كغيره من آلاف الخريجين من الجامعات المصرية، تقدم يوسف مكاوي* عقب تخرجه للالتحاق ببرنامج الماجستير في كليته، في الوقت ذاته الذي كان يتقدم فيه بأوراقه للالتحاق بالخدمة العسكرية. أراد بذلك استكمال دراساته العليا التي قد تُحسّن فرصته في الحصول على وظيفة مناسبة عقب انتهاء تجنيده، فضلًا عن شغفه بالبحث العلمي، ورغبته استكمال دراساته.
لم يكن يوسف معينًا في الهيئة المعاونة لأعضاء هيئة التدريس، ولذلك وجب عليه الالتزام بسداد المصروفات الدراسية المقررة للدراسات العليا، حتى يتمكن من الالتحاق بالماجستير، ولكن الكلفة كانت أعلى مما تصور.
تل مصروفات
يقول يوسف إن إجمالي التكاليف التي تحمّلها منذ لحظة تسجيله في السنة التمهيدية للماجستير وحتى وقت مناقشة الرسالة بلغت قرابة الأربعين ألف جنيه.
ما يقوله يوسف ليس من قبيل المبالغة، نظرًا للارتفاع المتكرر في مصروفات التسجيل بالدراسات العليا، التي تختلف من كلية ومن جامعة لأخرى، بصورة لا يبدو أنها محكومة بأية قواعد قانونية، ومتروكة بالكامل لتقدير إدارة الكلية. بالإضافة إلى أن تكاليف الدراسات العليا لا تقتصر على مصروفات التسجيل الرسمية، ولكن هناك تكاليف ورسوم متعددة يُطالَب بها الباحث خلال سنوات دراسته.
تبلغ تكلفة الالتحاق بالسنة التمهيدي لبرنامجي الماجستير والدكتوراه بإحدى كليات العلوم الاجتماعية المرموقة تسعة آلاف جنيه مصري، وتبلغ تكلفة تسجيل رسالة الدكتوراه 13 ألف جنيهًا، بينما تبلغ تكلفة تسجيل رسالة الماجستير تسعة آلاف. هذا فضلًا عن مصروفات إجمالية عن السنوات كلها تُدفع قبل المناقشة، تبلغ حوالي ثلاثة أو أربعة آلاف جنيه. إلى جانب رسوم خاصة لتشكيل لجنة لمناقشة الرسالة تبلغ 1500 جنيه للماجستير، وألفي جنيه للدكتوراه.
هذا إلى جانب تكاليف شراء المراجع أو الحصول على الأبحاث العلمية المنشورة في المجلات المرموقة، التي تتطلب اشتراكات. فالجامعات المصرية لا توفر لطلابها اشتراكًا مكتبيًا للحصول على الأبحاث المنشورة دوليًا.
ورغم إنشاء الحكومة مؤخرًا بنك المعرفة المصري، الذي يسعى لتوفير هذه المواد للباحثين المصريين، فقواعد البيانات التي يمكن لهم الوصول إليها عن طريقه لا تزال محدودة، وتحتاج للكثير من التطوير.
غير أن مصروفات أخرى غير معلنة تفاجئ الباحثين. يروي يوسف أن كليته وضعت شرطًا قبل المناقشة أن ينشر جزءًا من رسالته في المجلة العلمية الخاصة بالكلية، لكنه فوجئ بأن نشر بحث في مجلة الكلية يستلزم دفع 1500 جنيه، بحجة تغطية تكاليف المحكِّمين للمجلة.
عبء إضافي
بالنظر إلى كون كثير من طلاب الدراسات العليا من غير المعينين بالجامعات، ومن حديثي التخرج الباحثين عن وظيفة، فإن ارتفاع تكاليف الدراسات العليا يُعد عقبة كبيرة أمامهم.
ليتمكن يوسف من توفير تكاليف التسجيل في الماجستير لجأ للحيلة المشهورة بين المصريين وهي الجمعية أو الادخار التشاركي بين الأهالي، الذي يعتبر في هذه الحالة نوعًا من الاستدانة والسداد بالتقسيط، ولكن دون فوائد.
في إحدى مجموعات الدراسات العليا على فيسبوك وقعت مناقشة حول المصروفات وأعباءها، وصفت إحدى الطالبات ارتفاع التكاليف بـ "العقبة الكبرى"، وأنه تسبب في تأجيل حصولها على الدرجة لمدة تزيد عن العامين. وقال آخر إنه امتنع عن استكمال الدكتوراه لأن ذلك كان يكلفه 20 ألف جنيه سنويًا!
ولائم إجبارية
ولأغراض العرف المجتمعي بالأكاديميا المصرية، يُضطر الباحثون لتحمل تكاليف شراء الورود والعصائر ووجبات للمناقشين والضيوف. وتختلف قدراتهم في توفير هذه المظاهر بحسب مواردهم والطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها.
