محكمة العدل الدولية - إكس
محكمة العدل الدولية تستمع إلى طلب جنوب إفريقيا إلزام إسرائيل بوقف نشاطها العسكري في رفح، 10 مايو 2024.

الأونروا أم الدقيق؟

مصر أمام محكمة العدل الدولية.. أولويات بحاجة للمراجعة

منشور الاثنين 28 أبريل 2025

يتزامن نشر هذا المقال مع موعد مرافعة مصر أمام محكمة العدل الدولية، في مستهل نظرها الطلب المقدم من الجمعية العامة للأمم المتحدة لتصدر رأيًا استشاريًا بشأن التزامات إسرائيل نحو أنشطة المنظمات الأممية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بهدف إلزامها بالتراجع عن حظر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، خاصة بعد مصادقة الكنيست على قانونين يمنع الأول الوكالة من العمل "داخل إسرائيل" ما يعني تعجيزها عن تقديم خدماتها في جميع الأراضي المحتلة، ويحظر الثاني تواصل السلطات الإسرائيلية معها.

تستمع المحكمة إلى مرافعات الدول المتداخلة في الطلب على مدار خمسة أيام، الأولوية فيها لفلسطين المتضررة والمكلومة جراء جرائم الاحتلال وسياساته الإبادية، ثم لمصر كونها الدولة الرئيسة في جهود تحريك الطلب في الأمم المتحدة، ومعها نحو أربعين دولة ستدعم الحق الفلسطيني والأونروا بمذكرات مكتوبة ومرافعات شفهية، في مواجهة الولايات المتحدة والمجر وهما تتصدّيان للدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي.

تسترجع هذه الإجراءات ذكرى مشاركة عشرات الدول في جلسات استماع أمام المحكمة ذاتها، العام الماضي، في القضية التي صدَرَ فيها رأي استشاري تاريخي في يوليو/تموز 2024، بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومطالبة جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بعدم الاعتراف بالممارسات الإسرائيلية وفرض قيود على الاستيطان والتهجير القسري والتمييز العنصري.

إنها فرصة للحشد السياسي الدبلوماسي والتذكير بالفظائع الإسرائيلية أمام الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، وربما تحفيز بعض الدول على اتخاذ إجراءات مضادة تضمن زيادة ضخ المساعدات والضغط لتوصيلها.

أُؤمن حقًا بأهمية المسار القانوني والقضائي الدولي حتى وإن لم يكن ناجعًا على الفور، بالنظر لتأثيراته المتبادلة مع المعترك السياسي والدبلوماسي، ولأن المعركة مع إسرائيل ليست مما يمكن حسمه بضربة قاضية واحدة. لكنَّ ظلالًا سوداء من واقعنا المؤلم تجعلني هذه المرة غير متحمس لمتابعة جلسات الاستماع، وغاضبًا من تحوّلها إلى ساحة آمنة لإبراء الذمة.

فأهالي غزة تحت الحصار الكامل لأكثر من خمسين يومًا، بلا غذاء ولا مأوى ولا مستشفيات ولا مساعدات إنسانية، وانسداد مستمر لآفاق المفاوضات وجهود الوساطة. فهل الأولوية في هذا السياق الاشتباك مع حظر الأونروا، أم التحرك العاجل لتلبية نداءاتها بإدخال الدقيق والوقود واللقاحات التي نفدت؟

ساحة آمنة بين حلبات صراع شرسة

كلمة ممثلة مصر أمام محكمة العدل الدولية ياسمين موسى، 21 فبراير 2024

باتت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب آراء استشارية بشأن فلسطين أشبه بمظاهرات سياسية/قانونية، ومجالًا لبعض الدول للتنفيس وإظهار مواقف إنسانية وأخلاقية، كان يجب أن تتحول إلى حلبات صراع شرس تنفذ إلى عصب القضية، وأقصد بذلك مقاضاة إسرائيل بصورة مباشرة بالانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا، واتخاذ قرارات دبلوماسية واقتصادية ضدها، وإجراءات صريحة تزيد عزلة الكيان الصهيوني ومستوطناته وقياداته.

لقد أصدرت محكمة العدل الدولية من قبل رأيين استشاريين مهمين بشأن القضية الفلسطينية، الأول عام 2004 بعدم مشروعية إنشاء الجدار العازل وبطلان الاعتراف بالآثار المترتبة عليه، والثاني عام 2024 وتضمن قائمة من الالتزامات الهائلة التي تمس العلاقات الثنائية بين كل دولة عضو بالأمم المتحدة وإسرائيل من معاهدات سلام وصداقة وتعاون، ما دامت تنطوي على اعتراف بوضع الاحتلال والاستيطان.

