عندما بدأ تعليمنا الحديث كان جزءًا من مشروع حاكم مصر العظيم محمد علي، فلم يدخر مالًا ولا جهدًا في سبيل أن يكون تعليمًا حقيقيًا أو كفئًا، لأنه صاغ لنفسه مشروعًا يقوم على بناء الدولة الحديثة في كل المجالات ولذلك أرسل البعثات لأوروبا وأقام المدارس العالية وأخذ من هؤلاء معلميه للمواد الدراسية المختلفة.
وهكذا تميز المعلمون منذ عهد محمد علي بميزتين رئيستين، أولهما أن إعدادهم كان كفئًا، والثاني أن رواتبهم كانت تسمح لهم بحياة كريمة وبالتفرغ الكامل لمهنتهم السامية والهامة، وراحت مسيرة التعليم تتعزز في عصور من جاءوا بعد محمد علي. وبعد ثورة 1919، أعطت الحركة الوطنية للتعليم زخمًا جديدًا، وأصبحت مجانية التعليم وإتاحته للناس جميعًا مطلبًا وطنيًا نبيلًا، بحيث نص دستور 1923 على مجانية التعليم الأوّلي، دون أن ينال هذا من حقوق المعلمين أو مكانتهم.
ولكي نوضح قيمة مرتبات المعلمين في عشرينيات القرن الماضي، كان أبي رحمه الله معلمًا للغة العربية، وتقاضى في أول عهده بالعمل في الحكومة ستة جنيهات مصرية كاملة، كانت هذه الجنيهات الستة تشتري نحو 36 جرامًا من الذهب عيار 21، التي يبلغ ثمنها اليوم في عام 2021 ما يزيد عن 25 ألفًا من الجنيهات، ومع هذا كان طه حسين ما يفتأ يطالب بتحسين أحوال المعلمين، ويطالب الحكومة بعمل كادر مالي خاص بالمعلمين أسوة بالكادر المالي الخاص بالقضاة فيقول في كتابه مستقبل الثقافة في مصر "وقد تعود صديقي هيكل باشا وتعودت أنا أيضًا منذ كنا نعمل معا في السياسة أن نشبه التعليم بالقضاء، والمعلمين بالقضاة وأن نطالب بالكرامة والطمأنينة للذين نأمنهم على إذاعة العلم والمعرفة في أبناء الشعب كما نطالب بالكرامة والطمأنينة للذين نأمنهم على تحقيق العدل بني الناس. أن صديقي هيكلًا ما زال يشبه التعليم بالقضاء والمعلمين بالقضاة بعد ويخيل إليَّ أن تولى وزارة المعارف، فلعله يمضي بهذا التشبيه إلى غايته ويجعله حقيقة لا تشبيها ولا الإيمان بمهمة التعليم والشعور بخطره وقدسيته ً مجازا، ويبلغ من الدولة حكومتها وبرلمانها، أن تسوي بني رجال القضاء ورجال التعليم، ٍ حينئذ نستطيع أن نطالب المعلم بأن يخلص ملهمته وينصح لتلميذه ويحتمل في سبيل ذلك المشقة والجهد والعناء، وحينئذ نقرب من الإيمان بمهمة التعليم، ولعل ذلك يقربنا من إصلاح التعليم شيئًا ويقربنا من تحقيق الغاية من التعليم".
ظل المعلم محترمًا مستورًا طوال عهد ثورة يوليو من 1952- 1970، رغم زيادة أعداد الطلاب نتيجة تطبيق سياسة مجانية التعليم في مختلف مراحل التعليم مما استلزم زيادة اعداد المعلمين فى نفس الوقت، وفي ستينيات القرن العشرين لم يعد هناك سوى التعليم الحكومي والذي كان يعمل بكفاءة وفاعلية ولم يعرف ظاهرة الدروس الخصوصية، وفي أوائل سبعينيات القرن الماضي كان مرتب المعلم حديث التخرج مع بداية عمله في الحكومة نحو 18 جنيهًا، في نفس الوقت كان سعر جرام الذهب عيار 18 بلغ 80 قرشًا، أي أن راتب المعلم كان يكفيه لشراء 22 جرامًا من هذا الذهب وسعرها اليوم 13 ألف جنيهًا.
السادات يغيّر كل شيء
ولكن مع بداية عهد السادات الممتد من 1970 إلى 1981، شهدت البلاد تغيرات عنيفة وجذرية. تخلص الرئيس الجديد من رجال عبد الناصر مثلما تخلص من سياساته ذات التوجه الشعبي والاشتراكي، وراح يتوجه نحو الغرب ونحو تشجيع الرأسمالية مع تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي، وكان التعليم من أكثر المؤسسات التي تضررت من ذلك التوجه الجديد، فراح السادات يقتر في الإنفاق على التعليم الحكومي، وتوقَّفَ بناء المدارس وراحت المدرسة الواحدة تشهد فترتين بل وثلاثًا في اليوم الواحد، وتزايدت كثافة الطلاب في الفصول وهو الأمر الذي أصاب كفاءة العملية التعليمية بالتدهور، وخلق مناخًا مثاليًا لنشأة الدروس الخصوصية، فما لا يحصل عليه التلميذ في المدرسة ينبغي الحصول عليه خارجها وعلى نفقة أسرته.
