تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
الجراح العالمي مجدي يعقوب يواصل عطاءه في مجال جراحات وأبحاث القلب

مجدي يعقوب.. مشرط الجرَّاح في يد القديس

منشور الثلاثاء 25 فبراير 2025

في خمسينيات القرن الماضي، سجّلت كلية الطب بجامعة القاهرة اسم مجدي يعقوب، الطالب القادم من محافظة الشرقية، ورغم مُعارضة الأب الطبيب للتخصص الذي يريده، فإن الابن انتصر للحلم الذي رافقه من طفولته في إنقاذ مرضى القلب، بعد وفاة عمته الشابة بسبب اعتلال قلبها.

مرّت سنوات بعد الدراسة التي أتمّها عام 1957 وأتبعها بالتدريب والعمل في مستشفى قصر العيني بالقاهرة، قبل أن يسافر إلى بريطانيا عام 1962، ليصير جراحًا مساعدًا يتدرب على يد الطبيب الإنجليزي الشهير وأحد رواد جراحات القلب راسل بروك؛ ليقترن اسم مجدي يعقوب بعدها بنجاحات وُصفت بـالمُعجزات، ويصبح رائدًا في مجاله ويُتبَع ذكرُه بالفخر والثناء، ويغدو مُلهمًا لكثيرين.

حتى اليوم، ما زال يعقوب، وقد ناهز التسعين من عمره، يواصل العطاء، سواء بإنقاذ المرضى في مؤسسته الطبية المجانية التي تتوسّع، أو بنقل مهاراته وحكمته لتلاميذه، أو عبر البحث العلمي من خلال قسم الأبحاث في مركز أسوان للقلب، الذي أثمر مؤخرًا ابتكار صمامات قلب طبيعية تدوم مدى الحياة، وهو الإنجاز الذي قُوبل باحتفاء عالمي على المستويين الطبي والإعلامي، يعبر عنه بوست على فيسبوك اعتبر أن البروفيسور "يكسر مَرّة أخرى الحواجز لخلق الأمل".

باحث شغوف

البوست السابق يُلخص ما اعتاده الجراح العالمي مذ كان طبيبًا حديث التخرج يتابع نتائج الأبحاث السريرية لبعض الجراحات. ولإدراكه أهمية هذا هذا الجانب أسس وأدار مؤسسة تابعة لمعهد هارفيلد لعلوم القلب، حملت اسمه، للإشراف على الدراسات.

"لدي رغبة فطرية في معرفة أشياء جديدة، وإتقان ما كنا نفعله، وتقييم أشكال جديدة من العلاج، ودراسة وتحسين التقنيات الجراحية"، يلخّص الجراح العالمي دوافعه للنجاح البحثي، ويبدي خلال حديث له شغفه بالمعرفة، وبأن تُثمر الأبحاث نتائج مهمة "لقد رأينا أنه يمكننا منع المرض وكذلك علاجه"، وهو ما تحقق في إنجازه الأخير.

يحرص يعقوب على التعلّم المستمر ويؤمن بأن "الطبيب اللي ما بيتعلمش؛ دي لحظة نهايته مهنيًا"، ينقل هذا عنه الدكتور سامح صبري، عضو فريق عمله بمركز أسوان للقلب وأخصائي الإرواء القلبي والقلب الصناعي.

بيحب يلاقي أولاده وزمايله أطباء وممرضين بيراعوا المرضى بصورة صحيحة

قبل 6 سنوات، بدأ صبري عمله فور تخرّجه من جامعة أسيوط، وفوجئ بالجرّاح العالمي "يحضر مع الأطباء محاضرات مختلف الأقسام، ويسأل ويُناقش"،  كما يقول لـ المنصّة فـ"من أسرار عبقريته، إيمانه بالتعليم المستمر وبصورة تفاعلية والنقل للي أصغر منك، وإنك لازم تلاقي حد يرد على سؤالك، حتى لو كان خارج تخصصك. وحاليًا مثلًا بندرّب أطباء وممرضين من رواندا استعدادًا للعمل في المركز الطبي الجاري إنشاؤه هناك".

لا يكتفي يعقوب بنقل المعرفة للأطباء فقط، وإنما يحرص على نشر الوعي بين المواطنين، "فريق التمريض بيعمل توعية طبية بالعيادات الخارجية وزيارات لتجمعات مختلفة كالمدارس والأندية أو مطار أسوان، ويعلم الإسعافات الأولية السريعة لما لها من أثر في احتمالية النجاة. ودكتور مجدي أحيانًا بيشارك بفيديو مُسَجّل"، يقول الدكتور أحمد الدويّك، عضو الفريق ومُدير الرعاية القلبية المُركّزة للكبار بمركز أسوان للقلب.

