جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) وقت الإنشاء، في العشرينيات.

مصر 1946: طموح علمي لم يستمر

كان لدينا جامعات تنافس عالميا وأبحاث علمية رائدة

منشور السبت 10 يونيو 2023 - آخر تحديث السبت 10 يونيو 2023

الصدفة وحدها وضعت في طريقي مقالًا يرجع تاريخه إلى عام 1946. المقال منشور في الأصل على صفحات مجلة نيتشر، واحدة من أعرق الدوريات العلمية على الإطلاق وأكثرها تأثيرًا، والموضوع هذه المرة هو مصر.

ما أثار فضولي بالتحديد، لأسباب تمزج بين الشخصي والعملي، أن موضوع المقال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع العلمي المصري في تلك اللحظة. أمدني المقال ببعض المعلومات المهمة عن طبيعة المجتمع في تلك الفترة، وهي معلومات لم أكن أعرفها رغم عملي كأكاديمي في مجال العلوم لمدة تتجاوز الثلاثين عامًا. من هنا جاءت الملاحظات التالية.

يعطينا المقال صورة ممتازة عن المستوى التعليمي والبحثي المرتفع الذي وصلت إليه العلوم في مصر، سواء كنا نتحدث عن رياضيات أو علوم فيزياء وكيمياء وبيولوجيا وجيولوجيا. كل ذلك بعد عشرين عامًا فحسب من إنشاء جامعة القاهرة، أو جامعة فؤاد الأول حسبما كانت تسمى وقتها.

كان لدينا إذًا تعليم رفيع وعمل جاد أنجزه الأكاديميون بكلية العلوم، وكان مستواها لا يقل عن أي جامعة أوروبية

يحمل المقال عنوان العلم في مصر/Science in Egypt وهو تقرير عن حال العلوم في مصر، والكاتبان هما اسمان ملآ السمع والبصر في تلك الفترة من الزمن. الأول هو واحد من أهم العلماء المؤسسين لميكانيكا الكم (فيزياء العالم الصغير من ذرات وجزيئات)، ماكس بورن Max Born، أما الآخر فهو عالم النباتات الإنجليزي المعروف، ليونيل بريمبل Lionel Brimble، والذي ترأس تحرير هذه الدورية، أي نيتشر، بين عامي 1941 و 1965، وكان عضوًا في الجمعية الملكية للعلوم في إدنبرة.

قادني ذلك المقال إلى مقال آخر نُشر في المجلة نفسها للدكتور علي مصطفى مشرفة، عالم الفيزياء النظرية المصري، يُعلن فيه عن إنشاء أكاديمية للعلوم المصرية 1945، ويشرح أسباب إنشائها. ويمكنني القول إن محتوى المقالين معًا، يكوّنان صورة واضحة عن المجتمع العلمي المصري، ومقاييسه التعليمية والمهنية، بل حجم إنتاجه البحثي ونوعيته.

صورة من تقرير مجلة نيتشر

كيف كان العلم وقتها؟ 

تملأ هذه المقالات فراغًا معرفيًا هائلًا حول تلك الفترة، إذ لا أعرف دراسةً، أو كتابًا جادًا، يتناول تطور المجتمع العلمي المصري، ومدى جودة أبحاثه، أو مستوى تدريس العلوم فيه.

وينطبق ذلك على جيلي من الأكاديميين، الذين تخرجوا في أواخر الثمانينيات، فما نعرفه عن العلوم في تلك الفترة مشوّش إلى درجة كبيرة. وأحد أسباب ذلك هو الانقطاع المعرفي الواضح بيننا وبين جيل أربعينيات القرن الماضي، إلى جانب ما طرأ من تغيير على النظام الجامعي منذ أواخر الخمسينيات.

ومن المثير للاهتمام، أننا نجد في المقابل عددًا من الدراسات والكتابات المتميّزة التي تؤرخ للمجتمع الأكاديمي في مجال العلوم الإنسانية، وتقدم لنا صورة أكثر وضوحًا عن تطوّر تلك المجالات العلمية وقضاياها ونشاطاتها في الفترة نفسها.

