
ليلى سويف في حوار مع المنصة: أنا محظوظة.. ووصيتي تكملوا المعركة
إن كان لا بدَّ من ذبيحة.. فليحيا الوَلَد
تَصِفُ ليلى سويف نفسها بـ"المحظوظة"، لكنَّ أيًا من علامات هذا الحظ لا نراها على جسدها أو وجهها اللذين تجلَّت عليهما آثار 8 شهور من الإضراب عن الطعام مطالبةً بحرية ابنها علاء الذي أكمل محكوميته.
فقدت ليلى ثُلث وزنها فبانتْ عظامُها، واكتست ملامحها بشيخوخةٍ يصاحبها انحناءة وضعف دائمان في الحركة، وليس الكلام. أي حظ نالته صاحبة الـ69 عامًا، التي قضت منها الـ14 الأخيرة بين المحاكم والنيابات والسجون تتابع البلاغات والقضايا ضد أبنائها الثلاثة، وقد مات زوجها المحامي الحقوقي أحمد سيف الإسلام حمد بينما علاء وسناء في السجن.
حتى اللحظة الفارقة في حياتها، التي قررت فيها العودة للإضراب الكلي عن الطعام، لا تكفُّ ليلى عن استيعاب من هم حولها والتعاطف مع من هم أشد معاناةً منها. تقول في الحوار الذي أجرته معها المنصة خلال زيارتها الأخيرة للقاهرة "رغم كل اللي الناس بتتكلم عليه من معاناتي، أنا محظوظة. أنا بادافع عن وَلَد أنا عارفة هو فين، موجود وبشوفه. ابني وبناتي وأحفادي موجودين. أنا ما دفنتش طفل، ما دفنتش حفيد".
في تلك اللحظة، التي يبدأ فيها العدُّ التنازليُّ، وتدرك أنها قد لا تراه أبدًا مرة أخرى، يعود علاء في نظرها إلى "ولد"، صبي، رغم تجاوز عمره الـ43 عامًا، في لحظة أمومة شديدة النقاء والوضوح، تقدم عمرها فداءً للوَلَد. قالت ليلى في فيديو سجلته من لندن قبل شهور "أنا بشتري حياة ولادي... الوضع اللي فيه أولادي ده لازم يخلص، حتى ولو كان تمنه حياتي".
فور عودتها إلى لندن توجهت يوم الاثنين 19 مايو/أيار الحالي إلى 10 داونينج ستريت، مقر رئيس الوزراء، لتبدأ اعتصامًا يوميًا لمطالبة الحكومة البريطانية بتحمل مسؤولياتها تجاه علاء، الذي يحمل جنسية الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، بينما أعلنت اليوم عودتها للإضراب الكامل عن الطعام بديلًا عن الإضراب الجزئي، في مغامرة يعرف الجميع أنها قد تكون الأخيرة لليلى.
مآسي أكبر
يتسق تقديم ليلى معاناة الآخرين على معاناتها مع الطريقة التي عاشت بها لعقود، فلطالما تقدمت الصفوف في مناسباتٍ عدةٍ مناضلةً وناشطةً وامرأةً قويةً وشُجاعةً تستطيع أن تحول بين الأمن والمتظاهرين، سواء على أبواب جامعة القاهرة أو سلم نقابة الصحفيين، أو أي من المسيرات والتجمعات الاحتجاجية التي لم تتأخر عنها، فقد كانت قناعتها أن مركزها أستاذةً جامعيةً وامرأةً يجعلها أقل عرضة لخشونة الأمن.
ورغم أن علاء مغيبٌ في السجن لما يقارب العشرة أعوام، فإن أستاذة الرياضيات البحتة بكلية العلوم، جامعة القاهرة، تضع نفسها بين أمهات وزوجات عاشوا مآسي أكبر، "أنا مش بدوّر على حد مختفي قسريًا زي مصطفى النجار، ولا استلمت جثة مشوهة من التعذيب زي أم جوليو ريجيني، ولا زي الستات في سوريا وغزة، أنا محظوظة جدًا رغم كل حاجة".
لا تكتفي ليلى بحديثِ التعاطفِ، فرغم دخولها مرحلة الخطر بعد طول الإضراب، حرصت على المشاركة في الوقفة التضامنية مع الشعب الفلسطيني في ذكرى النكبة أمام نقابة الصحفيين يوم الخميس 15 مايو الحالي.
