصف المدنيين، ودافعت عن استمرار إمداد جيش الاحتلال بالسلاح، وطَعَّمت ذلك كله بالقليل من تصريحات إبراء الذمة تدعو لحل الدولتين، وتنزعج من استهداف بعض المنشآت الحيوية.

لا يقتصر النفاق على ازدواجية المعايير ولا القدرة على إعلان مواقف متناقضة أو لصالح أطراف متعارضة، كما فعلت غالبية الدول الـ167 التي صوتت لصالح بيربوك، التي سبق لها التصويت لدعم ضم دولة فلسطين إلى الجمعية العامة بعضوية كاملة (138 صوتًا) ولاستطلاع رأي محكمة العدل الدولية في سياسات إسرائيل تجاه الأونروا والمنظمات الدولية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (137 صوتًا).

التخاذل أيضًا شعبة من شعب النفاق.

وقد تخاذلت هنا، بدم بارد، كل دولة ما زالت تقول إن القضية الفلسطينية مهمة وأساسية ولا يمكن التنازل عن أولويتها، سواء كان ذلك من منطلق إنساني، أو وطني، أو سياسي استراتيجي بحت. فلم يؤدِّ أحدٌ واجبه في الدعاية والحشد والتنبيه لخطورة مكافأة من يشارك في التغطية على جرائم حرب ودَعْمِها، سواء كان معبِّرًا عن رأيه الشخصي، أو موقف حزبه أو حكومته.

يمثل فوز بيربوك انتصارًا للإفلات من المساءلة، وللنجاة من المواجهة الضميرية، حتى وإن اقتصرت تلك المساءلة المأمولة على ردة فعل دبلوماسية ضئيلة، لمنع أو معارضة توليها منصبًا دوليًا مرموقًا تسعى إليه.

تمثل زعيمة حزب الخضر الأربعينية صنفًا من السياسيين لا يتورّع عن شيء بغية أهداف وظيفية شخصية. في فبراير/شباط الماضي مُني حزبها بهزيمة قاسية في الانتخابات الفيدرالية الألمانية، ومع ذلك سعت جاهدة للحفاظ على منصبها. ولمَّا تبينت استحالة ذلك، سعت إلى رئاسة الهيئة البرلمانية للحزب في البوندستاج، ثم بدأت تتسرب معلومات عن رغبتها في منصب دولي.

المسألة الألمانية أولًا

مجلس الأمن الدولي، 18 أكتوبر 2023

القفز إلى هذا المنصب كان يعني أولًا تقديم ألمانيا ذاتها لتمثيل مجموعة غرب أوروبا والدول الأخرى WEOG لأول مرة منذ توحيد الدولة عام 1990، وهو تمثيل طالما انحصر بين دول أخرى مثل مالطا والسويد والدنمارك وتركيا، على خلفية فكرة متوارثة منذ تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، بوجود حالة فتور بين برلين والأمم المتحدة، خاصة الطرف الأمريكي الأقوى بداخلها، بعد تجاهل مقترحات عدة لحصولها على مقعد دائم في مجلس الأمن، بدعم فرنسي بريطاني ثم عدم ممانعة روسية في عهد المستشار الأسبق جيرهارد شرودر. ثم تجاهل مقترح آخر بتخصيص مقعد دائم مشترك للاتحاد الأوروبي قبلت به ألمانيا كحل وسط.

وتزايد الفتور في 2011 عندما امتنعت ألمانيا من مقعدها غير الدائم بمجلس الأمن عن التصويت للقرار 1973 بفرض حظر جوي في ليبيا والسماح بتنظيم هجمات على قوات معمر القذافي، بعكس رغبة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. لكن هذا لم ينل من دعم ألمانيا المستمر للمنظمة وأذرعها الرئيسية، خاصة المنظمات الإنسانية والمحكمة الجنائية الدولية، حتى باتت رابع أكبر مساهم بنسبة تفوق 6% بعد الولايات المتحدة والصين واليابان بنسب 22% و15% و8% على الترتيب. وفي الوقت ذاته، بقيت بعيدة عن المناصب الأممية العليا.