وفي نفس الوقت راح العائدون من بلاد الخليج يسعون للبحث عن مدارس متميزة لأبناء الأثرياء، فظهرت المدارس الخاصة والتي راحت تجذب جمهورها عبر الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية لتواكب ظاهرة التوجه نحو الغرب في الاقتصاد والسياسة في نفس الوقت.
بلغت رواتب المعلمين حاملي المؤهلات العليا في أواخر السبعينيات إلى ثمانية وعشرين جنيها، وكان هذا أول راتب تقاضيته كمعلم عام 1978، بينما زادت أسعار الذهب ليصل سعر الجرام منها إلى 120 قرشا، أي أن راتب المعلم كان يشتري 23 جرامًا من الذهب، أي قلّت رواتب المعلمين بنسبة الثلث من عشرينيات القرن العشرين إلى سبعينياته.
وفي عهد مبارك (1981- 2011)، تفاقمت كل تلك الظواهر، وظهرت المدارس الدولية في الصورة إلى جانب المدارس الخاصة ذات المستويات المتعددة، والتي هي مدارس تقع في أرض مصر وتقبل الطلاب المصريين ولكنها تتبع نظم تعليم أجنبية تمامًا فيما يتعلق بالمناهج وطرق التدريس والامتحانات والمعلمين ومختلف مفردات العملية التعليمية، وشيئًا فشيئًا أصبح التعليم تعليمين؛ واحد للفقراء في مداس الحكومة التي راحت تتدهور كفاءتها وإمكانيتها من عام لآخر، وآخر للأثرياء سواء في المدارس الدولية، التي يدفع أولياء الأمور فيها مصروفات تزيد عن عدة آلاف من الدولارات وهم مطمئنون إلى أنها مدارس صاحبة خبرة عميقة وتاريخ طويل، أو حتى المدارس الخاصة باهظة الثمن والتي تتجاوز مصروفاتها عدة عشرات الألوف من الجنيهات.
ونأتي أخيرًا لمدارس الحكومة التي راحت تتزايد الكثافة في فصولها لتتجاوز 80 و90 تلميذًا فى بعض الأحياء السكنية ذات الكثافة السكانية العالية، وتوقف بناء المدارس وتراكمت القمامة لعدم وجود عمال يهتمون برفعها والتخلص منها، وتدهورت أحوال دورات المياة، ويسعى وزير التعليم لعمل مايسمى بمنظومة تطوير التعليم فيها اعتمادًا على التابلت وبنك المعرفة والمنصات الإلكترونية والوسائط الإلكترونية المختلفة، وهي المنظومة التي لا يعرف أحد عنها شيئًا، وفي نفس الوقت لا يعرف أحد ماذا حدث في ثلاث سنوات تم فيها استخدام التابلت؟
نظريًا، فإن المعلمين هم أهم عناصر العملية التعليمية وهم القادرون على تطويرها، ولذلك فإن أي محاولة لتطوير التعليم لن يكتب لها النجاح ما لم يكن المعلمون هم قادتها وروادها وفي مقدمتها، بينما في الواقع، بدأ وزير التعليم وقائد عملية "تطويره" طارق شوقي عهده باتهام نصف المعلمين باللصوصية، واعتمدت منظومته على الحد من دورهم في العملية التعليمية.
كان المعلمون هم أكثر مفردات العملية التعليمية التي نالها التخريب؛ رواتب متدهورة تجعل المعلم المصري من أفقر معلمي الأرض، فالمعلم الذي تسعى الوزارة إلى التعاقد معه يمبلغ لا يصل إلى ألف جنيه يخصم منها تمغات وخدمات وغيرها، والمعلمون المعينون توقف حساب أساسي رواتبهم عند عام 2014 عندما توقف تعيين معلمين جدد، وكل هؤلاء لا يمكنهم الاعتماد على منظمة نقابية محترمة ومعتبرة تدافع عنهم وتنظمهم ويستطيعون من خلالها أن يصبحوا قوة يحسب حسابها، فالنقابة انتهى دورها منذ أزمان وتوقف عند دفع معاش تافه وهزيل للمعلمين وبعض الشقق في المصايف.
اليوم، يتجاوز سعر جرام الذهب عيار 21 الـ 750 جنيهًا، بينما يبلغ راتب المعلم حديث التخرج 2200 جنيه، أي أن راتبه أصبح يشتري أقل من ثلاثة جرامات من الذهب، بعد أن تدهورت قيمة العملة أثر تحريرها، وتساوت أسعار السلع داخل مصر بخارجها،
وفضلًا عن هذا فإن اقتراض حكومتنا بصفة مستمرة من صندوق النقد والبنك الدولى جعل تلك الحكومة تخضع لتعليمات هؤلاء الدائنين، ومنها تقليص عدد موظفي الحكومة وعدم تعيين موظفين جدد في تلك الحكومة، وهو الأمر الذي أوصل العجز في أعداد المعلمين إلى نحو 400 ألف معلم، وهو العجز الذي تسعى الحكومة لسده عن طريق التعاقد الذي أشرنا إليه، أو عن طريق التطوع، وهو ما يهدد بتحويل مدارسنا إلى سويقة تمارَس فيها كل ألوان الغش والبلطجة والعنف ويصبح التعليم فيها أثرًا بعد عين.