.. ومُعلّم أجيال

درس صبري، 35 عامًا، جراحة القلب والصدر وحصل على زمالة القلب الصناعي، لكنه ما كان له أن يتخصص في الإرواء القلبي والقلب الصناعي وتخدير القلب لولا انضمامه لبرنامج واعد لتبنّي الأطباء حديثي التخرج دون شرط الحصول على درجة الماجستير؛ ما جعل من "البروف"، حسبما يُلقّبه فريق العمل، مُعلّمًا لثلاثة أجيال في المركز، "الأول استشاريين علّمهم بشكل مباشر، والثاني أخصائيين اتعلموا منه أو من الاستشاريين، وكذلك الجيل الثالث النواب".

ينقل يعقوب خبراته للشباب ويحرص على أن ينمي لديهم محبة البحث والتعلم، يقول الدويك، خريج طب قصر العيني عام 2006 لـ المنصّة "كنت زمان مُندهش ليه مُستعين بشباب صغير في المركز مش جراحين كُبار، لكن فهمت بعد كده إنه اختار ده لأنه عايز يعلّم. وبيحب يلاقي أولاده وزمايله أطباء وممرضين بيراعوا المرضى بصورة صحيحة، يعني هو عرف يربي، سواء ناس من مصر أو خارجها".

شغف يعقوب بالوصول لنتائج عليمة جديدة بدا جليًا في حماسه وهو يشرح بسعادة تفاصيل ابتكاره الأخير، وكيف أنه نتاج ما اطّلع عليه من "دراسات ضخمة"، ومدى "حماسه له، لأنه ابتكار بيطول الحياة ويمنح نشاط وطاقة وسعادة"، ما جعله يعتبره هدية كبيرة يريد منحها للإنسانية.

خادم الإنسانية

في غضون ثلاث سنوات تقريبًا ستنضم هذه الصمامات إلى قائمة هدايا يعقوب الذي يرى نفسه مجرد خادم للإنسانية، ودوره أن يوفر الرعاية لمن يحتاجها ومَن قد يموت لمجرد نقص الإمكانات الطبية التي شكا منها في بداية عمله؛ وهو ما دفعه قبل 15 عامًا لاختيار تقديم العلاج المجاني في واحدة من البقاع المصرية البعيدة، في أسوان، المحافظة شبيهة الظروف بالشرقية حيث وُلد عام 1953 لعائلة تعود أصولها لأسيوط.

لطالما أبدى صبري إعجابه باختيار يعقوب لأسوان "كنت بسأل نفسي هل هو مدرك لأهمية الخدمة المجتمعية اللي بيقدّمها؟ ما فيش في الصعيد مؤسسات مُجَهّزة زي معهد القلب أو ناصر، وأقرب مكان لمرضاه هو مستشفى جامعة أسيوط على بُعد 6 ساعات؛ فكانوا بيوصلوا لها في حالة متدهورة؛ ولهذا التزمنا بفكرة البروف إن 60% من مرضانا يكونوا من هنا، لكن طبعًا لو فيه حالات في مكان بعيد في مصر بنبعت لها إسعاف، وحالات بنسفّرها للخارج وبيدخلوا الرعاية عندنا لما بيرجعوا".

وضع "البروف" لنفسه وفريق عمله خمس قيم أوّلاها "المريض أولًا"، فحين أجرى جراحةً لأحد المُتّهمين بالإرهاب، كانت قناعته أنه "ليس قاضيًا، بل طبيب. مهمته ليست محاكمة المريض، بل علاجه"، ليتذكر ما كان بعدها بخصوص مريضه؛ يقول في أحد اللقاءات مُبتسمًا إنه "في النهاية طلع براءة".

تقديم المريض وحياته على أي اعتبار آخر، عايشه الدويّك مع أستاذه في "مواقف كثيرة"، يتذكر من بينها الجراحة التي أجراها الفريق لشاب من أسوان، "دي عرّفتني بيه عن قرب وأثرت فيّا جدًا. جراحة بدأناها 8 صباحًا واستمرت حتى الساعة 2 ظهر اليوم التالي. كان عندي 30 سنة وكنت أنا وزمايلي الشباب بنرتاح ونبدّل، إنما هو كان بياخد استراحة سريعة ويرجع فورًا، وبعدها فضل معايا أنا والمريض في الرعاية، وتابعه لغاية ما خرج من المستشفى".

وهو ما يحدث أيضًا في حالات الإيكمو/ECMO التي يعمل عليها صبري، وتجعله قريبًا من يعقوب، يقول "عملنا صعب ومُعقّد، وبنتابع المريض في الجراحة والرعاية، فأحيانًا (البروف) كان بيبات معانا في المستشفى، ممكن يرتاح ساعتين مثلًا ويرجع يتابع، ويسأل ويطمن. وده تعامله عمومًا، مش إنه جرّاح أدى مهمته وخلاص يسلّم المريض لفريق الرعاية. لأ، بيتابع كل التفاصيل سواء كان معانا أو خارج مصر".

