في عالم أسطورة سيد الخواتم لتولكين، هناك ثلاثة أجناس من الكائنات تعيش في مكان يسمى "الأرض الوسطى"؛ الإلڤيون/Elves، والأقزام/Dwarfs، والإنسان/Man. مُنح ملوكهم عددًا من الخواتم المسحورة ليمتلكوا قوة الحكم، ولكن كان هناك خاتم آخر، خاتم واحد، صُنع ليَحكم كل هذه الخواتم، وُضِعت فيه كل القوى للسيطرة على العالم، يبحث عنه الجميع.
للفيزيائيين أيضًا أسطورتهم الخاصة؛ فهم يدَّعون أنَّ بإمكاننا فهم معظم الظواهر التي رُصدت وندرسها في هذا الكون، عبر أربع قوى أو تفاعلات أساسية؛ هي الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية القوية والنووية الضعيفة.
وتقول هذه الأسطورة إن واحدًا منهم سيكتب في يوم ما معادلة واحدة تصف بدقة القوى الأربع المعروفة، وتفسر لنا كل ظواهر هذا الكون، تسمى هذه المعادلة نظرية المجال الموحد/Unified Field Theory، أو نظريات التوحيد العظمى/Grand Unification Theories، وأحيانًا نظرية كل شيء/Theory of Everything.
كان هذا ولازال حلم الكثير من الفيزيائيين، خاصة من يميل منهم للاقتصاد في الأفكار والمفاهيم فيرغبون في تفسير أكبر قدر من الظواهر بأقل عدد من المفاهيم والمعادلات. كذلك يطرحون أسئلة مثل: هل توجد علاقة بين هذه الظاهرة وتلك؟ هل هناك علاقة بين تلك التفاعلات الأربعة؟ هل يمكن دمج أي من التفاعلات في عدد أقل؟ شغلت هذه الأسئلة الفيزيائيين كثيرًا، بل شكَّلت أفكارهم في علوم مثل فيزياء الجسيمات الأولية والكونيات.
رباعي القوى
دعنا نتعرف عن قرب على الأربع قوى أو التفاعلات الأساسية، فالجاذبية هي قوة جذب بين أي جسمين ماديين لهما كتلة مثل الأرض والقمر مثلًا، وتزيد هذه القوة بزيادة كتل هذه الأجسام وتقل بزيادة المسافة بينهما.
أما القوة الكهرومغناطيسية فهي قوتان في واحدة، إذ تحتوي على القوة الكهربائية/ المغناطيسية، التي تزيد بزيادة الشحنة الكهربائية/ مغناطيسية الأجسام، وتقل بزيادة المسافة. تتسبب هذه القوة في جذب الشحنات/ المغناطسيات المختلفة، وتنافر المتشابهة منها.
لكن ماذا عن القوتين النووية القوية والضعيفة، ولماذا نحتاج إليهما؟
القوة النووية القوية هي المسؤولة عن استقرار المادة كعناصر ومركبات كيميائية وعدم تحللها لمكوناتها الأساسية من بروتونات ونيوترونات وإليكترونات. فأيُّ مادة أو عنصر يتكون من عدد ضخم من أجزاء صغيرة نسميها جزيئات تتكون بدورها من عدد من الذرات، والذرات تتكون من إليكترونات سالبة الشحنة تدور حول مركز ثقيل موجب الشحنة. أما النواة، فتتكون من جسيمات تسمى بروتونات موجبة الشحنة ونيوترونات متعادلة الشحنة.
لكنَّ ذلك التركيب سيؤدي إلى انحلال النواة لأن بروتوناتها ستتنافر بقوة مع بعضها البعض، إلا إذا كانت هناك قوة أخرى تعوق ذلك التنافر.
وماذا عن قوة الجاذبية بين البروتونات والنيترونات؟
كتل هذه الجسيمات صغيرة جدًا، لذلك تكون قوة الجاذبية فيها أضعف بلايين بلايين المرات من القوة الكهرومغناطيسية.
