جويل إلكيس، ولد في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1913، ومات في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول 2015، وغيّر وجه الطب النفسي للأبد.
يستحيل الحديث عن الصورة الحالية التي يتخذها تخصص الطب النفسي، حتى بكل ما يزال يحيط به من شكوك وريبة، دون الالتفات أولًا إلى هذا الرجل، الذي بدأ حياته مهتمًا بكيمياء الدماغ، ثم تخصص طبيبًا في أحد مستشفيات لندن، ليصبح بعدها أول باحث على الإطلاق يُجري تجربة علمية مُحكمة على عقار الكلوربرومازين. وهو بدوره أول دواء على الإطلاق يُستعمل لعلاج الأمراض النفسية.
كانت طريقة التعامل الأولى مع المرضى النفسيين وقتها هي العزل، لم يكن اسمهم "مرضى نفسيين" وقتها طبعًا، بل مجرد مجانين فقط، وبأشكال مختلفة دُفع هؤلاء الأشخاص إلى الهوامش، وأُبعدوا عن المساحات الاجتماعية.
قبل خمسينيات القرن الماضي، لم تكن فكرة علاج الأمراض النفسية بالدواء مطروحة من الأصل. هذا زمن المصحات؛ يُودَع المريض إحداها، ويُترك هناك ليتحسن، أو ليبقى إلى الأبد. امتلأت المصحات عن آخرها بمرضى الاكتئاب المزمن، وبحالات الفصام المستعصية على العلاج، وبدا أن ذلك سيستمر إلى الأبد.
في أواخر الأربعينيات، كان جرّاح الأعصاب هنري لابوريت يبحث عن دواء لتخدير مرضاه قبل العمليات الجراحية التي يجريها لهم. وجَّه لابوريت بحثه في البداية إلى مضادات الهستامين. الفكرة أتت من ملاحظة بسيطة؛ أجسام المرضى تطلق على ما يبدو الكثير من الهستامين قبل العمليات الجراحية، بسبب خوفها مما ينتظرها تحت مشرط الطبيب. لا بد إذن أن تلعب مضادات الهستامين دورًا في تهدئتهم.
تواصل لابوريت مع عدد من شركات الأدوية، طالبًا منهم تزويده بأحد مضادات الهستامين القوية. أرسلوا له دواءً اسمه الكلوربرومازين. وجد فيه لابوريت كل ما يبحث عنه. يتعاطى المرضى الدواء فيهدأون ببساطة، يدخلون في حالة من الصفاء اللطيف، لدرجة تسمح له بإجراء عملياته بدرجة معقولة من التمكّن. أُعجب الرجل بهذا الدواء لدرجة جعلته يوصي به زملاءه وأصدقاءه من التخصصات المختلفة. ومنهم الأطباء الذين يعملون في تخصص الطب النفسي.
نشأت المصحة لغرض، وانتهى الغرض الآن
أثبت الدواء درجة من الفاعلية، خاصة مع حالات الفصام الحادة غير المزمنة، أي التي لم يمضِ على ظهور أعراضها وقت طويل من الزمن. وفي مستشفى وينسون جرين ببرمنجهام، قرر جويل إلكيس، الذي كان يعمل وقتها أستاذًا في الطب النفسي التجريبي، أن يقوم بعمله ويُجرّب هذا الدواء على الحالات التي لا يُرجى شفاؤها في المصحات.
الفضل لـ"المحروقين"
وقتها أُطلق عليهم اسم "المحروقون". وعادةً ما كانوا يُتركون. وتعبير الترك هنا مقصود. أضف إليه تعبيرًا آخر؛ مهمَلون. تمتلئ الأدبيات الطبية التي كتبت عن المصحات في تلك الفترة بالعديد من الأوصاف الشنيعة. مرضى نساهم العالم، لأنه لم يملك أي أداة تساعدهم. خاصة مع تشكيك حتى أكثر المختصين إنسانية في وجود إنسان حقيقي داخل هذا الجسم المعطوب. معيشة وسط القيء والبراز. بشر لم يعد أحد يراهم كذلك.
من بين الحالات التي يحكي عنها جويل إلكيس شخص يبلغ من العمر 32 عامًا، دخل إلى المستشفى قبل ست سنوات، وبقي فيها دون أي تحسن. نوبات غضب عنيفة تنتهي بتدمير الأثاث. يستحيل أن ينام دون حقنه بجرعة محترمة من المهدئات. شعور دائم بالذعر من كائنات تترصد له، أشباح تخاطبه، أشباح تهينه، أشباح تدعوه إلى الموت، أشباح في كل مكان.
جرّب إليكس جرعات مختلفة من الكلوربرومازين مع هذه الحالة، ولاحظ تحسنّا بعد فترة من الانتظام عليه. أصبح بالإمكان الحديث مع المريض. أصبح قادرًا على حضور عدد من الجلسات دون أن يفقد السيطرة على نفسه، لم تعد نوبات الغضب العنيفة تلك تداهمه بين حين وآخر. أثبت الكلوربرومازين نجاحه، خاصة حين جرّب إليكس إيقافه، واستخدام دواء وهمي بدلًا منه، فانتكست الحالة على الفور.
بشكل عام تحسنت حالات المرضى بصورة ملحوظة، وبدا أن بإمكاننا استعادتهم من نوبات المرض العنيفة تلك، ولو لفترات تطول أو تقصر. وفي الخمسينيات، أصبح الكلوربرومازين أحد أهم خطوط العلاج النفسي الدوائي في عنابر المرض.
