لاحظ الإنسان الظواهر الضوئية باهتمامٍ كبيرٍ منذ فجر التاريخ، وأثناء العصور القديمة والوسطى عرف ودرس الكثير منها. لكن بالرغم من ذلك، لم توضع قوانين دقيقة لتفسير هذه الظواهر؛ مثل انعكاس الضوء في المرايا وانكساره في العدسات والمنشورات، إلا بحلول القرن السابع عشر.
في تلك الفترة، ظهرت التلسكوبات والميكروسكوبات التي فتحت لنا عوالم جديدة لم يكن ممكنًا إدراكها بالعين المجردة، مثل كواكب جاليليو جليلي (1564 -1642) البعيدة التي اكتشفها بتليسكوبه، أو عالَم الأحياء الدقيقة الذي اكتشفه أنطوني فان ليفينهوك (1632 - 1723) بميكروسكوبه.
غير أنَّ العلماء وقتها لم يتفقوا على نموذج علمي متماسك يفسر خصائص الضوء وسلوكه.
الضوء ونموذجاه
قبل أن يصعد نجم إسحاق نيوتن (1642-1727)، تنازع تفسير الظواهر الضوئية المعروفة نموذجان: النموذج الجسيمي والنموذج الموجي. يفسر النموذج الجسيمي الضوء على أنه جسيمات صغيرة جدًا ذات أحجام وألوان مختلفة.
اعتقد نيوتن وآخرون في صحة هذا النموذج، الذي بُني على مشاهدات عديدة لتجارب العدسات والمرايا والمنشورات التي سار فيها الضوء في خطوط مستقيمة، لذلك أقروا التفسير الجسيمي. ظلَّ هذا سائدًا في الأوساط العلمية والأكاديمية، خاصة في إنجلترا وفرنسا، منذ زمن نيوتن حتى نحو قرن من وفاته.
في المقابل، يفسر النموذج الموجي الضوء على أنه موجات، تنتشر في الفراغ مثلما ينتشر الموج على سطح بحيرة عندما يُقذَف حجر فيها، فيكون لكل موجة قمة وقاع.
تبنّى كلٌّ من الهولندي كريستيان هيجنز (1629–1695) والإنجليزي روبرت هوك (1636-1703) والإيطالي فرانشيسكو جريمالدي (1618-1663) هذا النموذج، وأجروا عددًا من التجارب لمحاولة إثباته.
تتميز الموجة ببعض الخصائص الفيزيائية، منها الطول الموجي، وهي المسافة بين قمتين (أو قاعين) متتاليتين، وكذلك الزمن الدوري؛ وهو زمن مرور قمتين متعاقبتين لموجة على نقطة ما أثناء حركتها.
ومن أهم الظواهر المميزة لانتشار الموجات ظاهرتي التداخل والحيود، وهما ظاهرتان متعلقتان بالموجات سنعود إليهما بعد قليل.
ورغم معرفة نيوتن ببعض تجارب الضوء التي يمكن من خلالها تفسيره كموجات، إلا أن نيوتن لسبب ما فسرها بشكل معقد مستخدمًا النموذج الجسيمي.
المثال على ذلك هو تجربة العدسة الموضوعة على سطح زجاجي، التي قام بها هوك وفسرها تفسيرًا صحيحًا. لكنَّ نيوتن درسها بعد ذلك وفسرها بطريقة أخرى، مستخدمًا النموذج الجسيمي، وسميت فيما بعد "تجربة حلقات نيوتن"، التي تستخدم اليوم في تعليم طلاب الفيزياء ظاهرة التداخل، وهي إحدى ظواهر النموذج الموجي. ولأنَّ نيوتن كان ذا نفوذ علمي كبير، تأخر إدراك العلماء لطبيعة الضوء الموجية لعدة عقود.
بدأ الظهور الثاني للنموذج الموجي عندما قام عالم الرياضيات الألماني الفذ ليونارد أويلر (1707-1783) ببحثٍ عن طبيعة الضوء في منتصف القرن الثامن عشر، قارن فيه بين النموذجين، وقدم حججًا على عدم قدرة النموذج الجسيمي تفسير ظواهر الحيود، وساق حججًا أخرى تدعم النموذج الموجي وتفسر هذه الظاهرة.
ومع ذلك لم تقنع حجج أويلر معظم الفيزيائيين الذين أرادوا إثباتًا تجريبيًا واضحًا لهذا السلوك الموجي للضوء.
تجربة الشق المزدوج
نشأ توماس يونج (1773-1829) في سمرسيت بإنجلترا في أسرة ثرية، وكان صبيًا نابغًا تعلم في سن الثالثة عشرة 12 لغةً، كما كان مهتمًا منذ نشأته بتاريخ الشرق الأوسط وحضاراته القديمة، وأَوْلى اهتمامًا خاصًا بالفيزياء والكيمياء.
