محكمة العدل الدولية - إكس
محكمة العدل الدولية تستمع إلى طلب جنوب إفريقيا إلزام إسرائيل بوقف نشاطها العسكري في رفح، 10 مايو 2024.

"كلمة مصر" التي غابت في محكمة العدل الدولية

لماذا تخلت مصر عن حقها في المرافعة أمام أكاذيب إسرائيل؟

منشور الاثنين 10 يونيو 2024 - آخر تحديث الثلاثاء 11 يونيو 2024

في حياة الشعوب والدول لحظات دقيقة ومفصلية، لا يتسامح التاريخ فيها مع الغياب أو التباطؤ.

فالمناسبات الكبرى التي تشبه العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة بقسوته وعنفه معدودة، وما يحدث منها لا يقبل العالم تكراره بسهولة، وندعو بكل جوارحنا ألَّا يتكرر.

وتزداد المناسبات ندرةً وتأثيرًا عندما يتعلق الأمر بساحات القضاء الدولي. نتغنى حتى الآن بانتصار مصر القانوني الدبلوماسي على إسرائيل في معركة طابا بالتحكيم الدولي، قبل نحو 40 عامًا. ودخلت نيكاراجوا تاريخ القانون الدولي بالحكم الذي انتزعته من محكمة العدل الدولية عام 1986 ضد الولايات المتحدة، وهي تتأهب لإعلان انتصارها نهائيًا على الكتلة الشرقية لتصبح القطب العالمي الأوحد.

وشكَّل الرأي الاستشاري للمحكمة نفسها في قضية الجدار الإسرائيلي العازل 2004 نقطة انطلاق لسلسلة من الإجراءات القانونية والقضائية في مختلف ساحات القضاء الدولي، تكتسب بها القضية الفلسطينية زخمًا متصاعدًا.

يُخطئ من يعتقد أنَّ ساحات القضاء الدولي أُعدت لتحقيق انتصارات حاسمة، بل هي محطات مهمة وحيوية ولها دلالة وآثار سياسية ودبلوماسية في المحافل الدولية والإقليمية. إنها مكاسب تراكمية، بجمع النقاط، تتطلب الصبر مع حسن التخطيط والأداء.

كما أنَّ تلك الساحات مسرح عالمي لا يُضاهى، تصبو إليه أنظار ملايين المتابعين من النخب والعامة، وتسعى إليه الدول، جاهدة، لإعلان مواقفها الإنسانية والأخلاقية، قبل السياسية. إنها "الكلمة".


فلماذا تغيب "كلمة مصر" عن الدعوى التي أقامتها الشقيقة جنوب إفريقيا، مشكورةً، أمام محكمة العدل الدولية لإدانة إسرائيل بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة؟

نسف المبررات القديمة

في 12 مايو/أيار الماضي، أعلنت وزارة الخارجية "اعتزام مصر" الانضمام إلى الدعوى رسميًا، فرحبت جنوب إفريقيا وفلسطين، وشعر المصريون بارتياح بعد شوق ومطالبات طال أمدها. حدث ذلك تزامنًا مع توسيع إسرائيل عمليتها في رفح، واحتلالها المعبر الفاصل بين الأراضي الفلسطينية والمصرية، وبدء عملياتها في محور صلاح الدين سعيًا للسيطرة الكاملة عليه، وهو ما تحقق نهاية الأسبوع الماضي.

كان إعلان الخارجية واضحًا في الفصل بين دور مصر التفاوضي كونها الدولة الحدودية الوحيدة مع غزة، وتدخلها في القضية ردًا على "تفاقم وحدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين"، وجاء لينسف الحجة التي ظلَّ بعض "المجتهدين" يرددونها لتبرير عدم تدخل مصر في القضية منذ أن رفعتها جنوب إفريقيا قبل أربعة أشهر، بأنَّ ذلك قد يفقد مصداقية القاهرة كوسيط ينخرط في مفاوضات تبادل الأسرى ووقف الحرب، أو يؤزّم العلاقات المتأزمة أصلًا مع إسرائيل فتتعنت في إدخال المساعدات.

وبعد أيام معدودة من الإعلان، نشرت مواقع إسرائيلية أنباءً عن مصادر مُجهَّلة تزعم "تراجع مصر عن التدخل"، سرعان ما نفاها مصدر مصري رفيع المستوى في 18 مايو، في تصريحات نشرتها جميع وسائل الإعلام، مؤكدًا نية مصر الانضمام إلى جنوب إفريقيا.

أي أننا أمام تصريحين رسميين يؤكدان على أهمية التدخل في الدعوى، بالتوازي مع المسار التفاوضي والإنساني، بهدف إدانة إسرائيل وإلزامها بتنفيذ التدابير المؤقتة التي تطالب بوقف الاعتداءات وجرائم الحرب، وضمان دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية على نحو كافٍ، يلبي احتياجات أهالي غزة.

