"التغير المناخي هو الأزمة الأكثر وجودية التي عرفتها حضارتنا على الإطلاق" هكذا قال ليوناردو دي كابريو الممثل الأمريكي والناشط البيئي في خطاب له على منبر الأمم المتحدة.
أصبح التغير المناخي والاحتباس الحراري من أخطر التهديدات التي تواجه الكوكب الأزرق، ما دفع إلى تضافر جهود الحكومات والمؤسسات المعنية، للحد من انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة "الغازات التي تسبب ارتفاع درجات الحرارة مثل أكاسيد الكربون وأكاسيد النيتريت وغاز الميثان"، عبر ابتكار حلول تعتمد على تكنولوجيا الطاقة النظيفة.
بالتوازي مع ذلك، أصبح يُنظر الآن إلى نهج التدخل المناخي أو الهندسة المناخية باعتبارها خيارات محتملة للحد من آثار تغيرات المناخ، رغم ما تثيره هندسة المناخ من مخاوف، إما لعدم القدرة على التحكم بنتائجها، ما قد يؤدي إلى حدوث تطرف مناخي آخر، أو أن تُستغل التقنية الجديدة في فرض السيطرة اقتصاديًا وسياسيًا.
وبحسب تقرير للأمم المتحدة فالأرض الآن أكثر دفئًا بنحو 1.1 درجة مئوية، مما كانت عليه في القرن التاسع عشر. والعالم ليس على المسار الصحيح لتحقيق هدف اتفاقية باريس بعدم تجاوز ارتفاع درجة حرارة الكوكب 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، وهو الحد الذي يعتبر الأعلى لتجنب أسوأ التداعيات المحتملة لتغير المناخ.
وبالطبع سيؤدي ذلك إلى ذوبان الجليد في القطبين، وبالتالي ارتفاع منسوب مياه المحيط، والتهديد بانقراض الحيوانات القطبية.. وهلمّ جرا.
والهندسة المناخية المُشار إليها عادة بـ"الهندسة الجيولوجية"، كما عرّفتها الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية، هي التدخل المتعمد واسع النطاق في نظام المناخ على الأرض. وتهدف، في الغالب، إلى تخفيف الآثار الضارة الناجمة عن الاحتباس الحراري.
إدارة الإشعاعات الشمسية
تعد إدارة الإشعاعات الشمسية من أبرز فروع الهندسة المناخية، وتهدف إلى عكس ضوء الشمس لتقليل الاحتباس الحراري. وتتضمن الوسائل المقترحة لتنفيذ هذه المهمة زيادة وضاءة الكوكب، أي نسبة البياض، لعكس ضوء الشمس، عبر استخدام مرذذات كبريتات الستراتوسفير مثلًا، لتعويض تآكل نسبة العاكسات الطبيعية مثل الجليد البحري، والثلوج، والأنهار الجليدية.
وفي مقال بعنوان "أخلاقيات هندسة المناخ عند ستيفن جاردنر"، نُشر في مجلة كلية الآداب جامعة قنا العدد 54 (الجزء الأول)، عرف جاردنر الهندسة المناخية بـ "عملية حقن رذاذ الكبريتات وضخه في طبقة الستراتوسفير، لصرف الإشعاع الشمسي، وتحويل الحرارة الشمسية الواردة للفضاء".
وبدأت الفكرة في عام 1974، حيث اقترح العالم الروسي ميخائيل بوديكو، أنه في حال أصبحت ظاهرة الاحتباس الحراري مشكلة عويصة، يمكننا إعادة تبريد الكوكب من خلال حرق الكبريت في طبقة الستراتوسفير، (وهي إحدى طبقات الجو العليا، وتمتد من ارتفاع 18 إلى 50 كيلومترًا فوق سطح البحر)، ما سيكوّن ضبابًا يمكنه حجب الإشعاعات الشمسية بشكل كبير، وقُدرت التكلفة السنوية لإيصال كمية مناسبة من الكبريت إلى الستراتوسفير، لمواجهة ظاهرة الاحتباس بنحو 18 مليار دولار أمريكي، حسب بحث عن إدارة الإشعاعات الشمسية نشره موقع IOPscience.
