
البكالوريا.. الحلقة الجديدة في مسلسل خراب التعليم
خلال العقد الأخير، شهد التعليم كوارث حقيقية تبدأ بالرؤية السياسية للتعليم ودوره الاجتماعي والوطني، وتنعكس بالتبعية على أوضاع المعلمين والتلاميذ داخل الفصول في المدارس. رؤية تلخصها تساؤلات الرئيس الاستنكارية "عمَّا يمكن أن يفعله التعليم في وطنٍ ضائع"، وحديثه عن "معنديش حاجة ببلاش".
ومع امتناع الحكومة منذ 2014 عن تعيين معلمين في مدارسها، تحت ضغوط صندوق النقد والبنك الدوليين، تزايد العجز ليبلغ اليوم نحو 400 ألف معلم، وهو ما أدى إلى محاولة البحث عن حلول عبثية مثل التعاقد مع معلمي الحصة واستدعاء المحالين إلى المعاش للعمل بالنظام نفسه.
أما المعلمون الذين نجوا بتعيينهم قبل 2014، فإن رواتبهم توقفت عن الزيادة منذ ذلك العام، ما أدى إلى تدهور مرتباتهم، حتى كاد المعلم المصري يصبح أفقر معلّمي الأرض. وفي الوقت نفسه، لم تفِ الحكومة بالتزاماتها الدستورية المقررة بشأن الإنفاق على التعليم، بل لم تتجاوز نصفها.
ورغم كل هذه المشكلات الفادحة التي تؤثر بلا شك على جودة وكفاءة وفاعلية التعليم، يفاجئنا وزير التعليم محمد عبد اللطيف بمشروع جديد لتطوير المرحلة الثانوية وشهادتها العامة، الأكثر أهمية في منظومة التعليم المصري كلها، كونها البوابة الوحيدة للالتحاق بالجامعات، التي ظلت لعقود طويلة تمثل الفرصة الوحيدة أمام ملايين المصريين للترقي الاجتماعي وتحسين حياتهم.
ويتكون "النظام الجديد للبكالوريا المصرية" الذي أعلنه الوزير من مرحلتين؛ الأولى هي التمهيدية في الصف الأول الثانوي، ويدرس فيها الطلاب اللغة العربية والتربية الدينية واللغة الإنجليزية والتاريخ والرياضيات والعلوم المتكاملة والفلسفة والمنطق، بالإضافة إلى مواد لا تُضاف درجاتها للمجموع، وهي اللغة الأجنبية الثانية وعلوم الحاسب الآلي والبرمجة.
أما المرحلة الثانية، فستشمل السنتين التاليتين، على أن يدرس الطالب في الصف الثاني الثانوي مواد اللغة العربية واللغة الأجنبية والتاريخ المصري، وأحد المسارات التخصصية التي يختارها من الطب وعلوم الحياة (رياضيات وفيزياء)، أو الهندسة وعلوم الحساب (رياضيات المستوى الرفيع وفيزياء المستوى الرفيع)، وإدارة الأعمال (اقتصاد المستوى الرفيع والرياضيات)، والآداب والفنون (جغرافيا المستوى الرفيع والإحصاء). وفي الصف الثالث يدرس التربية الدينية بالإضافة للمواد التخصصية في المسار الذي اختاره.
ويعقد الامتحان في السنة الثانية والثالثة مرتين سنويًا في مايو/أيار ويوليو/تموز للصف الثاني، ويونيو/حزيران وأغسطس/آب للصف الثالث. وبينما يدخل جميع التلاميذ الامتحان للمرة الأولى مجانًا، تُفرض رسوم على القادرين الراغبين في تحسين درجاتهم قدرها خمسمائة جنيه لكل محاولة تالية للمادة الواحدة.
هذا هو التطوير المزمع تطبيقه لامتحان الثانوية، التي تقرر أن تُسمى البكالوريا، وهو ما تزعم وزارة التربية والتعليم وضعه أمام الرأي العام لمناقشته، ومن هنا فإننا نطرح تلك التساؤلات والملحوظات.
السماح للطالب بدفع 500 جنيه لتحسين درجاته يهدم مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة التربوية
أولًا، ما هو المرجع الذي ينطلق منه هذا التصور الذي فوجئ به الناس على صفحات الصحف، دون أدنى إشارة إلى الدراسات التي انطلقت منها تصوراته؟ هل هناك تجارب طبقتها دول أخرى وسجَّلت نجاحًا؟ هل هناك أساتذة وخبراء تربويون ناقشوا هذه الخطة قبل وضعها أمام الناس؟ ولماذا تنزل تلك التصورات على الناس كقرارات فوقية علوية دون أخذ رأيهم فيها أو الإشارة إلى مصدرها ومن قررها؟
ثانيًا، ألم يكن الواجب يقتضي أن نبدأ تطوير التعليم بإصلاح الاختلالات الهيكلية والبنيوية الأساسية في المنظومة التعليمية، والمتعلقة بزيادة ميزانيته وإصلاح أحوال المعلمين المادية والمهنية وبناء المدارس الجديدة للتخفيف من كثافة الفصول التي وصلت إلى حدود غير مسبوقة؟
ثالثًا، مما نعرفه عن المشروع، فإنه ليس تطويرًا بقدر ما هو إعادة توزيعٍ للمواد الدراسية، بزعم التخفيف على الأسر وأولياء الأمور، حتى لو جرت التضحية بمواد دراسية أساسية مثل الفلسفة التي تُعدُّ مادة أساسية في مختلف النظم التعليمية في العالم، مع إجراء تغييرات على شكل وطريقة الامتحان. أما التطوير الحقيقي، فيستهدف جوهر المناهج الدراسة وطرق التدريس وطرق الامتحان، لا شكلها وتوزيعها.
رابعًا، سيكون الامتحان الذي تُحتسب فيه الدرجات النهائية حصيلة أربعة امتحانات تجري خلال السنتين الثانية والثالثة، ما يعني خرابًا لبيوت أسر هؤلاء الطلاب التي يعاني أغلبها من التكاليف المرتفعة للدروس الخصوصية ومجموعات التقوية والسناتر التعليمية، بعد أن بات عليهم تحمل هذه التكلفة لسنتين دراسيتين بدلًا من سنة واحدة.
خامسًا، عندما يقرر المشروع المزمع أن يدفع الطالب مبلغ 500 جنيه للمادة الدراسية الواحدة التي يريد إعادة الامتحان لتحسين درجاته، فإنه يهدم مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة التربوية، الذي سعى عشرات المفكرين لإقراره ليكون أساسًا للتعليم المصري الحديث.
سادسًا، لا يبدو مفهومًا على الإطلاق تسمية هذا المشروع بـ"البكالوريا". فبكالوريا/baccalauréat كلمة فرنسية تعني الشهادة المتوسطة، وسبق أن أُطلقت على الشهادة الثانوية في مصر عام 1905 نكايةً في النفوذ البريطاني المحتل. أما البكالوريا الدولية فهو نظام تعليم انطلق من بريطانيا وانتشر في العشرات من دول العالم، ويُطبق مجموعة من المعايير تتعلق بالإدارة التعليمية واستخدام المنهج الدولي المعروف والمعلن.
تتركز هذه المعايير على ما يُتاح للطلاب من إمكانات تربوية وتعليمية، وللمعلمين من تأهيل وتدريب. أما المواد فتختلف اختلافًا بيِّنًا عن المشروع المطروح، فإلى جانب المقررات المعروفة، يختار الطلاب نشاطًا إبداعيًا للامتحان فيه، من المسرح أو الرسم أو السينما وغيرها، بالإضافة إلى نشاط خدمة المجتمع وكتابة مقال بحثي في موضوع محدد.
أما سابعًا وأخيرًا، فتتعلق بامتحان التربية الدينية الذي ستضاف درجاته إلى المجموع الكلي للطالب، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ التعليم المصري من شأنه فتح أبواب الجحيم على بلادنا، ولكن هذه القضية ستكون موضوع مقال قادم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.