يقول الشاعر الأرجنتيني خورخي بورخيس "الزمن هو المادة التي صُنع منها العالم، الزمن هو النهر الذي يجرفني، لكنني النهر، الزمن هو النمر الذي يلتهمني، لكنني النمر، الزمن هو النار التي تحرقني، لكنني النار".
الزمن هو أكثر المفاهيم غموضًا وإثارة، بل هو جزء أصيل من تجاربنا الحسِّية التي نرصد عبرها أحداث العالم. قال عنه القديس أوغسطين "إذا لم يسألني أحد عنه، فأنا أعلم ما هو، لكن إن سألني أحد، فأنا لا أعلم".
ويستدعي مفهوم الزمن عددًا من الأسئلة؛ فهل له وجود حقيقي خارجنا؟ هل هو نسبي أم مطلق؟ هل يتأثر بوجود المادة؟ بالحركة؟ هل يمكننا السفر عبره إلى الماضي أو المستقبل؟
حاولت الفلسفة الإجابة عن تلك الأسئلة، ومثلها فعلت الفيزياء. ورغم أن الإجابات التي قُدمت عبر العصور لم تكن مكتملةً، فإنها مع ذلك مثَّلت خطوات مهمة في سعينا لفهم ذلك المراوغ الأبدي.
تأملات الفلاسفة
قدم أفلاطون وأرسطو فكرتين مختلفتين عن الزمن. كان أفلاطون يرى أن هناك عالمين؛ عالم المُثُل أو الأفكار وهو عالم مثالي خالد كامل لا يتغير، وعالم الحس أو العالم الفيزيائي الذي نعيش فيه وإليه ينتمي الزمن كصور متحركة ترنو لعالم المُثُل، لكنها أيضًا مرتبطة بالعالم المادي وتغيراته المستمرة. وثق أفكاره بأن الزمن مجرد صور متغيرة لأفكار ثابتة وأبدية في عالم المُثُل، في كتاب محاورات طيماوس.
أما أرسطو، فقدَّم تصورًا أكثر تجريبية في كتابه الفيزياء، فالزمن هو مقياس للتغير أو الحركة، لأن الكون الساكن الذي لا يوجد فيه تغير لن يوجد فيه زمن. يراه أرسطو كمفهوم ذهني خاص بنا نحن البشر لتنظيم الأحداث المرصودة في عقل المشاهد. لذلك وجوده ليس مستقلًا عن العالم الفيزيائي، وهو مفهوم نسبي وليس مطلقًا.
ساد مفهوم الفيزياء الكلاسيكية عن الزمن باعتباره مفهومًا مطلقًا إلى أن جاء ألبرت آينشتاين ليغيِّر كل شيء
ثم مع قدوم عصر النهضة، تغيَّر مفهوم الزمن خاصة مع الفيلسوفين رينيه ديكارت وإيمانويل كانط. رأى ديكارت أن العقل البشري هو مصدر الفهم، وعبره يمكننا الحصول على حقائق هذا العالم. وفي ضوء ذلك فهم الزمن كتتابع للحظات مراقبة يدركها ويحللها العقل، لذلك فهو مفهوم ذاتي مرتبط بالعقل.
أما كانط الذي قدَّم فكرته عن الزمن في عمله العملاق نقد العقل المحض، فرآه إحدى الأدوات الرئيسية في تكويننا العقلي وليس مرتبطًا بالخبرات العملية، بل هو شرط قَبْلي/a priori لفهم العالم. أي أنه إطار ذهني نستخدمه لتنظيم الأحداث، وهو جزء من طريقة إدراكنا للعالم. كذلك يرى كانط أن هذا الإطار الذهني ضروري لمفهوم آخر، وهو السببية، فهو ينظم الأحداث زمنيًا وبالتالي يحدد الحدث "السبب" ويميزه عن الحدث "النتيجة".
تجارب الفيزيائيين
هذا في الفلسفة. أما في الفيزياء، فقد تطور مفهوم الزمن كثيرًا من وقت نيوتن حتى ظهور نظريات النسبية والكم. في البداية قدمت الفيزياء الكلاسيكية الزمن باعتباره مقياسًا مطلقًا للتغير ومستقلًا عن الأحداث الفيزيائية والمادة، ويمكن قياسه في كل مكان. كأنه نهر يتدفق بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون مخترقًا كل شيء ولا يؤثر فيه شيء، ما كان مفيدًا في وضع الأسس الفيزيائية لعلوم الديناميكا التي تدرس حركة وتغيُّر الأجسام الفيزيائية.
