
مراكز التميز العلمي.. ما الذي يُمكننا أن نتعلمه من الهند؟
في يوليو/تموز 2007، أصدر الرئيس الراحل حسني مبارك قرارًا بإنشاء "صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية"، ليتولى مهامًا على رأسها كفالة تمويل البحث العلمي والتنمية التكنولوجية، وتقييم مؤشرات العلوم والتكنولوجيا والأبحاث العلمية وبراءات الاختراع. وبعد 12 عامًا، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قانونًا بتغيير اسمه إلى "هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا والابتكار"، وتغيَّرت طبيعته ليصبح هيئة مستقلة يمكنها إنشاء شركات ومشروعات إنتاجية، وإن استمرت تبيعتها لوزارة البحث العلمي.
بشكل عام، تدعم الهيئة الأبحاث في شتى مجالات العلوم الأساسية والتطبيقية كالهندسة والطب والزراعة. لكنها تعتبر أكبر داعم للعلوم الأساسية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا)، باعتبارها قاطرة التقدم العلمي والإبداع التكنولوجي. تُقدَّر ميزانية هيئة تمويل العلوم والتكنولوجيا بنصف مليار جنيه مصري، ما يجعلها أكبر مؤسسة داعمة للأبحاث العلمية والتكنولوجية في البلاد.
برزت فكرة إنشاء مراكز التميز العلمي التي اتّبعت هذه الهيئة نموذجها، بعد الدمار الذي خلَّفته الحرب العالمية الثانية في أوروبا. لم تكن إعادة الإعمار هي التحدي الأكبر الذي واجهته دول القارة العجوز التي خرجت لتوّها من حرب مُدمّرة؛ بل إعادة إحياء الروح العلمية بعد انهيار المجتمع العلمي، وبالذات في ألمانيا.
في هذا السياق، أصبحت هذه المراكز أدوات فعالة لبدء وتحقيق نهضة علمية، انطلاقًا من أن الدولة إذا لم تكن قادرة على توفير التمويل اللازم من مبانٍ ومختبرات وأجهزة متقدمة لجميع الجامعات والمراكز البحثية في آن واحد، فسيكون بمقدورها تركيز هذا الدعم في عدد محدود من المؤسسات، تصبح منارات لنشر المعرفة العلمية وعدد من العلوم المتقدمة.
تُدرّب هذه المراكز كوادرَ علميةً على أعلى مستوى عالمي، مما يرفع من جودة البحث العلمي والإنتاج المعرفي لعلماء الدولة. بعد عقود قليلة، تُوزَّع هذه الكوادر على المؤسسات الأكاديمية والبحثية، لإنشاء مجموعات بحثية متميزة تكون نواةً لمجتمعٍ علميٍّ قابل للازدهار.
وبالفعل ساعدت هذه المراكز عددًا من الدول الأوروبية في النهوض ثانية بعد انهيارها، وكررتها لاحقًا وبنجاح دول نامية في القرن الماضي مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية. في هذه التجارب، اهتمت الدول بإنشاء مراكز تميِّز علمية قليلة للأبحاث والدراسات المتقدمة في فروع علمية وتكنولوجية مختلفة، مع التركيز بشكل خاص على العلوم الأساسية.
من أمثلة هذه المراكز جمعية ماكس بلانك في ألمانيا، ومعهد نيلز بور في الدنمارك ومؤسسة تاتا للعلوم الأساسية في الهند. وجميعها ركزت بوضوح على بحوث العلوم الأساسية وتوفير مختبرات عالمية للمتميزين من أبناء الوطن أو للمهاجرين المتميزين علميًا. أظهرت هذه المراكز أن الاستثمار في العلوم الأساسية أكثر ربحية على المدى الطويل؛ فهو يولِّد ابتكارات غير متوقعة، ويقدم حلولًا لتحديات معقدة، ويخلق فرصَ عملٍ جديدةً، بل شركات مؤسسة على تكنولوجيات حديثة.
قاعدة الهرم العلمي
ينظر كثيرون إلى العلوم الأساسية باعتبارها علومًا أكاديمية أو "ترفيهية"، لا علاقة لها بالواقع والتطبيقات التكنولوجية. ولكن في حقيقة الأمر؛ فالإنتاج التكنولوجي لأي مجتمع هو قمة "جبل الجليد" أو "الطبقة العليا" لسلسلة من العمليات أو الطبقات العلمية.
الطبقة الأكبر والأهم هي طبقة العلوم الأساسية التي تعمل كمخزن معرفي ضخم، تُجمع فيه كل معارفنا عن الظواهر الطبيعية والعالم المادي والحيوي. هذا المخزون هو مصدر أفكار كل الاختراعات والابتكارات التكنولوجية والهندسية والطبية الجاذبة للاستثمارات، وبدونه لن تعرف الإنسانية عن العلم شيئًا!
