
أراقب ليلى سويف وأتعلم
رأيتها للمرة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. كان عام سجني السادس في طرة شديد الحراسة 2. خطوت صباح ذلك اليوم وسط طابور أزرق من المسجونين نحو قاعة الزيارة، وعندما التفت يميني، لمحتها.
لسبب ما، لا تخطئ العين ليلى سويف. أحاول أحيانًا تحديد ما يجذب البصر نحوها فلا يفلته. صغيرة الجسد، لا تشغل حيزًا ضخمًا من الفراغ فتملأ عين القاصي والداني. تتحرك بهدأة وأناوة، خافضة الصوت، رقيقة الثياب، بلا صخب. لكنها لا تُخطَأ.
عرفتها، فانفرجت أساريري وتباطأتُ لأتأكد. كان علاء حلَّ في سجننا قبلها بنحو شهر بعد اعتقاله الأخير. سكَّنته إدارة السجن أسفل مني بدورٍ، وسمعنا كلنا عما تعرض له من اعتداء على يد ضباط السجن ومخبريه. من يومها، يُقحمونه وقت الزيارة منفردًا داخل كابينة زجاجية، ولا تطأ أسرته أرض السجن إلا بعد دخولنا نحن قاعة الزيارة مخافة احتكاكهم بعموم المساجين. لكن يومها وقع الخطأ. لعل مخبرًا تحرك مبكرًا وأدخلهم، أو ضابطًا شاردًا أعطى إشارة خروج زياراتنا بعد الأوان. لكن الخطأ وقع، ورأيتها.
ثم إنها رأتني. كنت أعرفها طبعًا من صورها وتاريخها النضالي وحكايات الأصحاب. لكنِّي تسمَّرت عندما التقت عينانا، أما هي فعقدت حاجبيها وسألت: عبد الرحمن الجندي؟ اتسعت ابتسامتي دهشةً حتى كاد خداي يلامسان الأذنين، وأومأت. اندفعت ليلى سويف نحوي متجاهلة ولولة الضابط وهرولة الحراس، وعانقتني. ربتُّ على ظهرها حتى اقتلعني المخبرون اقتلاعًا وألقوا بي في قاعة الزيارة مُقرِّعين متوعدين.
حملت دفء هذا اليوم معي لأيام قاسيات كنت أمرُّ بها، أتذكره فيملؤني الونس في وحشتي. بات هذا الموقف مُعرِّفًا لليلى سويف بالنسبة لي: قلبٌ مهما اشتد همُّه وفاق كربه، لا يفتأ يجد فسحة من الدفء يمدها لغيره من المغمومين.
الكعكة الحجرية
تكمل ليلى سويف غدًا 130 يومًا مضربةً عن الطعام من أجل حرية ابنها. تخوض بجسدها معركة شرسة ضد دولة لا ترحم وغرب متواطئ بل شريك. تهرع بين طائرة للندن وغيرها للقاهرة عابرة البحار، ترتعد بين مظاهرة في الصقيع هناك ومؤتمر صحفي ثانٍ أو عاشر من بيتها هنا، تسجل بينهم اللقاءات والرسائل، تصارع جالوت وجنوده بلا حجر حتى ولا مقلاع.
حملت ليلى علاء في بطنها تسعة أشهر، ثم تدرعت وقادت الحرب لكسر سجنه عشر سنين. قال عنها علاء "أورثتني أمي كعكة حجرية". وها هي اليوم تستعيد منه سلفًا ثقل الميراث، فتتلقف معركة الأمعاء التي سبقها إليها لسبعة أشهر حتى خارت قواه. تخوض بجسدها الستيني صراعًا أقسمت ألا تكون له نهاية إلا سماءً لعلاء بلا قضبان.
قلت هذا عن علاء من قبل، وأكرره اليوم عن ليلى: كنت أظن الإضراب عن الطعام إعلان يأس، صرخة مَن فقَد الأمل فاختار الموت على العيش في واقع لا يطاق. أراقب ليلى وأتعلم: حين يسيطر الطغاة على كل شيء -الحركة والسكنة، الهمسة والغمزة- لا يبقى أحيانًا إلا الجسد كساحة للمقاومة. مهووسون هم الطغاة بكسر الأجساد، فيجنّ جنونهم حين ينتزع أحد هذا الحق منهم. ينفجر غضبهم، يتضاعف تنكيلهم، كأنهم يصرخون: لا يجرؤَنّ أحد على الظن بأن في هذا الفعل جدوى.