في السطور التالية أستعرض ملخصًا للأجزاء التي تتناول العلوم في مقال بورن وبريمبل، وإن كان يجب التنويه أن المقال الأصلي يتضمن وصفًا لتطور مجالات أخرى، مثل الزراعة والري. 

دعوة إلى مصر

تلقى المؤلفان دعوة لإلقاء محاضرة في مصر، في فترتين زمنيتين، بين فبراير وأبريل من عام 1946. تحمسا على الفور وأعلنا رغبتهما في عرض وصف مختصر لحالة العلوم في المملكة. ويشير المؤلفان في بداية المقال إلى أن الجامعة الجديدة التي أنشأت عام 1925، تتضمن الآن كليات الآداب والعلوم والقانون والتجارة والهندسة والطب، إلى جانب الزراعة والطب البيطري، وأن معظم هذه الكليات تقع داخل الحرم الجامعي في الجيزة وفي الطريق للأهرامات.

انتقدا وجود مبان لكلية العلوم تَبعد عن الحرم الرئيسي في قصر الزعفران في العباسية، واعتبراه أمرًا غير مناسب للطلبة

ويصفان القاعة الرئيسية للجامعة بـ"الرائعة"، ثم يأتيان على ذكر المساحات الخارجية المعتنى بها جيدًا، التي يَندر وجودها في معظم جامعات أوروبا، بحد وصفهما. ويبديان إعجابًا واضحًا بقاعات المحاضرات في الكليات، والمعامل المختلفة، والمكاتب الإدارية ذات التصميم الذي "يعبر عن ذوق ممتاز".

يذكران مساحات وأماكن لممارسة الرياضة وحمامات للسباحة، كلها مصممة جيدًا، لكنهما انتقدا وجود مبان لكلية العلوم تَبعد عن الحرم الرئيسي في قصر الزعفران في العباسية، واعتبراه أمرًا غير مناسب للطلبة، قبل أن يستدركا ويصفان الوضع بالـ"مؤقت"، ريثما يكتمل بناء كلية العلوم كاملة داخل الحرم الرئيسي.

حرص المؤلفان على ذكر أعلام الجامعة من الأساتذة وكذلك انطباعاتهم عنهم: مدير الجامعة الدكتور علي إبراهيم باشا(1)، الجراح المعروف الذي لعب دورًا مهمًا في النهوض بحال الجامعة، وعميد كلية العلوم الدكتور علي مصطفى مشرفة باشا، أستاذ الرياضيات التطبيقية وأول فيزيائي نظري مصري، والذي يملك أبحاثًا منشورة في النظرية النسبية، إذ وصفاه بـ"العميد الذي يملك براعة إدراية وتنظيمية، ويعزو إليه، وأكاديميون آخرون في البلاد تطوّر الجامعة ونموّها".

عن كلية العلوم

يقول المؤلفان إن أحدهما، غالبًا بريمبل، جاء إلى الجامعة ممتحنًا خارجيًا للطلبة المصريين في سنواتهم الأخيرة في أحد أقسام كلية العلوم. وأن جميع الممتحنين الخارجيين لطلبة الأقسام الأخرى كانوا أكاديميين بريطانيين، طُلب منهم اختبار الطلبة المصريين بالطريقة نفسها التي يتبعونها في جامعاتهم، للحفاظ على مستوى خريجي الجامعة المصرية.

ومن خلال تلك الفكرة، يصرح المؤلفان أنه كان يمكن مقارنة مستوى أقسام كلية العلوم وطلابها مع نظيراتها في الجامعات البريطانية، بل أن نقول إن طلاب الجامعة المصرية كانوا على نفس مستوى نظرائهم في جامعة أدنبره مثلًا، وهي شهادة تميّز لم أتوقعها أبدًا.

كان لدينا إذًا تعليم رفيع وعمل جاد أنجزه الأكاديميون بكلية العلوم، وكان مستواها لا يقل عن أي جامعة أوروبية. وفي ذلك وحده شهادة لمدى التطور السريع الذي طرأ على مؤسسة حديثة، عمرها عشرون عامًا فحسب.