كان التأثير المباشر الأول فيما يتعلق بهذا الدواء، حسب وصف كثير من أطباء تلك الفترة، أن حالة العنابر نفسها أصبحت أكثر إنسانية. فقد أمكن للأطباء وطواقم الرعاية في المستشفيات أن يعرفوا مرضاهم، الذين حيّد الدواء مرضهم بعض الشيء، وأن يتواصلوا معهم باعتبارهم مرضى لا مجانين. عندها، تحوَّل هدف العلاج إلى التفاعل مع المريض، لا السيطرة عليه وتهدئته تحت العقاقير المخدرة.
مع حلول أواخر الخمسينيات، بدأ استخدام هذا الدواء على نطاق واسع في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وفي خلال عقد ونصف، أصبح بإمكان الكثير من المرضى، حتى المصابين منهم بأمراض مزمنة، أن يخرجوا إلى العالم. وبالتدريج انتهت الحاجة الماسة إلى المصحات، واحدة من أهم المراحل في تاريخ تعاملنا مع الأمراض النفسية، وربما أقساها كذلك.
نشأت المصحة لغرض، وانتهى الغرض الآن.
أصبح بإمكان المرضى المهمَلين، الذين لا يُرجى شفاؤهم، أن يخرجوا إلى العالم من جديد، ويمارسوا وظائفهم التي كانوا يمارسونها قبل الدخول إلى هذا المكان، أو على الأقل، يصبح التعامل معهم ممكنًا، والعبء الذي يمثلونه على أهلهم أقل وطأة.
في الولايات المتحدة مثلًا، قلّت أعداد المرضى المقيمين في المصحات النفسية بمئات الآلاف، وأصبح بالإمكان توفير خدمات الرعاية الصحية خارج المصحة. انتهى دور المصحة.
كانت هناك مشكلة بسيطة. لا أحد يعرف بالضبط كيف يعمل هذا الدواء، بل وكيف ينشأ المرض أصلًا. لم يمنعنا ذلك من استخدامه بالطبع، فأمامنا النتائج قائمة. لكن الحالة بأكملها تخبرنا كيف أصبحت أمامنا العديد من الخيارات والمساحات العلاجية، دون أن نعرف شيئًا عن هذا ولا ذاك.
لماذا يستطيع مُركَّب يناهض تأثير الهستامين في أنسجة الجسم أن يؤثر بهذه الطريقة على المخ، متداخلًا مع عمل الدوبامين؟ لا أحد يعرف ما هو الفصام بالضبط، ولماذا يحدث من الأساس؟ لا توجد إجابة.
نهاية ثلوج الشتاء
بنهاية الخمسينيات، دخلت ست أدوية نفسية جديدة إلى الخدمة، وبقيت حتى الآن مستخدمة. لكن من المهم هنا أن نلاحظ أمرًا مهمًا، وهو أن اكتشاف هذه الأدوية لم يكن نتيجةً لبحث علمي منضبط يستكشف الاحتمالات أو يبحث عنها، ولم يكن حتى يدرس المخ أو طبيعة الكيمياء التي تنظم عمله، بل كان الحال معكوسًا بالكامل.
تغيير بهذا الحجم أعاد تشكيل الطريقة التي نتعامل بها مع الطب النفسي
وُجدت هذه الأدوية أولًا، ثم اكتشفنا تأثيرها الإيجابي على الموصلات الكيميائية في الدماغ، ما سمح لنا باستخدامها لتخفيف الأعراض التي يعاني منها المرضى، وأصبحنا بالتالي قادرين على تخفيف وطأة أمراض لم نكن نجرؤ على الاقتراب منها فيما سبق.
أما عمّا نعرفه حاليًا، فهو أن الكلوربرومازين، تلك المادة الساحرة التي فتحت أبوابًا لم نكن نتخيلها، تثبط عمل الدوبامين، وهو واحد من أهم النواقل العصبية في الدماغ، وبالتالي يصبح من المنطقي كذلك التفكير أن أدمغة المصابين بالفصام لا بد وأنها تعاني من فرط في كميات الدوبامين. فكرة منطقية. نعرف الآن أنها غير صحيحة على الإطلاق. أدمغة المصابين بالفصام لا تعاني أي اضطراب في نسب الدوبامين بداخلها، وبذلك نعود إلى نقطة الصفر.
يقول المؤرخ إدوارد شورتر، في كتابه تاريخ للطب النفسي: من عصر المصحة إلى عصر البروزاك:
لو أن هناك حقيقة أساسية واحدة في نهاية هذا القرن، فهي أن التوجه البيولوجي لعلاج الأمراض العقلية، بوصفها اضطرابات تتأثر بالجينات وتطرأ على كيمياء المخ، قد أثبت نجاحًا ساحقًا. أما عن أفكار فرويد السابقة، التي سيطرت على الطب النفسي في النصف الأول من القرن الماضي، فهي تختفي الآن مثل آخر ثلوج الشتاء.
لا يقتصر الأمر على أن الدواء أتى بنتائج إيجابية، فالحقيقة أن تغييرًا بهذا الحجم أدى إلى إعادة تشكيل الطريقة التي نتعامل بها مع الطب النفسي، ومع مرضاه، الذين بدأوا يجنون ثمار ذلك على الفور. فبتبنى الفكرة التي تقول إن الأسباب الجينية تلعب دورًا في ظهور هذه الأمراض، وأن كيمياء المخ نفسه تتغيّر، أصبحت المسألة الآن بعيدة عن عطب غامض يصيب هولاء الأشخاص.
هذه هي اللحظة الأولى التي أمكننا فيها أن نرى الوصم وهو يتراجع. فالدواء هنا أثبت للجميع أن الذنب لا يرتبط بالمريض نفسه، بل بعطب بيولوجي ماديٍّ في تكوينه. والأمران يختلفان بالكامل.