تأثر يونج بعمه الطبيب المشهور ريتشارد بروكليسبي، لذا درس الطب في أدنبرة وجوتنجن وتخرج عام 1796، وانتُخب زميلاً في الجمعية الملكية وعمره 21 سنةً فقط. وكانت له اكتشافات مهمة في عالم الطب، فهو أول من فسَّر آلية تغيير تحدب عدسة العين، والتي بدورها تغير بؤرة النظر، مثلما يحدث عند رؤية شيء قريب ثم آخر بعيد. كذلك قدم يونج تفسيرًا صحيحًا لمرضى الاستجماتزم وعمى الألوان. وقدَّم مشاركة مهمة في فك شفرة الكتابات الديموطيقية والهيروغليفية في حجر رشيد.
لكنَّ أهم إنجازاته، كانت تجربته التي أكدت الطبيعة الموجية للضوء، التي نسميها اليوم تجربة الشق المزدوج ليونج.
في هذه التجربة وضع يونج مصدرًا للضوء قريبًا من حائلٍ أول، به شق طولي ضيق لتكثيف الضوء في خط ضيق. وبعده وضع حائلًا آخر به شقين طوليين متساويين ومتوازيين، وموازيين أيضًا لشق الحائل الأول.
بعد ذلك وضع حائلًا أخيرًا نسميه الشاشة، ليستقبل الأشعة القادمة من الشقين، والناتجة عن تداخل الأشعة منهما، فينتج ضوء على هيئة شرائط مضيئة موازية للشقوق بينها مناطق معتمة.
تقودنا هذه التجربة لإدراك طبيعة الضوء الموجية، فموجات الضوء يحدث بينها تداخل مثل تداخل موجات الماء على سطح بحيرة ساكنة. فعندما نلقي بحجرين متماثلين ليصطدما في نفس الوقت بسطح البحيرة، يتكون مصدران لموجات دائرية، مناظرة للشقين في التجربة، وبالطبع لكلٍّ منها قمة وقاع.
تنتشر هذه الموجات الدائرية في البحيرة وتتقاطع في نقاط محددة، بحيث تتراكب قمة إحدى الموجات مع قمة الأخرى فتنتج قمة أعلى منهما، أو قاع مع قمة فيلغي كلٌّ منهما تأثير الآخر، ونحن نسمي هذه الظاهرة بـ"التداخل".
يماثل هذا ما يحدث في تجربة يونج، حين تتقابل موجتان على الشاشة، كلُّ واحدة منهما تأتي من شقٍّ من الاثنين، فتتراكب قمة فوق قمة، منتجةً نقطةً مضيئةً. وعند تجميع النقاط من أشعة مماثلة ينتج شريط مضيء، أو تتراكب قمة مع قاع، فيُنتِج نقطةً مظلمةً. وعند تجميع نقاط من أشعة مماثلة، ينتج شريط معتم.
محاولة أخرى للفهم
قد يسأل القارئ: ماذا لو كان الضوء، كما اعتقد نيوتن، مكوَّنًا من جسيمات؟ كيف سيغير ذلك من نتيجة تجربة يونج؟
تخيل معي مجموعة من هذه الجسيمات (أي الضوء) تنطلق مارة بالشقين. لنأخذ أحدها كمثال؛ يسير الجسيم في خط مستقيم، إذ لا توجد قوى تؤثر عليه، بين شقِّ الحائل الأول وأحد شقي الحائل الثاني، الذي ينفذ منه، مصطدمًا بالشاشة في النهاية ومكونًا نقطة مضيئة.
عند تجميع نقاط من أشعة مماثلة، ينتج شريط مضيء على الشاشة ناحية الشق المذكور. ويتكون كذلك شريط آخر مضيء ناحية الشق الآخر. نجد أنَّ النتيجة هي وجود شريطين مضيئين فحسب على الشاشة، لا عددًا من الشرائط المضيئة والمظلمة المتتابعة كما في تجربة الموجات. ولذلك تمثل هذه التجربة دليلًا قويًا على صحة النموذج الموجي.
لكن تجربة يونج لم تلق اهتمامًا كافيًا من معظم العلماء البريطانيين، ممن لم يتقبلوا فكرة هدم النموذج الجسيمي لنيوتن، بل وسخروا من فكرة صنع منطقة مظلمة نتيجة تراكب شعاعيّ ضوء!
ندرك اليوم أهمية تجربة يونج في إظهار الطبيعة الموجية للضوء، والتي جرى تطبيق تجارب مماثلة اعتمادًا عليها للكشف عن طبيعة الجسيمات الكمية المراوغة، والتي تسلك سلوك الموجات حينًا والجسيمات حينًا آخر.