أساتذة متميزون في أقسام الجامعات

يستكمل الباحثان الإشارة للقيادات وهيئة التدربس، فيذكران رئيس قسم الرياضيات البحتة الدكتور محمد مرسي أحمد(2)، الذي حصل على الدكتوراه تحت إشراف عالم الرياضيات الشهير إي. تي. وايتاكر E.T. Whittaker في جامعة أدنبره، والذي كون أحد أهم مدارس الرياضيات في بريطانيا آنذاك. وفي القسم نفسه نجد دكتور Edward Ince إدوارد أينس(3)، أحد الرياضيين المعروفين.

وكان أكبر قسم في كلية العلوم هو قسم الكيمياء، الذي كان يديره الدكتور أ. شوينبرج A. Schoenberg، الكيميائي المعروف. ويحتوي القسم على عدد من البرامج البحثية، منها الكيمياء الضوئية، إلى جانب أبحاث أخرى تجري بالتعاون مع أقسام البيولوجي، وكلية الزراعة (مع دكتور أحمد غنيم). وكان هناك أساتذة آخرون مثل إي. جراي/E. Grey، و د. بنجهام/D. Bangham، وأحمد زكي بك(4).

أما قسم الفلك فكان يدّرس به الدكتور محمد مدور(5) الذي يدير أيضًا مرصدًا فلكيًا بالقرب من حي حلوان، وهو مرصد تابع للحكومة المصرية ويتم التخطيط الآن، عام 1946، لبناء مرصد فلكي أكبر في حلوان.

ذكر المؤلفان نشاطات أقسام الحيوان والنبات والجيولوجيا البحثية، التي ينفذها عدد من الأساتذة الأجانب والمصريين. فمثلًا في قسم النبات يُجري عدد من المحاضرين والمعيدين أبحاثًا في مجالات فسيولوجيا النبات، وعلم التشكل وعلوم التصنيف والفطريات.

وجدير بالذكر، أن لأستاذ علم النبات جونار تاكهولم/Dr. Gunnar Tackholm، أبحاثًا سابقه كان أجراها مع زوجته (السيدة تاكهولم) عُنيت بوضع تقارير شاملة عن الحياة النباتية في مصر، وهو مشروع كبير ومهم نتج عنه سلسلة من الأبحاث بعضها نشر في نيتشر لاحقًا. ويكرس قسم علم الحيوان كذلك كثيرًا من اهتمامه لعلم الحيوان التجريبي، إضافة إلى أبحاث علم التشكل والتشريح والتصنيف التي يقوم بها أعضاء القسم.

وينهي المؤلفان مقالهما مؤكدين "أن تقدم العلم في مصر جاد وواضح وسريع"، وأنهما يلاحظان "وجود اهتمام عميق به في هذه الدولة".

مصطفى مشرفة وإنشاء أكاديمية العلوم

نشر الدكتور مصطفى مشرفة مقالًا في مجلة نيتشر، في مايو عام 1946، أعلن فيه عن إنشاء أكاديمية للعلوم المصرية، وهو قرار جاء نتيجة نمو المجتمع العلمي المصري، من جمعيات علمية متخصصة في كافة العلوم، إلى جانب زيادة الإنتاج البحثي في مصر.

ذكر المقال أيضًا أن عدد الأبحاث التي نشرت من كلية العلوم فقط خلال الفترة من 1925 إلى 1945 زاد عن 500 بحث، منهم 350 بحثًا نشروا في مجلات أوروبية، ومن بينهم 200 بحث في مجلات بريطانية.

من المهم هنا أن نلاحظ أن عدد أساتذة كلية العلوم لم يزد في تلك الفترة عن أستاذين(6) لكل قسم من الأقسام في المتوسط، أي أن هذا العدد من الأبحاث يعبر عن نشاط بحثي حقيقي، بمتوسط 2-3 أبحاث للأستاذ سنويًا، وأن نشر ثلثي هذه الأبحاث في مجلات غربية ينبئ عن تميز البحث العلمي نوعيًا. 

أسئلة لا مفر من طرحها

الخلاصة، هي أن بداية ذلك المجتمع العلمي الناشئ كانت قوية وجادة، فالحياة العلمية وقتها كانت غنية بالفعل، مثلما رأينا في المقالين.