كيف نفسر ذلك؟
سأل الفيزيائيون أنفسهم في حيرة، لأن ذلك التركيب يقودهم إلى عدم استقرار المادة، وهذا مناقض لما نراه، فالعناصر مستقرة جدًا!
بذل الفيزيائيون جهودًا تجريبية ونظرية كبيرة لتفسير ذلك، فنشأ علم جديد هو الفيزياء النووية، الذي أظهر قوة من نوع جديد لم نعهده من قبل؛ وهي القوة النووية القوية. قوة جاذبة تعمل فقط في مسافات متناهية الصغر، أصغر من الذرة مئة ألف مرة، لكنها قوية في تلك المسافات بما يكفي للتغلب على القوى الكهرومغناطيسية داخل النواة، لتحافظ بذلك على استقرار النواة والمادة.
هناك شيء آخر غريب وجدناه من الناحية التجريبية في هذه الأنوية، فعند زيادة عدد الجسيمات من بروتونات ونيترونات داخل النواة عن حد معين تصبح هذه الأنوية غير مستقرة، بل تستطيع بعض الجسيمات الهروب من النواة.
بعد أن أنهى أينشتاين صياغة النسبية العامة، حاول دمج الجاذبية والكهرومغناطيسية في إطار فيزيائي واحد
نسمي هذه الظاهرة اليوم بالتحلل الإشعاعي للعناصر، وعند حدوثها تخرج جسيمات مثل البروتونات من النواة فتتحول لنواة عنصر آخر.
وجد الفيزيائيون أن القوى المسؤولة عن تحلل الأنوية الإشعاعي هي قوة جديدة أيضًا، نسميها القوة النووية الضعيفة. من خلاها نستطيع تفسير جميع عمليات التحلل والنشاط الإشعاعي للعناصر.
دمج الأفرع وتوحيد القوى
للفيزياء أفرع عديدة مثل الميكانيكا والكهربية والديناميكا الحرارية.. إلخ، ولكن أحيانًا ما تظهر علاقات جديدة بين الظواهر الفيزيائية في تلك الأفرع، تمكننا من فهمها بشكل أعمق، كما تمكننا من دمج قوانين ومفاهيم تلك الأفرع.
بدأ هذا الدمج مع نشأة الفيزياء الكلاسيكية على يد إسحق نيوتن، عندما وحد حركة الأجسام الأرضية مع حركة الأجرام السماوية في نسق واحد. تصف قوانين الفيزياء الكلاسيكية حركة الحجر المقذوف في الهواء كما تصف حركة الأرض الدائرة حول الشمس، أو حتى حركة بلايين النجوم حول مركز مجرتنا درب التبانة.
بعد نجاح ميكانيكا نيوتن في وصف حركة الأجسام الأرضية والفلكية، ظهرت فروع أخرى في الفيزياء، مثل الفيزياء الكهربائية والمغناطيسية والديناميكا الحرارية، التي تدرس الظواهر الحرارية وإمكانية تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة حركية يمكنها تحريك قطارات أو مركبات.
فالأساس العلمي لاختراع محركات القطارات والسيارات والمبردات هو علم الديناميكا الحرارية، الذي استطاع تفسير عدد كبير من الظواهر الحرارية من خلال مفاهيم مثل درجة الحرارة والضغط وكمية الحرارة والأنتروبيا. كذلك وحَّد علم الديناميكا الحرارية صور الطاقة المختلفة مثل الطاقة الحركية والحرارية والكيميائية، وبيَّن إمكانيه تحولها من صورة إلى أخرى، كتحول الطاقة الحرارية الناجمة عن احتراق الفحم لطاقة حركية تدير المحركات، كذلك أوضح أن الطاقة باقية لا تفنى ولا تُخلق من عدم.
ثم جاء أول توحيد كبير لقوى الطبيعة على يد جيمس كلارك ماكسويل عام 1861، عندما قدم نظريته في الكهرومغناطيسية التي وحد فيها القوة الكهربية والقوة المغناطيسية وعلم البصريات.
