لم يكن أمام ثناء جمعة من سبيل للحياة، سوى بالخروج من سوريا، لتنجو بنفسها وأطفالها من نيران الحرب التي طالت أمانها الجسدي والنفسي، تاركةً آثارًا لا تمحى.
وصلت ثناء التي تبلغ من العمر 43 عامًا إلى مصر قبل 10 سنوات، باحثة عن ملجأ يساعدها على استعادة صحتها النفسية. وقبل أن تخرج من سوريا تم تشخيصها من قبل مقدمي خدمات الصحة النفسية التابعة لمنظمة دولية، باضطراب ما بعد الصدمة نتيجة معايشتها لأيام الحرب، المرض الذي تحمله الصراعات معها أينما حلت.
يُعرف اضطراب ما بعد الصدمة، بالحالة المرضية الناتجة عن التعرض لحدث مزعج شديد مثل الحروب، والانتهاكات الجنسية، والكوارث الطبيعية وغيرها من الأحداث الصادمة المقلقة.
"بين يوم وليلة انقلبت حياتي فوق تحت"، تقول ثناء لـ المنصة، مع اشتعال الحرب والصراعات في سوريا؛ "تكلفنا إيجار وطيران حتى أنزح إلى مصر لنعيش أنا وأطفالي حياة مستقرة آمنة، لنستعيد صحتنا النفسية والعصبية".
ندوب لا تُشفى
تزيد نسبة إصابة النازحين من الحروب باضطراب ما بعد الصدمة، إذا ما كان لديهم استعدادًا للمرض، حسب ما يقوله لـ المنصة دكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، والذي شارك في تقديم الخدمات النفسية في معسكرات النازحين في السودان وأفغانستان والعراق.
بالإضافة إلى فلسطين، والتي يشهد قطاع غزة حاليًا حربًا يشنها جيش الإحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وهي ليست الأولى، التي يشهدها القطاع.
من غزة تقول الطالبة الجامعية ولاء محمد لـ المنصة "اللي بيكشف واللي ما بيكشف عنده مرض نفسي أكيد"، وهو يشبه إلى حدٍ كبير ما توصلت إليه دراسة علمية حديثة أعدها باحثو المعهد النفسي بجامعة مونستر في ألمانيا، تناولت العبء العالمي لاضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب الشديد في البلدان المتضررة.
وتقدر الدراسة الهادفة لرصد الانتشار العالمي لهذا المرض بين الناجين البالغين من الحروب الأخيرة بين عامي 1989-2019، وجود 316 مليون ناجٍ بالغ على مستوى العالم، عانوا اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب الشديد في عام 2019، وأن غالبية الناجين من الحرب يعيشون في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
في غزة العلاج النفسي رفاهية لا يقدر عليها الأهالي
وخلص باحثو دراسة جامعة مونستر بألمانيا إلى أن البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل تفتقر إلى التمويل الكافي والمهنيين المؤهلين لتقديم علاجات نفسية لمثل هذه الأعداد الكبيرة من الأشخاص المتضررين، تقول ولاء "كلنا نفسيتنا تحت الصفر، لكن العلاج النفسي يُعتبر رفاهية، كل غزة معهم اكتئاب وصدمات نفسية حادة تقريبًا".
أصيبت ثناء بالاضطراب نتيجة ما تعرضت له من فقد، تقول لـ المنصة "ندفع ثمن صدمات نفسية بسبب حرب ما إلنا يد فيها، فقدت أكثر من نصف عائلتي إثر الحرب، والنصف الآخر يعاني الشتات والأمراض العصبية. فقدت أخي، وابن عمي، وبنت خالتي، وزوج أختي الصغرى، وزوج أختي الأصغر، وزوج خالتي و،و،و..".
فيما تحكي ولاء عن عمتها "كانت تعالج نفسيًا، بسبب إصابتها باضطرابات عصبية حادة جراء القصف المستمر في إحدى العيادات النفسية في غزة".
لا توجد في غزة مستشفيات كافية للعلاج، ولا توجد مستشفى متخصص للعلاج النفسي، لذا " كانت عمتي بتتابع مع عيادة توصف لها دوا تمشي عليه".