من يرد الاتهامات الخبيثة؟

والحقيقة.. فإنَّ أي تحرك لنصرة الشعب الفلسطيني يكتسب أبعادًا أعمق عندما تشارك فيه مصر، خاصة في الظروف الحالية وأمام محكمة العدل الدولية. ليس فقط لأنها الأقدر على تفنيد الأكاذيب الإسرائيلية وتقديم الأدلة على سوء الأوضاع الإنسانية واستهداف المساعدات وقطع الطريق لمنع توصيلها لأهالي غزة، بل أيضًا لأن إسرائيل حاولت غير مرة تحميلها مسؤولية غلق معبر رفح ومنع دخول المساعدات.

لا نتحدث هنا عن ثرثرة إعلامية أو تصريحات سياسية للضغط الدبلوماسي، لكن عن مواقف اتخذت صفة رسمية قانونية، جرى التداول بشأنها بين قضاة المحكمة، وكانت مثار جدل بينهم قبل إصدار قرار التدابير المؤقتة الأخير، الذي ألزم إسرائيل بوقف العمليات العسكرية في رفح، وضمان فتح المعبر وإدخال المساعدات.

ادعت إسرائيل كذبًا أنها لم تغلق معبر رفح في محاولة واضحة للتنصل من مسؤولياتها وإلقائها على مصر

أقتبس في السطور القادمة عبارات من أوراق القضية، يجب أن يكون الدبلوماسيون والقانونيون الرسميون في مصر على اطلاع عليها، وأعتقد أنها ستسبب إزعاجًا لكل من يقرأها.

بادرت إسرائيل باستعداء مصر خلال مرافعة شفهية لأحد أعضاء فريق دفاعها في يناير/كانون الثاني الماضي، اتهم القاهرة بـ"احتجاز سكان غزة رهائن" وبأنها "ترفض التعاون". ونلاحظ أنَّ هذه العبارات سبقت نحو شهرين ترديد بنيامين نتنياهو ومصادر الشاباك نفس الادعاءات تقريبًا.

وفي المذكرتين المقدمتين للمحكمة في يناير ومارس/آذار الماضيين، زعمت إسرائيل أن "عدد شاحنات المساعدات الآتية من مصر في تزايد مستمر"، مستشهدة بأرقام ضئيلة لم تكف لخداع المحكمة التي أمرت بفرض تدابير مؤقتة مرتين لضمان إدخال المزيد من المساعدات.

كما ادعت أنها "تبذل قصارى جهدها في توفير المستشفيات الميدانية وحمايتها، وتوفير مسار لإجلاء المصابين، وتأمين المستشفى العائم في العريش لعلاج أهل غزة، وأن منسقيها لأعمال الحكومة في غزة يجتمعون بشكل يومي مع ممثلين لمصر والولايات المتحدة من أجل توفير الحلول اللوجيستية الكافية لضمان تدفق المساعدات وإعادة الإعمار".. يا لهم من ملائكة!!

وفي مرافعاتها الشهر الماضي، زعمت إسرائيل أنَّ عملية رفح "ضرورية" لتطهير المدينة من 700 نفق "منها 50 تعبر إلى مصر وتستخدمها حماس لتهريب الرهائن وكبار قادة الحركة إلى خارج غزة"، في اتهام خبيث وخطير نحو مصر.

كما زعمت إسرائيل كذبًا أنها لم تغلق معبر رفح، وإنما "اتخذت إجراءات فعالة في مناقشات مكثفة مع مصر لمحاولة استئناف تدفق المساعدات وتدبير مسارات بديلة"، في محاولة واضحة للتنصل من مسؤولياتها وتحميلها لمصر.

ساحة خالية لإسرائيل

أدت العبارة السابقة إلى نقاش مطول، وربما ساخن، بين أعضاء المحكمة حول قرار إلزام إسرائيل بإبقاء معبر رفح مفتوحًا.

فنرى نائبة رئيس المحكمة الأوغندية جوليا سيبوتيندي، والمعروفة بموقفها المؤيد لإسرائيل منذ بداية الدعوى، وهي ترفض تحميل إسرائيل مسؤولية غلق المعبر وإدخال المساعدات، وتدعو للتحقق من دور مصر "كلاعب أساسي آخر"، مستندة إلى ادعاء إسرائيل بأنَّ فتح المعبر "يتطلب تعاونًا مع مصر"، وتقرير في نيويورك تايمز يدعي أنَّ مصر هي التي تمنع مرور المساعدات من معبر كرم أبو سالم.

فريق الدفاع الإسرائيلي في الدعوى المرفوعة عليها من جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، لاهاي

كما ذهبت سيبوتيندي لأبعد من ذلك في التقرير الذي أودعته برأيها المنفصل عن أغلبية المحكمة، وطرحت إمكانية توجيه أمر فتح المعبر إلى مصر على قدم المساواة مع إسرائيل، معتبرة أنَّ أمر المحكمة الحالي "يفتقر إلى العملية/الواقعية" لأنه موجه إلى إسرائيل وحدها وليس إلى مصر.

أما ممثل إسرائيل السابق في هيئة المحكمة أهارون باراك، وهو قاضٍ دولي وأكاديمي بارز ذو رأي مسموع في الأوساط القانونية، فحاول في رأيه المنفصل، قبل أن يستقيل من تمثيل إسرائيل، زعزعة الموقف إزاء بلاده بإلقاء العبء على مصر، إذ كتب "لم نطلع على دليل ما إذا كانت إسرائيل أو مصر أو كلتاهما مسؤولية عن الإغلاق الحالي لمعبر رفح. المعبر لا يمكن أن يعمل إلا إذا وافقت مصر وإسرائيل معًا على ذلك".