لكن وللأسف تظل الاستجابة الدولية لهذين القرارين محدودة، ومحفوفة بالحساسيات والضغوط. والمتوقع أن أهم آثار القرار الأحدث ربما لن تظهر إلا بعد سنوات من الحشد وبلورة الأفكار وصياغتها في المؤسسات القارية والإقليمية، كما حدث عام 2019 عندما صدر حكم محكمة العدل الأوروبية بوسم السلع المستوردة من المستوطنات كقيدٍ على بيعها استجابة لقرار عام 2004، مما يعطي مؤشرًا على بطء الآثار المرجوة للقرار المرتقب بشأن التزامات إسرائيل تجاه الأونروا وغيرها من المنظمات الأممية.

ومن بين هذه التحركات المتثاقلة، البطيئة بطبيعتها، فتحت جنوب إفريقيا بدعوى الإبادة الجماعية مسارًا أسرع نسبيًا، ولا يخلو من الصرامة والتأثير والحساسية، إذ إن الحكم المرجو صدوره من محكمة العدل الدولية هو "حكم قضائي بالإدانة" وليس "رأيًا استشاريًا" مما ستكون له انعكاسات خطيرة على وضع الكيان الصهيوني وقياداته، بزيادة عزلتهم، وتسهيل نصب كمائن قانونية متنوعة لملاحقتهم وتقييد حركتهم، إلى جانب إمكانية فرض عقوبات متعددة احترامًا لحجية الحكم.

عام مضى على الوعد المصري

مرَّ نحو عام على إعلان مصر نيتها الانضمام إلى جنوب إفريقيا في دعواها. خبرٌ أسعد المصريين، مواطنين ومؤسسات، وأشعرهم بمستوى مختلف ونبرة تصعيدية في مقاربة العلاقات المتوترة مع عدو تاريخي تربطهم به معاهدة سلام ما زالت مرفوضة شعبيًا مهما حاولت الدولة تجميل الواقع. بعدها بأيام بث الإعلام العبري معلومات مُجهّلة عن تراجع القاهرة وعدم إقدامها على تلك الخطوة، الأمر الذي نفاه مصدر "رفيع المستوى" لقناة القاهرة الإخبارية "في ظل تفاقم حدة الاعتداءات الإسرائيلية".

ومنذ ذلك الحين لم تقُل القاهرة كلمة أخرى عن القضية، حتى في ظل تحملها العبء الأكبر، إقليميًا، في التصدي لمخططات التهجير، وإعداد خطة إعادة الإعمار، ومحاولة التوصل إلى اتفاق يوقف العدوان الغاشم.

أي إسهام لمصر الكبيرة في هذه القضية سيكون له أثر سياسي وقانوني أهم بكثير من مرافعة اليوم

وبينما انضمت إلى جنوب إفريقيا دول مثل كوبا وبوليفيا وبيليز والمالديف، بدا الابتعاد المصري غريبًا على ضوء أربع نقاط رئيسية. أولها أن إسرائيل زعمت رسميًا أكثر من مرة مشاركة مصر في المسؤولية عن غلق المعابر ووقف إدخال المساعدات، الأمر الذي ردده رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مؤخرًا بشكل ضمني عندما ادَّعى أن "غزة محاصرة ولسنا نحن من يحاصرها". مما يعني توافر مصلحة مصرية أصيلة واستراتيجية في التدخل وإيضاح الحقائق كاملة ورد كيد الصهاينة إلى نحورهم وتشديد الخناق عليهم، خاصة ونحن لم نبدأ بعد المرحلة الحاسمة من المحاكمة.

أما الثانية أن مصر هي الوحيدةُ التي تملك مفتاح توثيق كل حدث إنساني يؤكد إدانة إسرائيل، فهي الطرف الشاهد يوميًا على عرقلة المساعدات وغلق الحدود والتغيير الديموغرافي بالقوة والتهجير القسري، وصولًا إلى إفساد نتنياهو لكل جهود الوساطة على مدى عام ونصف العام. ما يعني أنها الأكثر مصداقية وقدرة على الرصد وخلق سردية متكاملة.

أما النقطة الثالثة فتتمثل في مستجدٍّ لم يحظ بتغطية إعلامية مناسبة، وله أبعاد مقلقة. حيث قبلت محكمة العدل الدولية الأسبوع الماضي طلب إسرائيل تأجيل الموعد النهائي لإيداع مذكرتها الرئيسية في القضية 6 أشهر، من يوليو/تموز المقبل إلى يناير/كانون الثاني 2026. وهو قرار أثار حفيظة جنوب إفريقيا، فالتسويف ليس في مصلحة الإحساس العام بخطورة القضية، كما أن طول المدة ربما يمنح أطرافًا مختلفةً مساحةً أوسع للضغط والتلويح بتهديدات جديدة سواء للمحكمة أو للدول المنخرطة في الدعوى.