وحددت الأكاديمية الوطنية للعلوم عددًا من الفوائد والمخاطر المحتملة لعملية إدارة الإشعاعات الشمسية، وأوضحت النماذج الحاسوبية أن توزيع المخاطر والفوائد لن يكون مثاليًا على كل مناطق الكرة الأرضية، بمعنى أنه لا يمكن التحكم بالحدود الجغرافية لتأثير هذه التقنية.
التقاط الهواء
تقنية أخرى أطلقتها شركة كليمووركس التي تأسست في زيورخ في مايو/أيار 2017، وهي عبارة عن مراوح، تقول الشركة إنها تمثل أول "مصنع تجاري ملتقط لثاني أكسيد الكربون" في العالم، على الرغم من أن الفكرة نفسها ليست جديدة. حيث تطبق أيضًا هذه الاستراتيجية، التي تُعرف باسم الالتقاط المباشر للهواء، في شركات في كندا والولايات المتحدة وهولندا. بيد أن شركة كليمووركس تقول إن 18 من جامعي CO2 لديها، أزالوا بالفعل 900 طن من ثاني أكسيد الكربون في مصنعها الأول بسويسرا.
قد يبدو هذا متطرفًا، ولكن التقاط الهواء المباشر، هو واحد من أكثر الطرق أمانًا للهندسة الجيولوجية، كونه بلا آثار جانبية حادة نسبيًا. ورغم ذلك، يحذر العديد من العلماء من أنه لا يمكن لهذه الآلية أن تواكب المعدلات الحالية لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
يعتقد خبراء تخزين الكربون أن هذه التقنيات يمكن أن تصبح سلاحًا رئيسيًا في مكافحة الاحتباس الحراري
وفي الصدد نفسه، افتتحت أيسلندا أكبر مصنع في العالم لامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وتحويله إلى صخور بقدرة تنقية تبلغ 4 آلاف طن من الانبعاثات الملوثة في العام الواحد.
وحتى يتمكن من جمع ثاني أكسيد الكربون، يستخدم المصنع الذي أطلق عليه اسم ORCA، أي "الطاقة" باللغة الأيسلندية، مراوح لسحب الهواء إلى مجمّع يحتوي على مادة قادرة على الترشيح، ثم يتم إغلاق المجمع، وترتفع درجة الحرارة لإطلاق ثاني أكسيد الكربون من المرشح، وبعد ذلك يمكن تجميع الغاز في صورة شديدة التركيز. والخطوة النهائية تكون بخلط ثاني أكسيد الكربون مع الماء قبل حقنه على عمق 1000 متر في صخور البازلت القريبة، حيث يتم تحجره.
ويعتقد خبراء تخزين الكربون أن هذه التقنيات يمكن أن تصبح سلاحًا رئيسيًا في مكافحة الاحتباس الحراري، لكنهم يقولون إن تكلفتها لا تزال باهظة، وأن استغلالها على نطاق واسع قد يستغرق عقودًا.
تسميد المحيط
كذلك تتمثل إحدى أفكار الهندسة المناخية أيضًا في تسميد المحيط بالحديد، في محاولة لتنشيط الطحالب التي تمتص ثاني أكسيد الكربون من البحر ومن الجو أيضًا. واكتشف الخبراء هذه الطريقة للمرة الأولى في التسعينيات من القرن العشرين. وحاضرًا، يشجع الخبراء الآن، وبينهم ديفيد كينج، الذي شغل سابقًا منصب كبير المستشارين العلميين للحكومة في المملكة المتحدة، على إعادة النظر بجدية فيها.
ومع ذلك، يعتقد علماء آخرون أن لتلك الخطة الطموحة عيوبًا خطيرة. إذ اشتغل البروفسور أندرو واتسون الذي يعمل في جامعة إكستر، على الدراسات الأصلية التي تناولت تخصيب المحيط بالحديد في التسعينيات.