ثم ينتقد باراك قرار الأغلبية مشككًا في موقف مصر ومحملًا إياها، ضمنيًا، مغبة غلق المعبر "لا أفهم كيف يمكن أن تُبقي إسرائيل المعبر مفتوحًا، وهي لا تتمتع بالسيطرة الحصرية عليه. لقد تجاهلت المحكمة سيطرة دولة أخرى ذات سيادة على النصف الآخر من المعبر".

من حسن الطالع، حتى الآن، أنَّ أغلبية أعضاء المحكمة صوّتوا رفقة رئيسها اللبناني نواف سلام لصالح تحميل إسرائيل مسؤولية غلق المعبر، وإلزامها بفتحه وإبقائه مفتوحًا لمرور المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية. ولكن ألسنا هنا أمام حالة ضرورة تتطلب تدخلًا مصريًا للرد، وتوضيح ما يحدث في المفاوضات والاتصالات التي أشار لها الإسرائيليون، وإبلاغ أعلى جهة قضائية دولية بحقيقة ما يحدث، بدلًا من إخلاء الساحة لأكاذيب الصهاينة؟!

فلا جنوب إفريقيا، ولا نيكاراجوا وكولومبيا وليبيا والمكسيك، وحتى فلسطين ذاتها، وهي بقية الدول التي انضمت إلى الدعوى، قادرة على الرد في تلك المسائل. إنها مصر فقط!

مهلة محدودة.. وفرصة مهدرة

في بياناتها المتتابعة تعليقًا على مجازر غزة، تتحدث وزارة الخارجية عن تحميل إسرائيل "المسؤولية القانونية". وأظن أن "المسؤولية القانونية" للسلطة التنفيذية، ممثلة في وزارة الخارجية، تحتّم عليها التدخل أمام محكمة العدل الدولية "لرعاية المصالح المصرية، واتخاذ الإجراءات لحمايتها، ومنع ترتب أي مشكلات لمصر" وهي الأهداف المنصوص عليها في قانون تنظيم وزارة الخارجية الصادر عام 1955.

المشكلة الآن أننا أهدرنا الكثير من الوقت حتى كاد ينفد، كما أننا أضعنا فرصة مضمونة لمرافعة شفهية مؤثرة أمام المحكمة. كيف؟!

في فبراير/شباط الماضي، أعلنت محكمة العدل الدولية إدخال تعديل على لائحة عملها بهدف تقليل عدد الدول المتدخلة بشكل استعراضي وسياسي في الدعاوى المنظورة أمامها، بعدما شهدت دعوى أوكرانيا ضد روسيا تدخل معظم الدول الأوروبية للإدلاء بمرافعات سياسية في المقام الأول أمام المحكمة لإدانة موسكو، وهو ما يؤدي إلى تعطيل عمل المحكمة ويستغرق وقتًا طويلًا.

دخل هذا التعديل حيز التنفيذ في بداية الشهر الجاري بأثر مباشر، وبناء عليه يحق لمصر، أو أي دولة، طلب التدخل فقط حتى موعد إيداع إسرائيل مذكرة دفاعها الأساسية، لكن لا يجوز بعده كما كان في السابق.

الأهم أن المرافعة الشفهية لم تعد من الحقوق المترتبة على التدخل مباشرة، بل يمكن للمحكمة أن تأمر بالاكتفاء بالمذكرات المكتوبة فقط. وبالتالي لم يعد مضمونًا أن تحظى أي دولة متدخلة بالمرافعة الشفهية منذ تطبيق التعديل.

ولذلك؛ كانت المكسيك وفلسطين حريصتين على إيداع أوراق تدخلهما في الدعوى في الساعات الأخيرة من الشهر الماضي، لضمان حقهما في المرافعة الشفهية، قبل أن تسري عليهما اللائحة المعدلة.

صدمة سخيفة.. أليس كذلك؟!

من حقنا أن نسأل: لماذا تصرفت مصر على هذا النحو؟ بالتأكيد لدينا خبرات وكوادر تعلم بأمر تعديل لائحة المحكمة، وتعي أهمية المرافعات الشفهية في القضاء الدولي، لا سيما بعدما رأينا الأداء الباهر لفريق دفاع جنوب إفريقيا، وأيضًا المباراة القانونية الدقيقة في قضية اتهام نيكاراجوا لألمانيا بمساعدة إسرائيل في الإبادة الجماعية.

وبالنظر لما قدمته مصر الكبيرة للقضية الفلسطينية على مدار تاريخها، ودورها الذي تقدّره جميع الفصائل وتشيد به المقاومة حتى في أحلك الظروف، فلا يزال المصريون، مع أشقائهم الفلسطينيين، يتوقعون من القاهرة حراكًا أكثر فاعلية ومبادرات أكثر جسارة، وينتظرون من مصر كلمتها.

وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.