المقاومة بالدعم
في السودان استهدفت الحرب المستشفى الأقدم للأمراض العصبية والنفسية؛ التجاني الماحي؛ بعد يومين من نشوبها "توقف العمل فيه بسبب عدم وجود الطاقة، أي لا يوجد ماء ولا كهرباء بالمستشفى، وبالتالي فإن متابعة الأطباء للحالات توقفت" حسب ما قاله لـ المنصة أحمد مصطفى، طبيب نفسي كان يعمل بالمستشفى قبل دماره.
دمرت الحرب، التي تخلف ورائها واحد من كل خمسة أشخاص يعانون من آثارها النفسية كما يكشف تقرير الأمم المتحدة الصادر في حزيران/يونيو 2019، المستشفى الذي نهبته واحتلته الميليشيات بعد توقفه عن العمل، يقول لنا عماد عبر رسائل واتساب "الحرب أصابت عدد ليس بقليل من المواطنين بالاضطرابات والأزمات النفسية، ما وقفت شغلي في الحي اللي عايش فيه، بحاول أعمل جلسات دعم نفسي للحالات التي أُصيبت بمتلازمة اضطراب ما بعد الصدمة".
لم تفاقم الحرب من أعداد المرضى النفسيين فحسب، بل زادت من شدة معاناتهم وحدة الأمراض"في السابق كنت بعالج حالات مرضى الاكتئاب والقلق وغيرها من الأمراض النفسية الشائعة، الحين بعالج الندوب والآثار اللي سابتها الحرب والفوضى على نفسية الجميع" يقول مصطفى.
عنف جنسي أو جسدي، حروب أعراق وحروب موارد؛ جميعها ألوان مختلفة للعنف الذي يولد الصدمات
لم يترك مصطفى السودان مؤمنًا بدوره في المقاومة، يحاول جاهدًا تقديم الدعم النفسي، كونه طبيبًا نفسيًا، لجميع مرضى الصدمات النفسية بكل الطرق الآمنة والمتاحة، ويقول "إن الحالات القريبة تأتي لجلسات علاج فردية وجماعية، أما الأخرى فيكون العلاج عبر التواصل أونلاين"، فيما يفتقد العلاج الدوائي الذي لم يعد متاحًا.
ورغم أنه ذاته يعاني آثار الحرب غير أنه لازال يقوم بدوره، الذي يراه واجبًا يقول "عليَ القيام بواجبي في ظل هذه الظروف حتى لو كنت أعاني أنا الآخر".
ويضيف مصطفى "لم ولن أترك الخرطوم، يعني ممكن تقولي السودان جزء مني، والهرب لا يمنع القدر وهناك أناس يحتاجون المساعدة".
إدارة المشاعر
تعمل عدد من المنظمات الدولية والمحلية من أجل تقديم الدعم النفسي والإغاثة في مناطق الحروب. يقول مؤمن يوسف، أحد مقدمي الدعم النفسي بإحدى المنظمات الدولية، إن الصراعات والحروب هي السبب الرئيسي للعديد من الاضطرابات النفسية.
بما تحمله من عنف جسدي ونفسي، وربما يصل لجنسي بما يولد الصدمات النفسية والعصبية، هذا ما أكده يوسف في حديثه مع المنصة، ودور المنظمة يتمثل في التشخيص لمثل هذه الحالات، وتحديد نوع العلاج والاحتياجات النفسية للحالة مثل جلسات العلاج النفسي للتعافي من الصدمة.
تشخيص الاحتياجات النفسية يمر بمراحل عديدة، يختص يوسف بالمرحلة التنفيذية منها؛ وهي المعنية بالتعامل المباشر مع الحالات من سن 13 إلى 18 سنة لتقديم أنشطة الدعم النفسي.
تعاود الأعراض الظهور مرة أخرى، في حال التعرض لمثير
"برامج العلاج النفسي تختلف حسب كل حالة، ولكن بشكل عام البرنامج بيحتوي على مجموعة من المهارات لتجاوز الاضطرابات والصدمات، كما أن تلك الجلسات تركز على الوعي الذاتي لدى الحالة، وكيفية إدارة الذات وإدارة المشاعر، ومدى التعامل مع الهجمات النفسية الحادة وعملية التكيف داخل المجتمع" يقول يوسف.