الطبقة الثانية تتكون من العلماء التجريبيين والتطبيقيين الذين يُحوِّلون هذه الظواهر إلى تطبيقات عملية عبر أجهزة تجريبية أولية. كلما زاد عدد هؤلاء العلماء النظريين والتطبيقيين، زادت قدرة المجتمع على إنتاج ابتكارات جديدة.
أما الطبقة الثالثة فتشمل المهندسين والفنيين الذين يحولون التجارب العلمية والأجهزة التجريبية إلى أجهزة قابلة للاختبار والإنتاج. والطبقة الرابعة هي طبقة التصنيع، حيث تتحول الأجهزة المختبرة إلى منتج تجاري يُصنَّع ويُباع في الأسواق للمستهلك.
يعني ذلك أن فهمنا للعلوم الأساسية وظواهرها هو أساس كل ما نراه من رفاهية حولنا، فأبحاث علم الأحياء هي التي قادت إلى اكتشاف البنسلين كمضاد حيوي. ولولا دراسة الظواهر الحرارية في الفيزياء لما اختُرعِت المحركات البخارية وأجهزة التبريد. أما دراسة الظواهر الكهربائية والمغناطيسية في الفيزياء، فهي التي جعلتنا نكتشف الكهرباء وتطبيقاتها التي أسست لحضارتنا الحديثة.
وتؤكد عدة إحصائيات وجود علاقة وثيقة تربط عدد أبحاث العلوم الأساسية لدولة ما بقوتها الاقتصادية. ومن هنا نُدرك أن النهضة العلمية ليست فيما نرى ونستخدم من تطبيقات واختراعات، بل في العلوم والمعارف الأساسية التي يُنتج تراكمُها هذه الرفاهية، ويفتح الأبواب أمام تقنيات جديدة وابتكارات لم نكن نتصور وجودها من قبل.
مؤسسة تاتا للبحوث الأساسية
ركزت مؤسسة تاتا للبحوث الأساسية منذ تأسيسها في الهند قبل استقلالها بسنتين، عام 1945، على العلوم الأساسية بدلًا من التطبيقات الفورية. لم تكن مجرّد مؤسسة تعليمية أو بحثية، بل إحدى الأعمدة التي قامت عليها النهضة العلمية بعد الاستقلال، وتركت تأثيرًا عميقًا وممتدًا على مكانة الهند في المشهد العلمي العالمي.
وبفضل رؤية مؤسسها الدكتور هومي ج. بهابها الثاقبة، بأن التقدم التكنولوجي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون قاعدة قوية من المعرفة الأساسية، كانت للمؤسسة مكانة فريدة كمركز للعلم الخالص، تجذب أفضل العقول للعمل فيها. وتجاوز دورها مجرد إجراء الأبحاث إلى كونها "بيت خبرة" يُخرِّج أجيالًا من العلماء المتميزين في الهند.
يجب على الدولة أن تكون سخية العطاء لهذه المراكز ودعم علمائها
ومن خلال برامجها للدراسات العليا، درَّبت المؤسسة آلاف الباحثين الذين أصبحوا فيما بعد قادة في مجالاتهم، سواء في مؤسسات بحثية أخرى، أو في قطاعي الصناعة والتكنولوجيا بالهند. هذا الجيل من العلماء هو الذي ساهم في إطلاق برامج الهند النووية والفضائية، التي تعتبر من أهم إنجازات البلاد.
ورغم تركيزها على العلوم الأساسية؛ امتد تأثير المؤسسة أيضًا إلى التكنولوجيا التطبيقية. على سبيل المثال، بَنَت في عام 1957 أول حاسوب رقمي في الهند، وهو "TIFRAC". هذه الخبرات التي تراكمت من خلال الأبحاث الأساسية مهدت الطريق لاحقًا لتأسيس منظمات مثل منظمة أبحاث الفضاء الهندي/ISRO.
وفي العقود الأخيرة، كثف معهد تاتا من شراكاته مع شركات التكنولوجيا والشركات الخاصة، مثل التعاون مع Agilent Technologies، لتأسيس مراكز بحثية في مجالات مثل التمثيل الغذائي وصحة الإنسان. هذه الشراكات تهدف إلى سد الفجوة بين الأبحاث الأساسية والتطبيقات السريرية والصناعية، مما يساهم في حل مشكلات حقيقية تواجه المجتمع الهندي.
جمعية ماكس بلانك
أما إذا ذهبنا إلى ألمانيا خلال نفس الحقبة الزمنية؛ منتصف الأربعينيات، حيث تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها ويُقسَّم البلد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ويُعاد بنائه، سنجد أن التركيز وخاصة في مشروع مارشال، الذي موّلت من خلاله الولايات المتحدة عملية إعادة إعمار دول أوروبا الغربية التي دمّرتها الحرب، انصبَّ على المباني والمنشآت والبنى التحتية، ولم يدعم البحث العلمي أو حتى إنشاء الجامعات.