اعتمد ماكسويل في نظريته على تجارب الفيزيائي مايكل فارداي الذي لاحظ أن المجال الكهربائي المتغير مع الزمن يُنتج مجالًا مغناطيسيًا، والعكس صحيح.
هكذا ارتبطت الظواهر الكهربية والمغناطيسية معًا وظهرا كوجهين لعملة واحدة.
اكتشف ماكسويل كذلك أن الضوء هو حالة خاصة للظواهر الكهرومغناطيسية فيها يُنتج المجال الكهربائي آخر مغناطيسيًا وتُعاد الكرة. هكذا ينتشر المجالان في الفراغ بسرعة.
المدهش هنا أن سرعة الانتشار هذه هي سرعة الضوء. لقد اكتشف ماكسويل أن الضوء ليس إلا مجالًا كهرومغناطيسيًا متغيرًا ينتشر في الفراغ. أي أنَّ علم البصريات ما هو إلا حالة خاصة من علم الكهرومغناطيسية.
بعد أن أنهى ألبرت أينشتاين صياغة النظرية النسبية العامة، المعنية بوصف الجاذبية بطريقة هندسية رائعة، حاول جاهدًا صياغة نظرية يدمج فيها الجاذبية والكهرومغناطيسية معا في إطار فيزيائي واحد. هذه النظرية نسميها الآن "نظرية المجال الموحد"، وهي مجموعة من الأفكار الرياضية والفيزيائية قدمها مع معاونيه، كان لها كبير الأثر في تطوير نظريات التوحيد اللاحقة، بل طورت مجالات عديدة في الفيزياء رغم عدم نجاحها في دمج القوتين.
نظرية واحدة لميكانيكا الكم والنسبية
في أواخر أربعينيات القرن العشرين، استطاع كل من فاينمان وشوينجر وتوموناجا توحيد أهم فرعين للفيزياء الحديثة، النظرية النسبية الخاصة ونظرية الكم.
تصف النسبية الخاصة حركة الجسيمات ذات السرعات القريبة من سرعة الضوء. أما "نظرية الكم" فتصف حركة الذرات والجسيمات تحت الذرية وخصائصها.
وحد فاينمان وشوينجر وتموناجا هاتين النظريتين بعد محاولات عديدة أمكن فيها تطبيق نظريتهم بنجاح على التفاعلات الكهرومغناطيسية فيما نسميه اليوم بـ "نظرية الكهروديناميكا الكمية". وتعد هذه النظرية واحدة من أدق النظريات العلمية على الإطلاق، فقد تنبأت بقيم بعض الكميات الفيزيائية بدقة غير مسبوقة، تصل إلى واحد من مئة مليار جزء في قياسات تجريبية مثل العزم المغناطيسي للإليكترون. فاستحق هؤلاء الفيزيائيون جائزة نوبل عام 1965 عن هذه النظرية الرائعة.
إن النجاح العظيم للكهروديناميكا الكمية ساعد في إحياء أفكار أينشتاين القديمة في توحيد قوى الطبيعة المختلفة، لكن من خلال مفاهيم جديدة نجحت في بناء أهم نظرية موحدة معروفة حتى الآن وهي نظرية سلام-واينبرج-جلاشو.
هذه النظرية توحد القوى الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة (الكهروضعيفة)، وتتنبأ بوجود أربع جسيمات جديدة تسمى البوزونات W+ ,W- Z بالإضافة إلى بوزون هيجز، التي اِكتُشفت جميعًا بعد ذلك. قدم هذه النظرية بشكل مستقل كل من الباكستاني محمد عبد السلام والأمريكي ستيفن واينبرج بعد أن طورا نظرية سابقة للأمريكي شيلدون جلاشو.
تصف هذه النظرية التفاعلات الكهرومغناطيسية والضعيفة والقوية لآلاف الجسيمات الأولية المكتشفة في المئة سنة الأخيرة بدقة متناهية. من أهم خصائص هذه النظرية أنها تفسر كيفية حصول الجسيمات الأولية مثل الإلكترونات وغيرها على كتلها، كذلك تفسر دور جُسيم هيجز في هذه العملية.
محاولات التوحيد العظمى
صارت نظرية سلام-واينبرج-جلاشو النموذج المثالي لمحاولات توحيد القوى، فبدأ ظهور نظريات جديدة في سبعينيات القرن العشرين حاولت دمج القوى القوية مع الكهروضعيفة تحت مسمى "نظريات التوحيد العظمى".
في البداية ظن الفيزيائيون أنها فكرة غاية في الجنون، لذلك ظلت لفترة طويلة مهملة
الفكرة الأساسية هنا هي تغيير شدة التفاعلات مع طاقة الجسيم. أي أن مقدار القوة التي يشعر بها الجسيم تحت تأثير أي من القوى الثلاثة تعتمد على طاقته. ففي الطاقات العالية تقترب شدة هذه التفاعلات الثلاثة من بعضها البعض مكوَّنة تفاعلًا واحدًا. هكذا تتنبأ النظرية بتوحيد التفاعلات.
طمح بعض الفيزيائيين بعد ذلك في دمج الجاذبية العنيدة مع القوى الأخرى في هذه النظريات، لكن لم يتكلل ذلك بالنجاح. في الحقيقة نحن لا نعرف حتى الآن كيف نفهم أو نصِف الجاذبية على المستوى الميكروسكوبي أو الكمومي.
لكن هناك مجموعة مختلفة من الأفكار الثورية والتي نسميها اليوم "نظرية الأوتار الفائقة" أو "نظرية كل شيء"، التي قدمها بصورتها الكاملة جون شوارتز ومايكل جرين عام 1984.
تفترض هذه النظرية أن المكونات الأساسية للطبيعة أو الجسيمات تحت الذرية هي وتر غاية في الصغر، تكوّن تردداته المختلفة الجسيمات الأولية المختلفة التي نعرفها اليوم. فكل تردد يظهر لنا كجسيم أوَّلي له خصائصه المميزة من شحنة كهربائية وكتلة.. إلخ. في البداية ظن الفيزيائيون أنها فكرة غاية في الجنون لذلك ظلت لفترة طويلة مهملة ويعمل عليها عدد قليل منهم.
ولكن بعد سنوات من البحث والحسابات، بدأ الفيزيائيون الاهتمام بها لسببين، أولهما نجاحها في وصف الجاذبية على المستوى الكمومي (الميكروسكوبي) بشكل غير متناقض داخليًا، خلافًا لكل النظريات الأخرى. والثاني أنها قدمت إمكانية لدمج القوى الأساسية الأربعة في نظرية موحدة.
لا تزال هذه النظرية قيد البحث والتطوير نظرًا لتعقيدها الرياضي الشديد. لكن يومًا ما قد تُمكننا إحدى تلك النظريات من فهم ألغاز الطبيعة الأكثر غموضًا، مثل فيزياء بداية الكون أو فيزياء الأجسام الفلكية المسماة بـ"الثقوب السوداء" ذات الجاذبية الفائقة.
مع كل تلك الجهود في بناء وتنقيح وتحليل النظريات التي ظهرت بعد نظرية سلام-واينبرج-جلاشو، فلا توجد حتى الآن أي تجربة فيزيائية تشير إلى صحة أو خطأ أي من هذه النظريات. وبالرغم من أن تلك النظريات تعتبر تعميمات طبيعية ومبدعة لنظرية سلام-واينبرج-جلاشو، إلا أنها لا تقف معها على قدم المساواة تجريبيًا.
من المهم أن ندرك، بعد هذه الرحلة السريعة، أن الفيزياء علم تجريبي في الأساس، لذا فإن الكلمة الأخيرة والحاسمة في الحُكم على صحة أو خطأ أي نظرية هي للتجربة. وإن لم تنجح أي من هذه النظريات تجريبيًا فلن تُخرِج لنا نظريات فيزيائية حقيقية تخبرنا شيئًا ذي أهمية عن هذا الكون.