على جروب فيسبوك قالت طالبة اختارت تجهيل هويتها في البوست/Anonymous User، إن تكاليف مناقشة الماجستير وصلت إلى 8500 جنيه. منها حجز قاعة المناقشة الذي يصل إلى 1500 جنيه، ووجبات غداء للمشرفين والمحكمين واثنتين من زوجات المشرفين في حدود 2500 جنيه. وحجز تذاكر للتحكيم الخارجي ذهاب وعودة في حدود 500 جنيه، مع احتمال أن يطلب المحكمون من خارج المحافظة حجز إقامة فندقية لليلة.
وأشارت الباحثة إلى تحمُّل الطلاب لتكاليف انتقال أعضاء لجنة المناقشة، إذا كانوا من محافظات بعيدة، وهو الأمر عينه الذي طُلب من الباحث يوسف مكاوي.
في مقاله المعنون بـ"مجاملات الماجستير والدكتوراه" المنشور بأخبار اليوم مؤخرًا، يشير الدكتور رفعت فياض إلى هذه الأزمات قائلًا "أقر وأعترف أن مظاهر المجاملات والمحسوبية فى توزيع وتحكيم الرسائل العلمية بين كثير من زملاء التخصص بمختلف الكليات، والولائم الفاخرة التى يتم إجبار الباحثين على إعدادها للمناقشين والمشرفين على هذه الرسائل يوم المناقشة قد أصبحت ظاهرة واضحة وخطيرة فى كل الجامعات بلا استثناء".
ويشير الكاتب إلى أن استقدام المُحكمين الخارجيين من محافظات بعيدة لمناقشة الرسائل العلمية يُعد من باب "المجاملات المتبادلة "بين كثير من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية؛ وذلك "نظير عوائد مادية مشروعة وغير مشروعة"، بحسب نص المقال.
وينقل فياض مقترحات لإصلاح هذه الأوضاع قدمها أحد أساتذة الجامعات في مصر، وتتضمن "تخصيص ميزانية من مصروفات طلاب الدراسات العليا للإنفاق على نقل وضيافة المحكمين وكذلك إقامتهم إذا تطلب الأمر ذلك... وبالتالى نرحم الباحث من عملية الابتزاز أو الرشوة المقنَّعة".
الكليات العلمية.. ورطة أكبر
تتضاعف المشكلة في الكليات والأقسام ذات الطبيعة العلمية؛ مثل الكيمياء والأحياء وغيرها. حيث تتطلب عملية إجراء البحوث في هذه الأقسام تكاليف إضافية مثل إيجار المعامل، أو الحصول على عينات للبحث وإجراء التجارب وغير ذلك، وهي تكاليف كبيرة لا توفِّر الكليات في كثير من الأحيان الدعم المالي للباحثين من أجل إجرائها.
وعلى صعيد كليات الطب، تعد أزمة ارتفاع مصروفات الدراسات العليا للأطباء حديثي التخرج من أكبر العقبات أمام تطور مسيرتهم المهنية؛ حيث أن إتمامها للعاملين بالمهن الطبية أمر لا مفر منه من أجل تحديد التخصصات الطبية الدقيقة لهم، وبالتالي يمثل الارتفاع المتتالي في المصروفات أحد أهم المشكلات التي تواجه الأطباء المصريين.
وكانت نقابة الأطباء طالبت وزارة الصحة بتحمل تكاليف الدراسات العليا للأطباء في الجامعات المصرية، تطبيقًا لنصوص القانونين 14 و137 لسنة 2014، الخاصين بتنظيم المهن الطبية.
يحدث ذلك في الوقت الذي تتواتر فيه تصريحات المسؤولين الحكوميين في مصر عن الزيادة المستمرة في الإنفاق على البحث العلمي ضمن الموازنة العامة. وتقول وزارة التعليم العالي إنها وجهت نحو 5 مليارات جنيه ضمن موازنتها للعام الجامعي 2022/2023 لدعم البحث العلمي.
غير أن ذلك الرقم أقل من المنصوص عليه في الدستور، إذ تنص المادة 23 على ألا تقل مخصصات البحث العلمي عن 1% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية.
وﻷن الناتج المحلي لمصر بلغ حوالي 404 مليارات دولار في 2021، فالحد اﻷدنى للإنفاق على البحث العلمي يجب أن يكون 4 مليار ات دولار أو ما يعادل 123 مليار جنيه، وليس خمسة.
كذلك تنص المادة 169 من قانون تنظيم الجامعات على أن "التعليم مجاني لأبناء الجمهورية" في مختلف المراحل الجامعية. النص يدل بوضوح على مجانية التعليم في مراحل الدراسات العليا، وهو ما يرجوه يوسف الذي يتطلع لنيل وظيفة الأحلام كمدرس مساعد في إحدى الجامعات الحكومية أو الخاصة، كما ينوي مواصلة دراسة الدكتوراه في كليته ذاتها رغم ما وجده فيها من مصاعب أثناء إعداده للماجستير. لكنه لا يزال قلقًا حيال تدبير التكاليف، خاصة إذا استمر على حاله من دون عمل.
* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر