لمصطلح "الطرف الثالث" معانٍ عدة، فهو من يُحمَّل مسؤولية كثير من الكوارث التي يتهرب منها طرفا صراعٍ ما أو أحدهما، كما حدث في مصر عقب ثورة يناير. أما في القانون المدني، فهو كل طرف خارج العلاقة التعاقدية الثنائية، سواء تأثر بها أم لا. أما في القضية الفلسطينية، تحديدًا في زمن الإبادة الإسرائيلية لشعب غزة الصامد، فأتصور أن المصطلح يتسع ليشمل جميع دول العالم، عدا الولايات المتحدة باعتبارها شريكًا لصيقًا بالكيان الصهيوني في جرائمه اليومية.
إن "المحو الاستعماري للفلسطينيين"، على حدِّ وصف المقررة الأممية المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيزي، هو الهدف النهائي لحملة الإبادة الجماعية التي "يشاهدها العالم لأول مرة على الهواء" مُحمَّلةً بكل السرديات التوراتية والفاشية التي بلغت من التبجح حدًّا يتجاوز التبرير والتلاعب إلى درجة تكريس الوضع الإسرائيلي الاستثنائي والإفلات التام من المساءلة والعقاب.
يمكن وصف فشل "الطرف الثالث" في وقف حملة الإبادة لأكثر من أربعمائة يوم بـ"المهزلة الأخلاقية" التي لا تضع النظام الدولي وحده على المحك في اختبار الضمير والأخلاق الذي يميزه عن الحياة البهيمية، وبما يتجاوز وحدة اللسان والعرق والدين، بل معه أيضًا كل إنسان حر.
ويزداد العالم قُبحًا بتورط الكثير من دول ومؤسسات وشركات "الطرف الثالث" بإرادة تامة أو بالتبعية لواشنطن أو تحت ضغوط اللوبي الصهيوني في مد يد العون لممارسي الإبادة الجماعية، من خلال توريد الأسلحة الهجومية والدفاعية إلى الأراضي المحتلة وتسهيل ذلك، أو استيراد الأسلحة والمعدات الإسرائيلية (كما فعلت فنلندا وأذربيجان مؤخرًا) والمساعدة في الأنشطة الخاصة بإقامة المستوطنات وتأمينها.
اختبار أخلاقي في لحظة نادرة
يمثل قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، اختبارًا جديدًا لمدى التزام الدول المختلفة؛ خصوصًا تلك المنضمة إلى نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة وعددهم 125، بأحكام الشرعية الدولية، بإعلان استعدادها لتنفيذ أمر الاعتقال، مما يعني عمليًا غلق حدودها أمام هذين المتهمين بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية.
من بين أعضاء المحكمة جميع دول أوروبا وأمريكا الجنوبية، ومعظم دول إفريقيا، وكندا والمكسيك وأستراليا. ما يعني فرض قيود على حركة نتنياهو تحديدًا كرجل دولة. ونعرف أن الأردن وتونس وفلسطين فقط هي الدول العربية المنضمة بشكل كامل للنظام، بينما وقعت عليه مصر والجزائر والمغرب واليمن وعمان والكويت وسوريا والإمارات دون التصديق نهائيًا عليه، فيما لم توقع السعودية وليبيا وقطر والعراق ولبنان.
لكن الدور المنتظر من الدول العربية، في مقدمتها مصر، لا يجب أن يقف عند الترحيب الخافت بهذا القرار غير المسبوق، بل يجب استغلال هذه اللحظة التاريخية النادرة من الاهتمام بالقضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال في عملية حشد واسعة وتعاون وثيق مع الدول التي أعلنت التزامها بالقرار، للعمل على عزل إسرائيل دبلوماسيًا واتباع طرق غير تقليدية في محاسبتها على استمرار الإبادة.
والاستجابة لأمر الاعتقال مجرد جانب بسيط مما تفرضه المعاهدات على "الطرف الثالث" تجاه قضية غزة، لكن الالتزامات الأهم تتجاهلها الحكومات عمدًا وتُعتِّم عليها، ربما للتهرب من حساب شعوبها التي يجب أن تكون أكثر وعيًا بأهمية التعاون العابر للحدود في إطار القانون الدولي، وبإمكانية خلق مسارات جديدة مشتركة تتجاوز التسليم بعجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
مسارات متنوعة لتحقيق العدالة
وقد مهدت محكمة العدل الدولية طريقًا واضحًا لتحقيق ذلك، في رأيها الاستشاري الصادر في 19 يوليو/تموز الماضي بشأن العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، إذ نبهت إلى "وجوب التزام الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بعدم الاعتراف بالوجود الإسرائيلي غير القانوني في المناطق المحتلة منذ 5 يونيو (حزيران) 1967 والامتناع عن الدخول في معاملات اقتصادية وتجارية مع إسرائيل بشأن الأراضي المحتلة والمستوطنات وما قد يترتب على ذلك من ترسيخ وجودها غير القانوني، وقطع العلاقات الاستثمارية التي تساعد في الحفاظ على ذلك الوضع غير المشروع، والامتناع عن إقامة بعثات دبلوماسية لدى إسرائيل في تلك الأراضي".
ومن منطلق أن لكل دولة مصلحة في حماية المشروعية الدولية وإعلاء القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات المنبثقة منه؛ دعت المحكمة جميع الدول إلى "الامتناع عن تقديم أي مساعدة لأنشطة الاحتلال الإسرائيلي (....) والسعي لإنهاء أي عائق أمام ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير".
إن الفقرات السابقة ليست تعبيرات إنشائية مجردة، بل تعبر عن التزامات هائلة، لأنها تمس العلاقات الثنائية بين إسرائيل وكل دولة "طرف ثالث" من معاهدات السلام والصداقة والتعاون ذات الطابع الإطاري العام إلى الاتفاقيات الدقيقة.
فالالتزام بتوصيات محكمة العدل الدولية يفرض، دون مواربة، أن تراجع كل دولة علاقاتها التجارية مع إسرائيل من تصدير واستيراد واستثمار وشراكة، على الأقل لتتأكد أنها لا تشمل المستوطنات أو الأنشطة العسكرية والأمنية ضد الشعب الفلسطيني في غزة أو الضفة الغربية أو القدس الشرقية.
ونذكر هنا أن محكمة العدل الأوروبية قد قضت عام 2019 بوسم السلع المستوردة من المستوطنات وتمييزها عن السلع المصنعة أو المزروعة في أراضي إسرائيل على حدود 4 يونيو/حزيران 1967 "لما تمثله المستوطنات من انتهاك لقواعد القانون الدولي الإنساني العام واتفاقيات جنيف واستجابة للرأي الاستشاري الصادر من محكمة العدل الدولية عام 2004 في قضية الجدار العازل".
وما ذهبت إليه المحكمة الدولية الأعلى مؤخرًا يتجاوز السيطرة على الواردات، إلى ضرورة التأكد من الوجهة النهائية للبضائع المصدّرة إلى إسرائيل، وهو ما يشمل السلع الاستراتيجية والأساسية ومواد الطاقة ومواد التسليح والبناء، فضلًا عن تحاشي التعامل مع الحكومة الإسرائيلية في أي نشاط موجّه نحو الفلسطينيين ولدعم المستوطنين والشركات التي لها أي صلة بالمستوطنات.
ويتكامل هذا مع ما ذهبت إليه محكمة العدل الدولية في قرارها الصادر 30 أبريل/نيسان الماضي برفض اتخاذ تدابير عاجلة ضد ألمانيا لتصديرها أسلحة لإسرائيل في الدعوى المقامة من نيكاراجوا، عندما قالت بعبارات واضحة "من المهم بشكل خاص، تذكير جميع الدول بالتزاماتها بشأن بيع الأسلحة ونقلها إلى أطراف النزاعات المسلحة، وضرورة تجنب أخطار احتمال استخدام تلك الأسلحة في انتهاك المواثيق والاتفاقيات الدولية"، مشددة على تذكير ألمانيا باعتبارها دولةً طرفًا في الاتفاقيات الدولية أنها "ملزمة بالواجبات سالفة الذكر" فيما يتعلق بإمداداتها العسكرية لإسرائيل، وهو ما يسري بالطبع على الغالبية العظمى من دول العالم.
وأمام ما سطرته المحكمة بدأت ألمانيا تطلب ضمانات من إسرائيل لعدم استخدام الأسلحة في غزة، وبدأنا نرى شركات الملاحة الألمانية تحاول التعتيم على تحركات السفن المتوجهة إلى إسرائيل مع تعمد الابتعاد عن المواني الألمانية، كما حدث خلال أزمة السفينة كاثرين التي لاحقها المحامون بطلبات منع الرسو.
تحركات لا تحتمل الإرجاء
مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة وانسداد الأفق في المدى المنظور أمام أي محاولات لوقف العدوان، تدخل القضية الفلسطينية مرحلة صعبة ينبغي على الدول الحرّة أن تقودها بالتواصل الدبلوماسي والاستثمار السياسي والاقتصادي لتشكيل جبهة دولية واسعة لخنق إسرائيل، بفرض عقوبات عليها تجد سندها في قرارات القضاء الدولي والقانون الدولي الإنساني، وبتعميق عزلتها وتجريدها مما استطاعت تحقيقه من مكاسب خارجية على مدى تاريخها، طالما ظل الفيتو الأمريكي يحمي انتهاكاتها في المنظومة الأممية المهترئة.
وبينما تقف الصهيونية العالمية خلف نتنياهو لإعدام فرص قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة والتراجع عن كل ما تبقى من اتفاقيات أوسلو، يصبح تشكيل جبهة "الطرف الثالث" ضرورة حتمية لنجاة الشعب الفلسطيني وبقاء قضيته حيّة، وأيضًا ضرورة لاستقلال قرار دول الضمير الإنساني جنوبًا وشمالًا وتمكينها مستقبلًا من تحدي احتكار واشنطن.
ولا يمكن أن تكتسب هذه الجبهة نجاعتها المأمولة دون أن تأخذ مصر، والدول العربية الباقية على اهتمامها بالقضية، على عاتقها إعادة النظر في علاقاتها القائمة مع إسرائيل عمومًا، خصوصًا ما يرتبط بالمصالح الاقتصادية والمستوطنات والتسليح العسكري، ثم توسيع دوائر الاتصال بدول الجنوب لدعم مواقفها وتطويرها، والتنسيق مع الأصوات الأوروبية التي تضغط لاستغلال قرار محكمة العدل الدولية الأخير في مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل المبرمة عام 2000.
قد يرى البعض في السطور الماضية تحميلًا للدول الصغيرة بما لا تطيق وتفاؤلًا في غير محله، لكن التاريخ يقدم لنا نماذج ملهمة، كان أبرزها في سبعينيات القرن الماضي، عندما لم يكن أحد يتصور أن ينتهي نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ولا أن تستقل ناميبيا التي كانت تحتلها حكومة جنوب إفريقيا العنصرية منذ الحرب العالمية الأولى.
لكن محكمة العدل الدولية أصدرت عام 1971 رأيها الاستشاري بعدم مشروعية دعم احتلال جنوب إفريقيا لناميبيا (يشبه إلى حد كبير رأيها الأخير بشأن إسرائيل والأراضي الفلسطينية) فكان نقطة انطلاق كبرى لتعاون عشرات الدول ضد الإرادة الأنجلو-أمريكية آنذاك، ما أدى إلى استقلال ناميبيا عام 1990 ثم سقوط النظام العنصري ذاته. واليوم تقف كل من جنوب إفريقيا وناميبيا بكل قوتهما إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني.
هذه الحروب لم تعد تنتهي بالضربة القاضية، بل بأرصدة متراكمة من النقاط.. بالوعي والصبر. وجرائم الإبادة لا تنجح إلا بالتخاذل التام من الطرف الثالث. فعلينا أن نختار!