ساد ذلك المفهوم الحياة العلمية والفكرية في الغرب لقرون، وتناغم كذلك مع مفهوم المكان المطلق الذي قدمته فيزياء نيوتن. ظلَّ مفهوم الزمن المطلق هو أقوى مفهوم للزمن حيث منح الزمن وجودًا مستقلًا بذاته عن أي شيء آخر، إلى أن جاء ألبرت آينشتاين ليغيِّر كل شيء.
قدم آينشتاين في النسبية الخاصة والعامة مفهومًا أكثر تعقيدًا للزمن. ففي النسبية الخاصة عندما يقيس أحدٌ زمنَ حدثٍ معين، ومضة كشاف ضوئي بعيد وساكن مثلًا، فإن الزمن الذي قاسه لهذه الومضة يعتمد على سرعته هو. فكلما كانت سرعة الشخص أكبر كان الزمن الذي يرصده للحدث أبطأ مقارنة بزمن الشخص غير المتحرك، وهو ما يُعرف بظاهرة تمدد الزمن.
يجعل هذا الزمن مفهومًا نسبيًا، يعتمد على سرعة من يقيسه، ودُمِج الزمان والمكان معًا في نسيج واحد هو "الزمكان"، لعب فيه الزمن دور البعد الرابع الذي لا يمكننا فهمه بعيدًا عن الأبعاد الثلاثة الأخرى.
أما في النسبية العامة، فقد أوضح آينشتاين قدرة الكتل المادية الكبيرة مثل الأرض أو الشمس على التأثير في نسيج الزمكان حولها، ما يجعل الساعات القريبة من الأرض أو الشمس تتباطأ مقارنة بتلك البعيدة عنهما.
بالطبع يكون هذا التباطؤ صغيرًا جدًا على سطح الأرض ولا نلاحظه إلا بأدق الأجهزة. لكن أثر ذلك يظهر بوضوح أكثر في عمل أجهزة نظام التموضع العالمي/GPS التي ينبغي أن تضع هذا التباطؤ في حساباتها وإلا فلن نجد نتائج دقيقة في خرائط موبايلاتنا.
وهنا، من المفيد الإشارة إلى تأثر آينشتاين بفلسفة الفيلسوف والفيزيائي النمساوي إرنست ماخ (1838-1916) وقد كان تجريبيًا/empiricist متحمسًا، رأى أن المعرفة تأتي فقط عبر التجربة الحسية، ورَفَض وجود مفاهيم أو حقائق مطلقة في الفيزياء خارج نطاق التجربة.
يظهر هذا التأثر عندما عَرَّف آينشتاين الزمان في نسبيته الخاصة على أنه كل ما يقاس بساعة، وعرَّف المكان على أنه كل ما يقاس بمسطرة من نقطة مرجعية. كذلك كان لماخ تأثير كبير على آينشتاين في الطريقة التي صاغ بها مبادئ نسبيته العامة، وكيف أن خصائص الفضاء والزمن تعتمد على توزيع المادة في الكون.
أما ميكانيكا الكم، مُمثلةً في معادلة شرودينجر، فتتعامل مع الزمن مثلما تتعامل معه الفيزياء الكلاسيكية، كونه يُعبِّر عن التغيُّر في النظام الكمومي. لكن مع محاولات بعض الفيزيائيين دمج ميكانيكا الكم مع النسبية العامة، ظهرت مشكلات كبيرة في فهم الزمن والمكان كأشياء متصلة. فلا معنى لقياس مسافة أقل من طول بلانك متناهي الصِغَر، ولا معنى لقياس زمن أقصر من زمن بلانك متناهي القِصَر.
هذه المشكلات ومعها كذلك مشكلات أخرى ظهرت عند دمج النسبية العامة وميكانيكا الكم فيما يعرف بـنظرية الجاذبية الكمومية، دفعت بعض الفيزيائيين إلى الاعتقاد أن الزمان والمكان هما مفاهيم غير أساسية أو منبثقة/emergent concepts، أي أنها ليست أصيلة في النظريات التي يحلم الفيزيائيون ببنائها يومًا ما لوصف النظرية الجاذبية الكمومية. فإلى الآن لا توجد نظرية مكتملة تستطيع أن تقوم بهذا الدمج بين الجاذبية والكم بشكل خالٍ من التناقضات الداخلية، ولها تنبؤات واضحة يمكن اختبارها.