خلال الوقفة، توالت الهتافات لتحيّي نضال ليلى، التي بدت متأثرةً، وهي تسمع هتافات الحرية لابنها:
"ليلى سويف إحنا معاكي.. ضد اللي بلانا واللي بلاكي"
"ياعلاء يا أخانا.. كيف العتمة في الزنزانة.. بكرة يزول حكم السجّانة"
وتتلخص أزمة علاء، كما سبق وأوضح محاميه خالد علي لـ المنصة في احتساب السلطات مدة تنفيذه للعقوبة من تاريخ تصديق الحاكم العسكري على الحكم، بوصفه صادرًا من محكمة أمن دولة طوارئ في 3 يناير/كانون الثاني 2022، دون احتساب مدة الحبس الاحتياطي التي سبقت ذلك التاريخ بأكثر من سنتين، إذ أُلقي القبض على علاء يوم 28 سبتمبر/أيلول 2019 من أمام قسم الدقي، فور خروجه من ديوان القسم في السادسة صباحًا، حيث كان يكمل حكمًا سابقًا بالمراقبة.
بالمثل، يخوض "الوَلَد" إضرابًا عن الطعام، منذ مطلع مارس/آذار الماضي، دعمًا لنضال والدته من أجل حريته.
الأثر النهائي اللي أنا عايزاه إني أشوف علاء مع ابنه خالد في برايتون
علاء الذي وُلِد ابنُه الوحيد خالد وهو في السجن، يشبه أباه أحمد سيف الذي وُلدت ابنته منى وهو يقضي حكمًا بالسجن في ثمانينيات القرن الماضي، وكما اصطحبت الزوجة والأم ليلى سويف ابنها علاء صغيرًا لزيارة أبيه، وكانت تلاعبه على سلالم النيابات والمحاكم، كُتب عليها أن تزوره في سجنه مصطحبةً حفيدها خالد، حتى توقفت عن اصطحابه لقسوة الزيارة من خلف حاجز زجاجي والتواصل عن طريق سماعة هاتف على طفل مصاب بطيف التوحد، يعجز عقله وقلبه عن استيعاب كل هذه القسوة.
تضامنٌ مبهر وصمتٌ رسمي
خسرت ليلى ثُلث وزنها منذ بدأت إضرابها عن الطعام في 30 سبتمبر 2024، وهو اليوم الذي تلى انتهاء محكومية علاء، واستمرت فيه حتى مارس الماضي، لتنتقل إلى إضراب جزئي، بعد وعود زائفة بعفو وانفراجة، أطالت عمرها خلال تلك الفترة بـ300 سعر حراري فقط من أصل 1500 يحتاجها الإنسان يوميًا حدًا أدنى.
حصاد كل هذا الجوع له جانبان؛ الأول رسمي "نتائجه أقل بكثير مما يجب"، كما تقول "قربنا نكمل ثمانية شهور وعلاء مخرجش، ووضعه متغيرش"، وتشدد على أن المسؤولية تقع على السلطتين المصرية والبريطانية، الأولى "لأنها ما بتنفذش القانون، وتُصر على مواقف لا تليق بالسلطة والدولة. والسلطة البريطانية لأنها ما بتتخذش موقف يليق بدولة بتدعي إنها بتساند قواعد القانون عشان تجيب حق مواطن من مواطنيها، علاء في الآخر مواطن مزدوج الجنسية وبالتالي هو مسؤولية الحكومتين، مسؤولية السلطتين".
تَحْمِل ليلى المولودة في إنجلترا في الأول من مايو 1956 الجنسية البريطانية إلى جانب المصرية، وحصل علاء على الجنسية البريطانية عن طريق والدته في 2021 بعد طلباتٍ تقدمت بها أسرته عام 2019.
أما الجانب الثاني من حصاد الجوع الطويل، فنتائجه "مبهرة". تقول ليلى إنها محاطة بتضامن مع قضيتها وقضية السجناء السياسيين، "نتيجة شغل ناس كتير قوي"، أدى إلى "تسليط الضوء على قضية المعتقلين في مصر، وعلى قضية البريطانيين المحتجزين بشكل غير قانوني في أنحاء العالم، وتسليط الضوء على علاء والظلم اللي حاق بيه".
https://www.youtube.com/watch?v=XaVyxwYr00Aلا تنكر ليلى وجود فارق كبير بين تعامل السلطتين البريطانية والمصرية مع القضية، وترى أن زيارة السفير البريطاني في القاهرة جاريث بايلي لمنزلها يوم 8 مايو الجاري جاءت في هذا الإطار، "هو قال إن الغرض من الزيارة إنه يطمن على صحتي وعلى أحوالي، ويؤكد على الاهتمام والمتابعة، وإن موضوع علاء لا يزال محل أولوية. لكن ما كانش فيه حاجة جديدة".
