
أنا وليلى وغزة.. والجوع
كنتُ دومًا أحب الطعام ولا أطيق الجوع. في سنوات الفرح القليلة ولحظات السعادة الكثيفة، تمتد خيوط كل ذكرياتي مصحوبة بمذاق طعام ما. طفولتي تشكلت مع كل مذاق خبرته للمرة الأولى في مطبخ جدتي.
داخل شريط ذكريات جامعة القاهرة تتربع أرغفة العيش البلدي المحشوة بالجمبري والطحينة التي كنا نتقاسمها في سيارة صديقتي ياسمين أمام محل جنة الأسماك في شارع التحرير بالدقي القريب من الجامعة.
صور شتى في ذاكرتي للكثير من الطعام خلال جولاتنا بين منازلنا القديمة في مدينة نصر إلى جامعة القاهرة والدقي والجامعة الأمريكية وشوارع وسط القاهرة.
تقاسمت أنا وياسمين أيضًا دعابات عدة حول الجوع. كنا نقول "مخي بيقف وما بعرفش أفكر وأنا جعانة".
أيام الثورة والتحرير كانت أكياس الكشري وقطع البطاطا الساخنة الممزوجة برائحة الغاز المسيل للدموع وطعم الخطر تحول الغرباء في دقائق قليلة إلى أهل اليد الواحدة.
العديد من صداقاتي وُلدت وتعمقت على موائد طعام في مختلفة في القاهرة. على مائدة مطعم ناصر البرنس في إمبابة، قالت صديقتي نور "أنا عارفة بالظبط أنا هاطلب إيه"، ثم سردت نصف قائمة الطعام، فقلت لها مازحة "أنا فخورة بصاحبتي".
حين حلت الهزيمة، اتَّخذت طهي الطعام علاجًا نفسيًا يساعدني على استجداء الإحساس بالجدوى وتوليد طاقة للنفع والإنجاز، بما يحفظ للحياة بعض المعنى، وقدرًا من البهجة. حملتُ وصفات أمي في رحلات الغربة. ضحكتُ حين وصفني زميل عمل بكوني "أحسن واحدة بتعمل بامية في الشرق الأوسط"، وقلتُ بفخر "وصفة أمي".
في مرحلة تلاشي الفخر وانحسار البهجة، صرت أنصت لنصائح خبيرة التغذية والمدرب الخاص المعني ببناء القوة وزيادة الكتلة العضلية. كلاهما يسردان أهمية تناول الطعام الصحي بانتظام على مدار اليوم "ثلاث وجبات كبيرة ووجبتان صغيرتان. الحفاظ على نسبة بروتين عالية دائمًا. الابتعاد عن المعلبات والأطعمة المحفوظة. تناول الكثير من الخضروات والفواكه الطازجة".
عكفت على الالتزام بتلك التعليمات لعدة سنوات، قبل أن تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أبشع أثقالها، قبل أن تجوع غزة، وقبل أن تُضرب ليلى عن الطعام.
تطبع خبيرة التغذية ورقة اختبار الـinbody، وتخبرني أنني فقدت بعض الوزن والكثير من الكتلة العضلية. تسألني "بتاكلي كويس؟"، وأرد "الحقيقة لأ".
منذ أن استعرت الحرب على غزة وتواترت أخبار الجوع، صارت وجباتي ممزوجة بطعم الذنب. على مدار عام ونصف العام هجرت الطهي وزهدت في عادة نشر صور الأطباق الشهية على السوشيال ميديا . ألوك ما تيسر من أي طعام بينما أتابع أهوال نشرات الأخبار وأتنقل بين محطات السفر.
متى اعتدنا على الاستيقاظ كل صباح على مشاهد الأكفان وإحصاءات الشهداء الجوعى؟ خلال أقل من شهر سقط أكثر من 500 شهيد من سكان غزة قتلى بنيران الاحتلال، وهم يصطفون أمام مقرات مؤسسة غزة الإنسانية، للحصول على أي قسط من أي طعام.