وهنا مربط التخاذل المبدئي. هل بعد تجاهل ألمانيا طوال هذه الفترة في المناصب الأممية، الرسمية أو الشرفية، تحصل على هذه الترضية دون أي اعتراض مُعلن من الدول المساندة للقضية الفلسطينية، في وقت تبدو فيه سياساتها الرسمية مساندة حتى الآن لجرائم الإبادة؟

التسليح مستمر رغم المراجعة الشعبية

صدّرت ألمانيا إلى إسرائيل أسلحة بقيمة تقارب النصف مليار يورو منذ أكتوبر/تشرين أول 2023، رغم الجدل الطويل الذي ثار بدوافع إنسانية والتزامًا بالقانون الإنساني الدولي، وأيضًا خشية صدور حكم قضائي من محكمة العدل الدولية بإدانتها بمساندة الجرائم ضد الإنسانية في غزة، في الدعوى التي رفعتها نيكاراجوا ضدها ولم تفصل فيها المحكمة حتى الآن، لكنها في قرارها الصادر في مايو/أيار 2024 قالت إنه "من المهم بشكل خاص تذكير جميع الدول بالتزاماتها بشأن بيع الأسلحة ونقلها إلى أطراف النزاعات المسلحة وضرورة تجنب أخطار احتمال استخدام تلك الأسلحة في انتهاك المواثيق والاتفاقيات الدولية، وأن هذه الالتزامات تقع بشكل خاص على ألمانيا باعتبارها دولة طرفا في تلك الاتفاقيات".

نالت ألمانيا نقيض الرد الدبلوماسي والسياسي الذي كانت تستحقه على دعمها للإبادة

وعلى وقع التمادي الإسرائيلي، والمراجعة الإعلامية للمواقف السياسية في الأشهر الأخيرة، لم يعُد الشعب الألماني نفسه راضيًا عن هذه السياسات المستغرقة في نقاشات عقيمة وبث رسائل متناقضة. حيث أبدى 77% من المشاركين في استطلاع أجرته مؤسسة تابعة لقناة ZDF الرسمية رغبتهم في فرض "تعليق مؤقت لصادرات السلاح" لإسرائيل مقابل 15% فقط لم يكن لديهم مانع في استمرار التصدير. بل إن معارضة تصدير السلاح تزيد على 80% بين جماهير الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم وشريكه الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر.

بدت هذه النتائج ردًا جماهيريًا وإعلاميًا على تصريحات وزير الخارجية الجديد يوهان فاديفول بشأن "استمرار بيع الأسلحة لإسرائيل" باعتبار أن "أمنها ووجودها مبدأ أساسي لدولتنا وعلينا التزام بمساعدتها على ضمان أمنها" والتعهد لنظيره الإسرائيلي جدعون ساعر بالاستمرار في تصدير الأسلحة، مع استبعاد الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن "لأنه سيكون إشارة خاطئة".

لكن ألمانيا نالت نقيض الرد الدبلوماسي والسياسي الذي كانت تستحقه. 167 صوتًا في صندوق انتخابات الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح بيربوك مع امتناع 14 مندوبًا فقط، ومن دون الإشارة إلى قضية غزة أو الموقف من فلسطين في أي نقاش حول الحدث، الذي حضرت في خلفيته أوكرانيا ومسائل أخرى.

مبررات لا ترقى لمستوى الحدث

التخاذل الثاني كان بشأن بيربوك نفسها. فبعد القبول بترشيح ألمانيا عن مجموعتها بالتوافق دون منافس، كان على بيربوك تخطي عقبة أخرى لا تتعلق بالدولة ولكن بالشخص. حيث كان الاتجاه في البداية إلى ترشيح الدبلوماسية المخضرمة هيلجا شميد، في تعبير عن توجه باختيار امرأة للمنصب. لكن حكومة أولاف شولتس (التي كانت بيربوك وزيرة بها) قررت في مارس/آذار الماضي تزكية بيربوك بحجة ترشيح شخصية سياسية لا دبلوماسية للمنصب.