تصر ليلى طوال حوارنا معها على أنها تريد أن ترى أثرًا للوساطات والتدخلات، لا أن تسمع فقط عنها، "ماشي أنا شاكرة طبعًا، وشاكرة على الاهتمام بصحتي، بس أنا مهتمة بصحة علاء ومهتمة بالإفراج عن علاء ومش مهتمة قوي بصحتي".
وترد على سؤال بخصوص تلقي السفير وعودًا من السلطات المصرية، بأنه لا جديد "من يوم 28 فبراير اللي فات لما حصل اتصال بين رئيس الوزراء البريطاني والرئيس المصري، مفيش جديد. موضوع الاتصالات بين حكومات، بيقولوا لي إحنا مهتمين، لكن أنا إيه يعرّفني؟ هو أنا كنت قاعدة معاهم؟".
وتتابع "أنا من أول ما ابتدت الحكومة البريطانية الاتصالات معايا وأنا باقول لهم أنا عايزة أشوف أثر على علاء ... أنتم بتقولوا بنكلم بعض، بتقولوا لي المكالمة دي إيجابية والمكالمة دي سلبية، يعني ميرسي، ده شغلكم، أنا عايزة أشوف أثر على علاء. وأقل أثر أشوفه زيارة قنصلية، لكن الأثر النهائي اللي أنا عايزاه، إني أشوف علاء مع خالد في برايتون في بريطانيا".
زيارة قصيرة
بعد ثلاثة شهور من إضرابها سافرت ليلى إلى إنجلترا في يناير الماضي حيث التقت مسؤولين ومتضامنين، واعتصمت أمام الخارجية البريطانية ومجلس العموم واللوردات ومجلس الوزراء، حتى عادت إلى القاهرة في زيارة قصيرة مطلع مايو الجاري.
أتت ليلى للقاهرة رغم قلق ابنتيها منى وسناء من عدم قدرتها على تحمل عبء السفر، ولكنها أصرّت ألا تفوّت "زيارة علاء، وإني أشوف المتضامنين والأصدقاء وأشوف طبعًا أسرتي الممتدة"، كما حرصت على إرسال رسالة لمن يهمه الأمر بأنها مستمرة، و"أبيِّن أمام السلطات المصرية إني لا زلت مستعدة تمامًا أدفع الثمن حتى آخر نفس".
وعن لقائها بالوَلَد بعد أربعة شهور من الغياب، تشير إلى أنها تمكنت من زيارته مرتين؛ الأولى في 4 مايو، "الزيارة مشيت زي ما كانت بتمشي قبل ما أسافر، انتظرنا كتير بره، دخلنا في الكابينة الإزاز، كنا بنتكلم من خلال التليفون، يعني بنتكلم بالدور، مش نافع إن إحنا كلنا نتكلم مع بعض. وطبعًا برضه الإزاز بتاعهم ما بينضفوهوش كويس فأنت بتبقى شايف بس مش شايف كويس قوي".
ولكن رغم ذلك تقول "أنا وعلاء كنّا في حالة نشوة تامة إن إحنا شايفين بعض. وقضينا خمس دقائق قلنا فيها أخبار بعض الصحية وأخبار السجن، لأن علاء كان مر بوعكة صحية شديدة قبل ما اجي على طول. وبرضه الوعكة دي هي إللي خلتني أصر إن أنا لازم أنزل. البنات كانوا قلقانين وقالولي الطيارة وهتتعبي في الطيارة، قلت لهم آسفة مش هينفع. طب علاء هيتخض (لما يشوفك) قلتلهم معلش يتخض، أنا عايزة أشوفه".
وبينما كانت الزيارة الأولى عادية شهدت زيارتها الثانية له يوم 6 مايو اختلافًا كبيرًا، دخلت دون انتظار وكانت "زيارة مكتب"، أي في مكتب أحد الضباط، حيث سُمح لها باحتضان ابنها أخيرًا بعد سنوات من الحديث معه عبر الحاجز والسماعة، "رحت لقيت مفيش انتظار خالص، ودخلت على طول، وطلعت يعني في أوضة، وحضنت علاء وقضيت الزيارة في حضنه فطبعًا كنا أسعد وأسعد".
وعن رد فعله عندما رآها قالت ضاحكة، "لما حضنّي قاللي إيه ده يا ماما، ده إنتي بقيتي جلد على عضم خالص. هو في زيارة الحاجز الإزاز كان شايف وشّي لكن الهدوم برضه (كانت مخبية). لما شاف وشّي قاللي وشّك.. قلت له وشي زي مومياء رمسيس، قاللي لا مش للدرجة دي بس وشّك معجّز قوي".