لذا؛ كان تأسيس جمعية ماكس بلانك بعد حل جمعية القيصر فيلهلم التي كانت المركز العلمي للرايخ الثالث، قرارًا ألمانيًا صرفًا، ونجح بعد عقود من العمل المضني في إعادة ألمانيا ثانية للصدارة في العديد من المجالات العلمية والتكنولوجية حيث قام بتخريج علماء متميزين انتشروا ليس فقط في ألمانيا، بل في عدد كبير من الدول الغربية.
لم تكن عودة ألمانيا العلمية لتتحقق لولا وجود قيادات فكرية ملهمة مثل فيرنر هايزنبرج، الذي كان في مقدمة المساهمين في إعادة بناء الجمعية على أنقاض سابقتها المرتبطة بالنازي، بصفته أحد مؤسسي الجمعية ومديرها في خمسينيات القرن الماضي.
قاد هايزنبرج الحائز على نوبل عملية تحول شاملة، مؤمنًا بأن التركيز على العلوم الأساسية هو الطريق الوحيد لاستعادة بناء المجتمع العلمي الألماني. عمل على تجديد الروابط مع زملائه السابقين حول العالم، وشارك بفاعلية في المؤتمرات الدولية، ليصبح رمزًا للالتزام وإعادة البناء عبر العلم.
نجحت الجمعية في استقدام مجموعة من أبرز العلماء الدوليين، بما قدمته لهم من تسهيلات ودعم تكنولوجي ومالي كبير، لتصبح بوتقة فكرية عالمية. وشارك عدد من المشتغلين فيها في بناء صروح أوروبية أخرى مثل المنظمة الأوروبية للبحوث النووية/CERN، التي تدير أكبر وأدق تجارب علمية على الأرض منها مصادمات الجسيمات العملاقة/large hadron colliders. لم تكن هذه التجارب ممكنة لولا الأبحاث التأسيسية التي قامت بها جمعيات مثل ماكس بلانك وغيرها في أوروبا والتي أثمرت عن اكتشافات غيرت فهمنا للكون.
ما الذي بإمكاننا تعلّمه؟
هنا في مصر يمكننا أن نستلهم دروسًا عميقة من هذه التجارب الثرية التي تؤكد أن طريق النهضة العلمية يمر حتمًا عبر الاستثمار في العلوم الأساسية، التي تعظم وتغذي الابداع والابتكار وتفتح آفاقًا جديدة للمعرفة.
لكن ينبغي لهذه المراكز المتميزة أن تكون كيانات مستقلة بذاتها تتبع رئاسة الوزراء مباشرة، ولا تُقيَّد بسلاسل البيروقراطية الحكومية. وأن تُمنَح استقلالية كاملة في جذب أفضل العقول المصرية من الداخل والخارج، وتقديم بيئة بحثية تنافس أرقى المعاهد العالمية.
ولا يمنع أن تضم هذه المراكز مجالات تطبيقية ذات أولوية وطنية مثل الطاقة المتجددة أو الذكاء الاصطناعي، ولكن على أساس متين من بحوث العلوم الأساسية.
لكن الخطوة الأكثر أهمية، والتي غالبًا ما نفتقدها في بلادنا، هي اختيار الإدارة العلمية لهذه المراكز. يجب أن يتم بعناية اختيار باحثين مرموقين لإدارتها، لا مَن يمّرون مِن اختبارات الولاء بغض النظر عن إنتاجهم العلمي. ينبغي أن يقود هذه المعاهد عالمات وعلماء مُلهمين، لا يكتفون بالبحث، بل يستطيعون أيضًا صياغة السياسات وبناء المستقبل. تأخذ هذه الإدارة العلمية على عاتقها تعيين أساتذة متميزين عالميًا في مجالاتهم البحثية، ولدينا من هؤلاء الكثيرين في مصر.
يجب على الدولة أن تكون سخية العطاء لهذه المراكز لتوفير المختبرات والحاسبات وجميع التجهيزات العلمية لها. كذلك دعم علمائها ماليًا لحضور المؤتمرات وورش العمل لمناقشة إنتاجهم العلمي مع العلماء الآخرين والعودة لمراكزهم بأفكار وتعاونات بحثية جديدة.
باختصار، تمثل هذه المراكز المتميزة نموذجًا ناجحًا لمؤسسات النهضة العلمية فقد كان تأثيراتها متعددة الأبعاد، تضع حجر الأساس لأي نهضة علمية، وتُقدّم أجيالًا من العلماء والقادة، وتساهم مباشرة في المشاريع التكنولوجية الكبرى.