لكن ليلى لم تترك لهم ذريعة. ناشدت وخاطبت، قدمت طلبات العفو، سجَّلت التعهدات، استنفدت كل السبل. ملأت الفضاءات بأنها تريد ابنها ولا شيء غيره، ترجو طيَّ هذا الفصل لتمضي ما تبقى من عمرها في حنايا أسرة لا ضجيج بها إلا ضحكات الأبناء والأحفاد، ونباح كلبة يميل رأسها قليلًا أملًا في حكة أذن، ومواء لفيف من قطط الشوارع.
كغيري من محبي ليلى، كتبت البوستات ووقعت العرائض ونشرت الحملات وسجلت المقاطع، أحارب مع الكل يأسًا لا يرحم ورعبًا لا يكل من الهجوم مما نخافه كلنا ولا نجرؤ على البوح به مخافة الفال الوحش. نرجو ونناشد ونصرخ في نظام نعلم كلنا أن غرضه الواضح والمباشر هو القتل. وفي خِضِّم حاجتها لدعمنا وسندنا، تقف هي لتأخذ بأيدينا وتشرح لنا المنطلق والغاية. تخبرنا أنها ترى ما نرى، وأنها لم تراهن يومًا على إنسانية مسؤول مصري كان أو بريطاني، إنما تراهن على الناس: علينا.
أراقبها في صمت، فيزورني مقطع من وصف مريد البرغوثي لرضوى عاشور "سيدة قليلة الجسد، يتعبك تتبع خطاها، تهدم السور الفاصل بين الجامعة وعموم الناس، تظنها على مرتفعها الأكاديمي فتراها على أسفلت الميدان، ذائبة في تدافع التحرير العظيم، والكدمات التى توجعها توجع الطاغية قبلها. تظنها في همس القصيدة وهدأة الإيقاع، فتراها في صرخة التاريخ الخارج توًا من يد القابلة، وأرحام الشوارع".
وسط كل هذا، تحفر ليلى الوقت لتشارك أخبار المعتقلين وتطالب بحرية رفاق ابنها وراء الأسوار وتدوّن عن فلسطين وغزة، فليست ليلى من تنشغل بالنفس عن باقي المعذبين في الأرض وإن حلت كل مبررات الانشغال. وفي نهاية اليوم، تقتنص الثواني لكي تطمأننا، نحن من أحببناها وأحبتهم. تشارك بخفة الفراشات:
اليوم 126
أجلس في بيت ابنتي اقرأ رواية أحبها. حفيدتي لا زالت نائمة.
نحن لم نحلم إلا بحياة كالحياة.
أظنني أضع إصبعي على سر تعلق الأنظار بها، واستحالة أن تخطئها العين وإن كانت أضأل الأجساد في الغرفة. تحاوط ليلى سويف هالة يعرفها جيدًا كل من نال دفء حضرتها وأجاد الانتباه. نعم، تركض ليلى بعنفوان يرتعش له الهواء من حولها، تنتفض بغضبة هادئة تعلمك ألا تعبث معها، لكن ضربة الفرشاة التي تميِّز هالتها الثورية هي أن قِبلتها دومًا تكون الحب.
مشارفة السبعين من عمرها، تجوع وتنكمش 130 يومًا من أجل لمسة لابنها تحت سماء حرة. تفترش رصيف الشارع أمام سجن العقرب وتنام ثائرة توقًا لكلمات في جواب منه منعه السجان. تعتصم في مدخل السجن "مِجنِّنة" السجانين الصارخين من حولها، فلا تهتز لها شعرة حتى يفتح الباب لتلمح ابنها المخطوف. في أوج كربها، تطيح بالمخبرين في غرفة تفتيش وتهرع نحو ولد سجين لم تعرفه سوى من كتابات مهربة وبعض الصور، تخاطر بسخط الأمن واحتمال العقاب، من أجل حضن. تذيب غربته لثوانٍ، فيحمل الدفء لزنزانته الباردة.
تتجه ليلى دومًا، حتى وهي تمضي مشمرة الأكمام وجازة الضروس، من وإلى الحب.
دعوا ليلى تحيا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.