ورغم توفر العلاج في مناطق النزاع، غير أنه لا يمكنك أن تُشفى في نفس البيئة التي جعلتك مريضًا، وهي نفسها النصيحة التي تلقتها ثناء، توضح "شروط العلاج التي نصحني بها أحد الأطباء في سوريا، هي العيش في مكان آمن، لذا قررت النزوح إلى مصر أنا وأطفالي بحثًا عن مكان آمن نتعافى فيه، ومتابعة العلاج مع طبيب متخصص".
تتمثل أهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في اضطراب النوم والطعام، وزيادة ضربات القلب، وقد يصل الأمر في الحالات المتأخرة إلى التبول اللا إرادي.
ظهر ذلك بوضوح على الأطفال، يقول فضل أبو هين، طبيب نفسي في غزة إن "الأطفال بدأت تظهر عليهم علامات خطيرة من أعراض الصدمة، مثل التشنجات والتبول اللا إرادي والخوف والسلوك العدواني والعصبية وعدم الرغبة في الابتعاد عن والديهم" حسب ما نشرته صحيفة الجادريان البريطانية.
لا تنتهي الأعراض بمرور الوقت، قد تختفي لفترة ثم تعاود الظهور مرة أخرى، في حال التعرض لمثير، لتعيد الكرة. ترى ثناء أن ذلك الأشد ألمًا في معاناتها مع هذا الاضطراب تقول "لو جلست في مكان دوشة، أو حصلت قدامي حداثة، بدخل في حالة إنهيار وتشنج عصبي"، ليفتح ذلك الباب على مصرعيه للصور التي خزنها عقلها من فترة الحرب.
تجاوز الصدمة
يحاول مطهر الريدة، والذي يعمل أستاذًا للعلاقات العامة بكلية الإعلام في جامعة الأزهر، تجاوز التروما عن طريق الاستمرار في عمله، ورغم تجاوزه الثالثة والأربعين غير أنه نجح في أن يلتحق بالتدريس الجامعي، ليبدأ من جديد.
يقول الريدة في حديثه مع المنصة "قبل الحرب كنت مدير إدارة التخطيط البرامجي لإذاعة حياة FM، اقتحم الحوثيون مقر الإذاعة في 2014 وصادروا كل أجهزة الإذاعة ومعداتها".
عايش الريدة بشكل حقيقي موقفًا عصيبًا ظل عالقًا في ذاكرته إذ تلقى تهديدات بالاعتقال أو التصفية الجسدية. "لم يكن هناك إلا صوت واحد فقط هو الرصاص، الصورايخ، الطيران، القصف، وكنا نسمع أزيز الصواريخ ونتوقع أن تنفجر فوق رؤوسنا سواء بالليل أو بالنهار" يصف الريدة فترة الحرب.
يرى الريدة أن قرار نزوحه إلى مصر انتصارًا شخصيًا على الحرب وعلى الاضطراب، "بدأت من الصفر وأنا عندي 43 سنة". وبرغم شعوره بالإحباط النفسي في أوقات كثيرة فضلًا عن ضبابية الرؤية، غير أنه قادر على الإستمرار.
وهو ما لم يحدث مع عمة ولاء، التي استمرت سنوات تعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، غير أن نيران الاحتلال في 2018، قضت على ما بقي لديها من مقاومة، تحكي ولاء "في واحدة من ليالي القصف العنيف، أخذت عمتي كمية كبيرة من الأدوية المضادة للاكتئاب، ماعداش عليها ساعات، وقابلت وجه كريم".
أما ثناء، التي لازالت تعاني مع آثار الإضطراب، تحفزها أخبار غزة تحت القصف، تنتظر دورها في الحصول على حق اللجوء، إذ أنها تقيم في مصر بإقامة سياحية تجددها كل 6 أشهر، لتوفر لها المنظمة دعمًا نفسيًا يعينها على تجاوز مرضها، "لم أتمكن من الحصول على علاج، ما لدي يكفي المعيشة فقط".