في جراحة الساعات الست وثلاثين مع الشاب الأسواني، طبّق يعقوب ثاني قيمه وهي "الالتزام والوضوح"، يتذكر الدويك "كان بيتطمن على أهل المريض وحريص إنهم يعرفوا تطورات الحالة"، ووفق صبري فإن البروف غرس فيهم "فكرة تحسين تجربة المريض، وحفظ حقوقه، وتقييم حالته النفسية، ومصارحته وأسرته بطبيعة مرضه حتى لو نسبة الشفاء ضعيفة، لأننا في النهاية أطباء مش أوصياء عليه".

مُحارب المصاعب

مصارحة الحالات، بالأخص لو كانت نسبة الشفاء قليلة، لا تتناقض أبدًا مع كون يعقوب محاربًا صلدًا، "البروف علّمنا بذل كل طاقتنا بتركيز ودون فقدان الأمل مع المريض، ولو نسبة شفائه 1%، كما في الحالات المُعقّدة مثل اعتلال القلب التضخّمي والتي ما زال يُجري جراحاتها بنفسه حتى اليوم، كما يتابع مع الاستشاريين حالات أخرى. فالمريض بالنسبة له ليس رقمًا، والطبيب ليس (يافطة)"، يقول صبري.

التعاطي مع الحالات الطبية التي تبدو نسب شفائها ضئيلة جدًا بتفاؤل وثقة هو نتاج الخبرة الطويلة التي اكتسبها يعقوب منذ كان متدربًا في مستشفيات لندن للصدر، وبرومبتون، والقلب الوطني في بريطانيا، قبل أن يصبح أستاذًا مساعدًا في جامعة شيكاغو الأمريكية لمدة عام، ثم أستاذًا في المعهد الوطني للقلب بكُليّة الجراحين الملكية في بريطانيا عام 1986، واستشاريًا في مستشفيي "رويال برومبتون"، و"هارفيلد"، والأخير شهد نجاحه في إجراء أكثر من 200 جراحة زراعة قلب سنويًا. 

تحدي يعقوب للصعاب، يظهر أيضًا من إصراره على نجاح تجربته في أسوان، فرغم المكانة العالمية في تأسيس مركز لجراحة القلب بأعلى الإمكانات، فإنه قرر البدء بالمُتاح لدى مؤسسته تطورت حتى أشادت بها منشورات من كبرى الجامعات الدولية. وهي إشادة مُستَحَقّة لما رآه الدويك الذي سبق وعمل في مستشفيات "قصر العيني الفرنساوي، ومصر للطيران، والشيخ زايد" عالية التجهيز، ويقول عن مركز أسوان "دكتور مجدي بيحب ياخد التحديات خطوة خطوة، لكن بطريقة مُخططة ومنظمة. والخطوات ممكن تكون كتير ولمُدّة طويلة، لكن المهم النتيجة".

ويُدلّل على ذلك بالبدايات، "يعني أول ما بدأنا، كنّا بنستقبل زيارات أطباء وممرضين أغلبهم أجانب تبع سلسلة الأمل، بيسافروا بعد ما بينجزوا الجراحات وممكن يفضل منهم اتنين معانا. لكن اعتبارًا من 2010، بقى الفريق من مصر، وخلاص مفيش حاليًا غير استشاري أو اتنين من برّه مصر بيزورونا".

هكذا وعبر "سلسلة الأمل"، الكيان الخيري الذي أسسه في بريطانيا عام 1995، نجح يعقوب في دعم مرضى دول فقيرة ونامية وبمناطق حروب ونزاعات، لا سيما وأنه حسب صبري "يرتبط عاطفيًا بالمرضى، خصوصًا الحالات الصعبة، ويحزن إذا شاء القدر أن نفقد مريض وفرنا له كل الإمكانيات".

.. مانح الأمل

الارتباط العاطفي بالمرضى جعل من الصعب على يعقوب القبول بالتقاعد عام 2001 بحكم السن، حسبما تفرض لوائح بريطانيا، والسماح له بالعمل فقط استشاريًا، والاستعانة به في الإشراف على تطوير المنظومة الصحية، فالطبيب الذي كان سبب سعادة آلاف المرضى وأسرهم لا يمكن أن يتخلى عن دوره.