بقي هذا الخلاف مشتعلًا حتى مجيء عالم آخر هو أوجستين فرينل.
طبيب ومهندس وعلم البصريات
نشأ أوجستين فرينل (1788-1827) في أسرة من طبقة النبلاء الفرنسية في نورماندي أثناء الثورة الفرنسية، ودرس الهندسة في باريس وتخرج عام 1809 مهندسًا معماريًا وعمل في الحكومة الفرنسية، كما كان مولعًا بالفيزياء. وفي عام 1815 أعادته السلطات إلى بلدته في نورماندي وفرضت عليه الإقامة الجبرية لفترة زادت عن ثلاث أشهر، استغلها في تطوير نموذجه الموجي لتفسير الظواهر الضوئية.
لم يعرف فرينل عن أبحاث يونج وأويلر شيئًا، ربما لأنه بدأ حياته العملية بعيدًا عن المجتمع الأكاديمي الفرنسي، لكنه أولى كامل اهتمامه لدراسة ظاهرة أخرى، وهي ظاهرة حيود الضوء، واستخدمها لإظهار طبيعة الضوء الموجية.
أحد أمثلة ظواهر الحيود هو مرور موجات شاطئ البحر بفتحة في حائط صد الأمواج عندما يكون طول الفتحة مقاربًا لطول الموجة (المسافة بين قمتين متتابعتين).
عند مرور الموجة القادمة من البحر عبر الفتحة نجدها تأخذ شكلًا نصف دائري، منتشرة الواحدة تلو الأخرى.
تحدث هذه الظاهرة أيضًا عند مرور الضوء في فتحة دائرية ضيقة، لها تقريبًا نفس طول موجة الضوء. فنجد أنَّ قرص الضوء الذي يمثل صورة الفتحة الدائرية على شاشة قريبة يكون أكبر قليلًا من صورته عمّا لو أنَّ الضوء سار في خطوط مستقيمة.
لقد حاد الضوء عن مساره المستقيم نتيجة مروره عبر الفتحة، لذلك نسمي هذه الظاهرة بـ"الحيود".
يمكننا أيضًا ملاحظة ظهور ألوان قوس قزح عند حافة القرص، لأن كلَّ لون من ألوان الضوء يحيد بشكل مختلف.
جائزة الأكاديمية الفرنسية
في عام 1817 أعلنت الأكاديمية الفرنسية عن جائزة لأفضل بحث علمي يُقدم دراسة تجريبية لظواهر الحيود وتكون مدعومة بنموذج نظري. تقدم فرينل بأبحاثه التجريبية وتفسيره النظري الذي اعتمد فيه على النموذج الموجي.
كان محكمو هذه الجائزة سيمون-دنيس بواسو (1781-1840)، وجين بيو (1774-1862)، وبيير لابلاس (1749-1827). وهم من أكبر علماء فرنسا المتأثرين بشدة بنيوتن ومن مناصري نموذجه الجسيمي. ولكنَّ حسابات فرينل كانت صحيحة، بل مُطابقة لنتائج تجارب الحيود التي أجراها.
حاول بواسو أن يبين تناقض نموذج فرينل عن طريق تطبيقه في ظاهرة أخرى وهي حيود آشعة الضوء الساقط على قرص صغير. اعتقد بواسو أنه عند وضع شاشة خلف القرص، فإن النقطة خلف القرص مباشرة ستكون مظلمة بسبب ظل القرص الصغير على الشاشة. لكنَّ حسابات نموذج فرينل تقول إن هذه النقطة ستكون مضيئة!
طلب بواسو من أحد زملائه التجريبيين إجراء هذه التجربة وكانت النتيجة صادمة له. بالفعل كانت النقطة مضيئة، فتأكد المحكمون من صحة النموذج ومطابقته للتجربة، فكان ذلك انتصارًا واضحًا لنموذجٍ ظلَّ مهملًا لعقود.
ذاع صيت فرينل بعد ذلك، وبدأ المجتمع العلمي في أوروبا اعتماد النموذج الموجي بوصفه التفسير الأكثر قبولاً للظواهر الضوئية. وبينما هو على فراش الموت، نال فرينل عام 1827 إحدى أهم الجوائز العلمية في عصره؛ هي ميدالية رامفورد التي تمنحها الجمعية الملكية البريطانية عن أهم أعمال بحثية في الفيزياء.
هذه قصة طبيب ومهندس أثرا في مسار الفيزياء بصورة غير مسبوقة، واضعين خلالها أساسيات علم البصريات الفيزيائية التي نستخدمه اليوم في كافة الأجهزة البصرية.