والنقطة الرابعة والأخيرة على ضوء التأجيل، أن التطورات الكارثية الأخيرة التي زادت فيها وتيرة جرائم الإبادة تتيح الفرصة أمام مصر، أكثر من غيرها، للتدخل وطلب إصدار تدابير مؤقتة جديدة ضد إسرائيل، لوقف العدوان وإدخال المساعدات الغذائية والدوائية بشكل عاجل.

يأتي التدخل المطلوب من موقع مراقب لصيق ومتضرر من خطر التهجير، وبدوافع إنسانية وميدانية جديدة غير التي استندت لها جنوب إفريقيا في بداية رفع الدعوى، وباعتبار أن اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية تتضمن قواعد قانونية إنسانية واجبة النفاذ على الكافة.

أي إسهام لمصر الكبيرة في هذه القضية سيكون له أثر إنساني سياسي وقانوني أهم بكثير من مرافعة اليوم في الطلب المقدم من الأمم المتحدة إلى جانب عشرات الدول. وشتّان الفارق بين ميدانٍ صراع حقيقي فيه احتكاك خشن، وساحةٍ لإبراء الذمة.

تعددت التخمينات والسبب مجهول

بلهجة وقحة لا تخلو من سذاجة، تحدث مؤخرًا كاتب سياسي يميني بارز في جنوب إفريقيا اسمه برينس ماشيل، وهو من معارضي الرئيس سيريل رامافوزا، منتقدًا أخذ بريتوريا زمام المبادرة في دعوى الإبادة الجماعية واصفًا ذلك بـ"غباء استراتيجي" في خطاب يبدو متأثرًا بالإعلام الإسرائيلي. ومن بين دفوعه تساءل "لماذا لم نسمع عن دور قانوني لجيران فلسطين؟ ولماذا ليست مصر؟"، معزيًا ذلك إلى "الخوف على مصالحها الدولية".

يتحدث البعض عن ضغوط من الإدارة الأمريكية السابقة مُورست على مصر بعد إعلان نيتها التدخل، وهذا مردود عليه بإمكانية اللعب بورقة الانضمام أو المفاضلة بينها وبين إجراءات أخرى ذات طابع سياسي أو اقتصادي.

ويرى البعض ذلك نتاجًا طبيعيًا لحاجة مصر لزيادة واردات الغاز الإسرائيلي، ومردود على ذلك أيضًا بأن إزالة هذا القيد قضية أمن قومي وهناك تحركات فعلية لإيجاد بديل من خلال الاتفاقيات الأخيرة مع قبرص. نعم؛ المقاطعة الاقتصادية مطلب كل عدو للصهيونية، لكن التقاضي الدولي لا يحتّم بالضرورة وقف العلاقات الاقتصادية من هذا النوع، وإسرائيل نفسها ما زالت تستفيد من الفحم الجنوب إفريقي.

ويرى آخرون أن عزوف مصر يستند إلى معاهدة السلام وملاحقها، ويمكن تفنيد ذلك بأن المادة السادسة منها تنص على أنه لا يجوز أن تُمس المعاهدة ولا يجوز تفسيرها على نحو يَمس بحقوق والتزامات الطرفين وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، كما أن الفقرات التي أضيفت إلى الملحق الثالث أكدت المعنى ذاته، من دون تقييد حق أو التزام معين يخص التقاضي أو الانصياع لاتفاقيات دولية لها حجيتها على الكافة، كاتفاقيات جنيف ومنع الإبادة الجماعية.

من الاحتجاج إلى قطع العلاقات طيفٌ متدرج لمستويات الخصومة، يمكن التنقل بينها حسب تغير الظروف والملاءة السياسية للدول، وإسرائيل تحتاج إلى مصر في اللحظة الراهنة أكثر من أي وقت مضى، ولا يتصور أحدٌ استئناف أي مفاوضات بعيدًا عن القاهرة. وفي الوقت نفسه لا يمكن الوقوف عند نقطة عدم توجيه الدعوة للسفير الإسرائيلي لمراسم اعتماد السفراء الأخيرة أو بقاء السفير المصري لدى إسرائيل في القاهرة دون إعلان رسمي، وكأنها أقصى تعبير عن رفض ما يجري.

وزارة الخارجية مُطالَبة بالإجابة عن سؤال الغياب عن دعوى الإبادة الجماعية. أو بالأحرى، اتخاذ خطوة في لاهاي أبعد من إبراء الذمة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.