صارت "الإنسانية" فخًا كبيرًا منصوبًا يصطاد أرواح البشر الجوعى، وهم محاصرون داخل سياجات تشبه الأقفاص الحديدية. مئات الآلاف من أهل غزة لا نصيب لهم من البروتين أصلًا، ولا تطول أيديهم الخضروات والفواكه الطازجة منذ شهور وشهور. إن ظلوا أحياءً، يقتاتون على فتات القمح منتهي الصلاحية، إن وجدوه.
تنبئنا عناوين الأخبار أن أكثر من مائة طفل كل يوم يحتاجون للعلاج بسبب سوء التغذية. أتجنب مشاهدة فيديوهات القتلى، لكني أشاهد مقطعًا لطفل جائع يصرخ في ضمائرنا بعد أن نجا دون أهله من مصيدة المؤسسة الإنسانية.
أرتجف لصور الرضع الذين أصابهم الهزال، وإن عاشوا فقد أصابهم من الضرر ما لا يمكن إصلاحه، وما لا سبيل للتعافي منه. ربما ذلك الهزال نفسه وتبعاته هو ما أصاب الإنسانية: ضرر لا يمكن إصلاحه، ولا سبيل للتعافي منه.
كيف تصاعدت كل تلك الأهوال على مدار أكثر من عام ونصف العام، وصار الناس يموتون جوعًا، على مسافة ذراع من القاهرة؟
أستيقظ كل صباح ملتمسة أخبار المؤشرات الحيوية لليلى سويف المضربة عن الطعام بين لندن والقاهرة منذ تسعة أشهر.
أشاهد صورها قبل وبعد الإضراب، والهزال المفزع الذي يأكل جسدها. أقرأ تفاصيل مؤشراتها الحيوية كسيدة شارفت على السبعين، شأنها شأن أطفال غزة الرضع أصاب جسدها من الضرر ما لا سبيل لإصلاحه حتى إن تخلت عن إضرابها الآن.
تفقد ليلى وزنها وكتلتها العضلية ولا تفقد إرادتها وتصميمها واتقاد ذهنها. أحاول تذكُّر إن كنت قد تقاسمت مع ليلى طعامًا من قبل في التحرير؟ في شوارع وسط القاهرة؟ في مكتب المبادرة المصرية؟ في مركز هشام مبارك؟ لا أتذكر.
بالطبع تشاركنا أحاديث الثورة وأحلام الحرية، وجمعنا حب فلسطين وكراهية كافة أشكال الظلم.
ليلى - مثلها مثل أهل غزة- بعض مني، جوعهم كأنه جوعي أنا؛ يشل تفكيري ويُفقد كل الأشياء طعمها.
ربما تعرف ليلى أن عَالمًا يستيقظ كل صباح على أرقام القتلى الجوعى لن يلقي بالًا إن أودى الجوع بسلامتها أو بحياتها.
لكنها أيضًا تعرف أنها بذلت كل ما تستطيع، بل بذلت نفسها سعيًا لرفع الظلم الذي اشتد وطال، ولنصرة حق لها ولابنها ولآلاف المظلومين.
تؤرقني صور ليلى كل يوم بينما أسائل نفسي إن كنتُ فعلت أي شيء ذا معنى يمكن أن يوقف ذلك الهزال الذي يبتلع الإنسانية بعد كل ما حدث ولا يزال يحدث كل يوم في غزة على مرأى ومسمع منا جميعًا.
هل يكفي أن نرفضه بقلوبنا؟ أم هل يمكن لأجسادنا المجردة أن تُشكل ملامح جديدة لعالم بلا خوف وبلا جوع؟ حسمت ليلى موقفها، بينما أتخبط أنا بين الحيرة والحسرة، ويقتلني ببطء شعوري بالعجز.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.