سهم الزمن والتجول فيه
من يَدرسُ فيزياءَ نيوتن أو ميكانيكا الكم أو النسبيةَ الخاصة يقابل شيئًا محيرًا؛ فجميع هذه النظريات الفيزيائية لا تعبأ بسهم الزمن، الاتجاه الذي قد يتحرك من الماضي للمستقبل أو قد يتحرك من المستقبل إلى الماضي! أي أنه ليس في فيزياء هذه النظريات الأساسية أي شيء يمنع عكس الزمن لاتجاهه فهي لا ترى ما نراه نحن كل يوم، أي سير الزمن في اتجاه واحد فقط من الماضي للمستقبل!
حيرت هذه المعضلة عددًا غير قليل من الفيزيائيين في القرن التاسع عشر لعدة عقود. لكن مع ظهور علم الديناميكا الحرارية اِقتُرِح تفسير يعتمد على القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي ينص على أن "الإنتروبي (وهي كمية تقيس مستوى الفوضى) في أي نظام معزول تزداد دائمًا أو تبقى على الأقل ثابتة". يعني ذلك أن الزمن يسير في اتجاه واحد وهو اتجاه ازدياد الإنتروبي، أي اتجاه ازدياد الفوضى، مما يفسر لنا وجود سهم الزمن.
نعم، أتعجب معك من أن الزمن يسير في اتجاه واحد فقط وهو ازدياد الفوضى!
طبيعة الزمن هذه، وأسئلته، نشطت مخيلة كثيرين بشأن إمكانية السفر عبر الزمن والتجول فيه. بعض هذه الخيالات موجودة في روايات وأفلام الخيال العلمي التي اكتسبت شعبية جارفة، وكثير من محبيها يتساءلون عن إمكانية التجول في الزمن؛ هل بإمكاننا أن نختال عبره؟
هنا علينا أن نُقسَّم السفر عبر الزمن إلى سفر نحو المستقبل وآخر في اتجاه الماضي، والأول تخبرنا الفيزياء أنه ممكن نظريًا بشكلٍ ما. فوفقًا للنسبية الخاصة؛ إذا كنتَ على متن مركبة تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء، وصناعة مثل هذه المركبة ليس مستحيلًا فيزيائيًا، فإن الزمن بالنسبة لك سيمر أبطأ من زمننا على الأرض. أي أنك عندما تعود إلى الأرض ستعود في المستقبل، لأن الزمن عليها مرَّ أبطأ من زمن مركبتك.
أما السفر إلى الماضي فهو يمثل ظاهرة فيزيائية أكثر تعقيدًا، وحتى الآن لا توجد دلائل واضحة تؤكد إمكانيته نظريًا من الناحية الفيزيائية. لكن هناك بعض النظريات التي تتناول السفر إلى الماضي عبر الثقوب السوداء وما نسميه الثقوب الدودية، وهي أنفاق في نسيج الزمكان تسمح بالسفر عبرها إلى الماضي.
لكن لا توجد حتى الآن أي أدلة تجريبية أو رياضية مقنعة تؤكد إمكانية ذلك. ربما تكون فكرة السفر للماضي غير متسقة داخليًا، المثال على ذلك هو ما يعرف بمفارقة الجد: إذا سافر شخص إلى الماضي وقتل جده قبل أن ينجب أحدًا، فإن هذا الشخص لن يوجد في المستقبل ليقوم بالسفر إلى الماضي، وهذا ما يولد تناقضًا داخليًا!
أشياء كثيرة عرفناها عن الزمن غيَّرت مفاهيمنا الأولية عنه. ومع ذلك، ظلت الكثير من الأسئلة بلا إجابات بل ووجدنا أمامنا أسئلة أكثر تعقيدًا. ولكن بالنسبة لبورخيس، فقد حسم لنفسه المسألة وهو يقول "ليس هناك وقت إلا الحاضر. الماضي هو مجرد ذاكرة، والمستقبل مجرد توقعات. الحاضر هو الزمن الوحيد الذي نعيشه".