وأخبر واتسون صحيفة الإندبندنت أنه يعتقد بأن "مخاطر سلبية غير معروفة بشكل واضح لا تزال موجودة" بشأن تسميد المحيط، صحيح أنه من الممكن إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي عن طريق التسميد بالحديد في بعض مناطق المحيط، مثل منطقة المحيط الجنوبي. في المقابل، فإن "تطبيق ذلك الإجراء على نطاق واسع بهدف إبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري، سيستتبع تغييرًا إيكولوجيًا في مناطق كبيرة في المحيطات"، بحسب تعبيره.
يعتقد البروفسور واتسون أن أحد الجوانب السلبية المحتملة لتسميد المحيط بالحديد هو خفض نسبة الأكسجين في المياه الموجودة تحت سطح المحيط مباشرة، ما قد يؤدي إلى إنتاج أنواع أخرى من الغازات الدفيئة.
ووفق كلماته، "ثمة حاجة إلى مزيد من البحوث، قبل السعي إلى محاولة التسميد بالحديد على نطاق المحيط... لا مجال لأن يكون التسميد بالحديد بديلًا عن خط العمل الأول في مكافحة تغير المناخ، المتمثّل في خفض الانبعاثات التي نتسبب بها".
هل تكون هندسة المناخ حصان طروادة؟
رغم أن معظم أبحاث الهندسة المناخية تتألف من النمذجة الحاسوبية، أو الفحوصات المختبرية، فإنه لا تزال هناك تخوفات كثيرة تجاه هندسة المناخ، من بينها تهديدها لإيكولوجيا الحياة البحرية كما في تسميد المحيط بالحديد، أو عدم التحكم في مداها الجغرافي كما في بحوث إدارة الإشعاعات الشمسية، ما يجعلها أشبه بحصان طروادة الذي يحمل بداخله تهديدًا لكوكب الأرض.
التخوف الأكبر من هندسة المناخ هو أن تصبح نقاط ضغط سياسية، كحال مصادر الطاقة النووية أو النفط
وعلى الرغم من وجود تخوفات جدية تجاه هندسة المناخ، فإنها تجد مَن يمولها من أصحاب رؤوس الأموال، ففي حوار نُشر على موقع wired.com مع بيل جيتس مؤسس مايكروسوفت، قال "إنه أمر شائك لأننا لسنا حاذقين جدًا في نمذجة الطقس، وسيكون الأمر قرارًا سياسيًا كبيرًا، ولن يكون قرارًا أتخذه أنا. إذا كنا مسؤولين وحققنا تقدمًا بشأن تغير المناخ كما ينبغي فلن يغرينا شيء أبدًا إلى استخدام هندسة المناخ". ويضيف "أنفقت ملايين قليلة في هندسة المناخ وإجمالي المبلغ 2 مليار دولار".
ويعترف جيتس بضعف القدرة العلمية في مجال هندسة المناخ، وأن أي مشاريع في هـذا المجال ستكون بقرار من المسؤولين وليس أصحاب رأس المال، وإن كان مول بنفسه بعضًا من أبحاث هندسة المناخ.
إن التخوف الأكبر من هندسة المناخ هو أن تصبح نقاط ضغط سياسية، كحال مصادر الطاقة النووية أو النفط؛ فيتحول مشروع الهندسة المناخية إلى أداة ضغط لفرض إرادة سياسية معينة على شعوب فقيرة أو دول لا تمتلك هذه التكنولوجيا، من قبل دول ذات توجهات إمبريالية بأساليب جديدة؛ لذلك فالسؤال الملح هو، إذا أصبحت الهندسة المناخية واقعا ملموسًا، مَن سيتحكم في مناخ الأرض؟
هل سيتحكم بها أصحاب رؤوس الأموال لصالح زيادة ثرواتهم؟ أم ستتحكم بالمناخ حكومات ذات أجندات شريرة بأهداف إمبريالية لفرض السيطرة؟ أم، كما نأمل، ستحقق الهندسة المناخية طموح البشرية وأملها في كوكب أفضل قابل للحياة؟