على مدى عام وتسعة أشهر لم نشهد جهودًا مكثفة ومنسقة على الصعيد الدبلوماسي إلَّا مرات معدودة

أي أنه كان أمام الدول المهتمة بالقضية الفلسطينية أكثر من شهرين للتعبير عن موقف عملي موحد، أو حتى أدبيّ وخطابيّ، ضد ألمانيا ومرشحتها رفضًا لتشريفهما بهذا المنصب في زمن الإبادة.

يمكن بسهولة سرد المبررات التي يُمنطقها أصحاب المواقف المتخاذلة.

المنصب بروتوكولي! صحيح، وهو يختلف تمامًا عن منصب الأمين العام للأمم المتحدة، ولكن من يتولاه هو ذلك الجالس على أعلى مقعد بالجمعية التي ترفض القوى الصهيونية ضم فلسطين إليها بعضوية كاملة، وهي الساحة الوحيدة في الأمم المتحدة التي يمكن فيها استصدار قرارات لخدمة القضية تسهم في دعم الوعي العالمي بها ومراكمة المكاسب، بعيدًا عن الفيتو الأمريكي.

المنصب بدون اختصاصات واسعة والمتعارف اختياره بالتزكية من بين أعضاء المجموعات بالترتيب والتوافق! صحيح، ولكن له مخصصات مالية، وامتيازات أدبية، يجب العمل على حرمان شركاء الإبادة منها، لإشعارهم بارتفاع الكُلفة، وبأن المواقف لا تُنسى، والذاكرة لها مدلولٌ وتأثير.

قد يرددون أيضًا أن هذه المعركة ليست المناسبة لاستنفاد اتصالات الحشد والدعم العابر للحدود الإقليمية! والحقيقة أننا على مدى عام وتسعة أشهر لم نشهد جهودًا مكثفة ومنسقة على الصعيد الدبلوماسي إلَّا مرات معدودة، لا تواكب على الإطلاق ما نراه كل ساعة من كوارث إنسانية على الأرض، ولا تتماشى مع نبض الشعوب العربية. ولا تكفي لتشكيل جبهة هجوم على المصالح الصهيونية ودفاع عن القضية الفلسطينية في الساحات الأكثر تأثيرًا. حتى مجموعة لاهاي غاب العرب عنها، مثلما غابوا عن المشاركة في دعوى الإبادة الجماعية، وامتنعوا عن الاستثمار في المواقف التضامنية المشرفة للدول اللاتينية.

ولو أن الموقف المعترض المُعلن عديم القيمة، لما أعلنت روسيا رفضها لبيربوك احتجاجًا على مواقفها من حرب أوكرانيا، ودعوتها لإجراء تصويت سري بالصندوق وليس بالتزكية، وهي تعرف أنها لن تستطيع منع ذلك إذا أقرت باقي الدول الكبرى الترشح. ولما أعلنت صربيا، تلك الدولة محدودة التأثير والنموذج الأقرب لدولة صغيرة تتمتع باستقلالية، رفضها الترشيح بسبب تبنِّي ألمانيا دعوة تخصيص يوم عالمي لإحياء مذبحة سربرنيتسا، إحدى أفظع صور جرائم الحرب والإبادة بحق الشعب البوسني.

تلك هي السياسة. فما بالنا بقضية حية تتطلب عملًا تضامنيًا هائلًا ليحظى المستضعفون في غزة بأي فرصة للتعبير والرفض والحكي تحت نير الآلة الحربية الهائلة والتجويع والتهجير. هل سيمنحهم التخاذل صوتًا في محافل تستطيع بيربوك وأمثالها تَصدُّرها بلا رادع؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.