في عام 2006 أشرف البروف على جراحة مُعقّدة كانت حديث الإعلام البريطاني الذي تداول صوره مبتسمًا بجوار المريضة، وسعيدًا بكونها أصبحت "سعيدة وتعيش بقلبها الطبيعي"؛ مريضة 2006 تنتمي للفئة العمرية التي تحظى بالمحبة الأكبر في قلب يعقوب، وهم الأطفال؛ يقول صبري إن "محبته للأطفال كبيرة جدًا، وبيمثلوا أكثر من 70% من حالاتنا، وبيفرح جدًا لما بيشوفهم بقوا بخير وبيمارسوا حياتهم زي أي طفل بصحته. ومن دوافعه الأساسية لافتتاح المركز الجديد علاج العيوب الخلقية لدى الأطفال، ومنها ما يُكتشف في الجنين؛ وهو ما يجعلنا نطلب من النساء الحوامل الولادة في المركز".

بمنحه الأجنّة فرصةً للحياة، وبما وُهب من مهارات، أصبحت يد يعقوب تُرَبّت بالأمل على قلوب مرضاه بجراحات بعضها دقيق للغاية كالتي أجراها لتصحيح خطأ جراحي، خلال السبعينيات؛ العقد الذي شهد أيضًا وجوده ضمن فريق طبي أجرى أول جراحة قلب مفتوح في نيجيريا، لتُعلن بعدها بأربع عقود مواقع بريطانية رسمية أنه "أجرى جراحات زراعة قلب ورئة أكثر من أي طبيب"، كما تشير تقديرات إلى أنه أجرى أكثر من 20 ألف جراحة قلب خلال مشواره المهني.

من بين هذه الجراحات ما دخل بالمريض إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية، مثل الإنجليزي جون مكافيرتي الذي انتقل منه اللقب للهولندي بيرت يانسن، وهو أيضًا أحد مرضى يعقوب، الذي لم تنسه الموسوعة ووثقت أنه "الجَرّاح الذي أنجز بنجاح أكبر عدد جراحات قلب في عام واحد 1980، بواقع 100 جراحة".

 تتعدد إنجازات يعقوب، ولمركز أسوان نصيب منها، كما يكشف الدويك "فيه جراحات تُجري بطريقة صارت تُعرف بـأسوان تكنيك، وفيه زملاء بييجوا يتعلموا التقنية دي"، وهو ما يعود الفضل فيه للقيمة الثالثة التي نقلها البروف لتلاميذه وهي روح الفريق الواحد، التي يظهر أثرها في قوله "دكتور مجدي لما بيكون هنا بيتابع العمليات بنفسه، لكن هو خلاص وضع السيستم، وبقينا سعداء بمعاييرنا، وبنحاول نتواجد 24 ساعة لتقديم الخدمة بمختلف الصور".

.. من القلب

 يحرص يعقوب على الأجواء الإيجابية التي يعمل فيها فريق عمله، وعلى "الاحترام المتبادل بين مختلف الدوائر"، وهي القيمة الرابعة التي يُطبقها مع الفريق والمرضى؛ "هو بيحب يدردش معانا ويتعرف على الموظفين الجُدد، خصوصًا وإن لنا زملاء مغتربين، فبيحرص إننا نكون عيلة واحدة. أمّا مع المرضى، فبيحرص على رضاهم، وفيه تقييم منهم للمركز بيتم في سرّية تامة منعًا للقلق من التعرّض لأي معاملة سيئة بعدها، لأن البروف بيهتم بمشاعرهم وكرامتهم مش بس صحتهم"، يكشف صبري أن هذا جعله "حريصًا" على أن تكون التبرعات بوسائل بعيدة عن مقر المستشفى "منعًا لأي إحراج".

ما يفصح عن صبري تدعمه القيمة الخامسة التي وضعها أستاذه، وهي "الخدمة من القلب"، ويراها الطبيب الشاب تُقابل بالمثل من أهل البلد؛ يقول "إحنا مُرَحب بينا في كل مكان وفي أي وقت، ومحبة أهل أسوان للبروف كبيرة وصادقة جدًا، وبيعاملونا بكرم. يعني فيه حالات بتحتاج دم كتير، لكن إحنا مبنغلبش، والناس لما بتعرف إن المجهود اللي هتبذله أو تبرعهم سواء بالدم أو المال أو أدوية أو كراسي للمرضى ده هيروح للمركز؛ مابيترددوش".

لهذا تعددت تكريمات يعقوب محليًا ودوليًا؛ إذ نال من مصر قلادة النيل، ومن الإمارات وسام محمد بن راشد لخدمة الإنسانية، وهو أول مصري تمنحه بريطانيا وسام الاستحقاق، كما منحته ملكة بريطانيا لقب سير في عام 1991، ومن الولايات المتحدة الأمريكية جائزة إنجاز العُمر، والدكتوراه الفخرية من جامعات بيروت اللبنانية، ولاهور الباكستانية، وسيينا الإيطالية. وكذلك، هناك الشكر الرمزي المستمر له من مرضى كان اليد التي ربَّتت - يومًا ما - على قلوبهم بالأمل.