السؤال الذي يجب علينا طرحه، بعيدًا عن جلد الذات والأسى عليها، هو ما الذي حدث؟ كيف وصلت الجامعات المصرية إلى ما هي عليه الآن؟

يمكننا بالطبع تحليل أسباب تراجع مستوى الجامعات المصرية، وفهم هذه الأسباب، وهي قضية مهمة يتوجب دراستها بعمق كي نعرف طريقة رفع مستواها مرة أخرى. لكنني أود هنا طرح بعض الأسئلة التي ربما تمهد لنقاشات مستقبلية أو تسلط الضوء على بعض النقاط.

هل نؤمن حقًا كمجتمع أن طريقنا لمستقبل جيد يمر بتعليم جيد؟

هل يمكن أن نصبح جزءًا من اقتصاد العالم دون أن نكون فاعلين فيه فكريًا وتكنولوجيًا وعلميًا؟

هل نستطيع تغيير التعليم الجامعي بالمخصصات المالية نفسها، ومستوى الأستاذ الجامعي الموجود الآن؟

هل يمكننا تخصيص ميزانيات حقيقية للكليات العملية، كاستثمار في مجالات العلوم، والطب، والزراعة، والهندسة؟

كيف نُبقي على أعضاء هيئة التدريس المتميزين في وجود جامعات خاصة وإعارات ومرتبات متدنية؟

هل نظام التعيين للمعيدين في جامعاتنا مناسب لمنظومة حديثة، خاصة بعد أن تخلصت كل جامعات العالم منه؟

يعتمد نظام التعليم الجامعي على التعليم الأساسي، فهل نستطيع تطوير التعليم الأساسي بالمخصصات المالية نفسها ومستوى المعلم الموجود الآن؟

هل طرق تحديث التعليم الأساسي والجامعي التي تنفّذ في جامعاتنا تعتمد على خبراء تعليم أم موظفين مخلصين؟

هذه الأسئلة وغيرها تصب في النهاية في طريق بناء لا مجتمع علمي نشيط في مصر فحسب، بل مجتمع مبني على المعرفة، يملك مكانه الطبيعي بين شعوب هذا الكوكب. 


هوامش:

  1. دكتور علي إبراهيم: جراح مشهور، وأول عميد مصري لكلية طب القصر العيني، أصبح بعد ذلك وزيرًا للصحة من 1940-1941، وأسس كل من الجمعية الطبية المصرية، ونقابة الأطباء المصرية 1940. 2. دكتور محمد مرسي أحمد: عالم رياضيات، أسس أحد أهم مدارس الرياضيات، وعين عميدًا لكلية العلوم 1956، ثم مديرًا لجامعة عين شمس 1961، وجامعة القاهرة 1967، ثم وزيرًا للتعليم 1971. 3. دكتور إدوارد أينس: هو أحد الرياضيين المتميزين، أجرى أبحاث عدّة في المعادلات التفاضلية، وله مرجع مهم في المعادلات التفاضلية كتبه عندما كان يعمل في الجامعة المصرية 1926، ولا زال يستخدم حتى الآن. 4. دكتور أحمد زكي: كيميائي مصري. أنشأ ما عرف بعد ذلك بالمركز القومي للبحوث1947، وأسس الجمعية الكيميائية المصرية 1938، وعين رئيسًا لجامعة القاهرة 1952، وأنشأ مجلة العربي الثقافية في الكويت 1958. 5. دكتور محمد رضا مدور: هو أحد مؤسسي علم الفلك الحديث في مصر، تخرج في كلية الهندسة جامعة أدنبره وعمل كمهندس لعدة سنوات في بريطانيا ومصر، ثم قرر دراسة الفلك وحصل على منحة للدكتوراة من جامعة أدنبره 1926، ثم عاد ليعمل في مرصد حلوان الذي تولى إدارته بعد ذلك. أيضًا هو أحد مؤسسي الأكاديمية المصرية للعلوم، وعدد من الجمعيات العلمية المصرية. 6. يذكر دونالد مالكوم ريد في كتابة "دور الجامعة المصرية في بناء مصر الحديثة"، جدول #9 ص 158، أن عدد أساتذة كلية العلوم عام 1929 كان 7 أساتذة فقط.