يحترم علاء وليلى خيارات نضالهما، "أنا لا أجرؤ أطلب منه يفك الإضراب ولا هو. وهنضيع وقتنا في كلام مالهوش لزوم. هو عارف إن أنا مش هسمع الكلام وأنا عارفة إن هو مش هيسمع الكلام".
في 7 مارس الماضي أعلنت سناء سيف، في بوست على فيسبوك، أن علاء بدأ إضرابه في أول أيام شهر رمضان بعد معرفته بتدهور حالة ليلى الصحية، مشيرةً إلى أن محاميه قدموا بلاغًا رقم 17158 عرائض النائب العام لتوثيق الإضراب، وأن وكيل نيابة انتقل إلى علاء في محبسه في اليوم التالي وسجل مطالبه.
قبل أن تعود إلى لندن لم توفر ليلى سهامًا في جعبتها، فأرسلت ابنتها سناء مع جميلة إسماعيل إلى قصر الحكم في الاتحادية للتقدم بطلب عفو رئاسي، كما ذهبت مع المحامي خالد علي إلى النائب العام للتقدم بطلب جديد لاحتساب فترة الحبس الاحتياطي، ليتسنى لعلاء الخروج من السجن.
قد لا تؤدي تلك الخطوات لشيء، لكن ليلى لا تترك بابًا دون طرقه. وهذا بالضبط ما جعلها تختتم رحلتها القصيرة إلى القاهرة، بالمؤتمر الذي استضافه حزب المحافظين للتضامن مع أسر السجناء.
أكدت ليلى في كلمتها على أن علاء ليس السجين الوحيد، وأصرت على أن تكون الدعوة لحرية كل المساجين السياسيين؛ "لن نصمت ولن تختفي القضية إلا بحل حقيقي".
وشهد المؤتمر حشدًا كبيرًا من أهالي السجناء والمتضامنين معهم تحت عنوان "مكانهم وسطنا"، وتضمن مهرجانًا فنيًا، وحملة لكتابة رسائل الدعم للسجناء، بينما تحدث أهالي السجناء مطالبين بالحرية لأبنائهم.
بلا عودة
تعلن ليلى اليوم عودتها للإضراب الكلي "المرة دي أنا مش هتراجع، أنا مكنتش ناوية أتراجع عن الإضراب الكلي الأول، لكن الاتصالات اللي حصلت والتأكيد على إن الحاجات دي (التدخلات) محتاجة شوية وقت، والرغبة الشديدة من جميع الأطراف -بما في ذلك بناتي- إن أنا أسمح بشوية وقت، خلتني أنقل من الإضراب الكلي للإضراب الجزئي. كان وقتها مفهوم أن شوية وقت يعني لحد ما يخلص رمضان والعيد، على أساس إنه كان فيه كلام على عفو العيد".
كانت ليلى استجابت في 4 مارس الماضي لمناشدات عائلتها والمتضامنين معها، وانتقلت إلى إضراب جزئي، ما قالت عنه ابنتها سناء حينها إن "الفضل يرجع لكل المتضامنين والناس اللي بتبذل جهد لخروج علاء".
ولكن الآن ترى ليلى أن قرارها كان تراجعًا لم يؤد إلى نتائج، وعليه فإنها تعود مرة أخرى لربط حياتها بخروج ابنها من السجن "فات 3 شهور وداخلين في الرابع ومحصلش حاجة. أنا معنديش وقت تاني. علاء يخرج من باب السجن أدخل المستشفى عشان عملية إعادة التغذية لازم تتعمل جوه مستشفى بعد كل الجوع الطويل ده. لو علاء في السجن أنا مش هقطع الإضراب".
لا تخفي ليلى تأثرها من تصاعد موجة التضامن معها، رغم التكلفة المحتملة على الموجودين في مصر، "أنا مش متخيلة إن التضامن ده ما لوش أثر". تتأثر وهي تحكي عن "كمية الناس اللي جَت هنا (بيتها في حي الدقي)، أنا مش عارفة كانت قد إيه، وما أعتقدش إن أي حد فينا كان عارف غير المخبرين اللي كانوا مرصوصين حوالين المكان"، وتضيف "دي ناس تضامنها مش معانا بس، تضامنها مع كل المعتقلين".
وإلى جانب الحضور لم يفتها رصد "كمية الناس اللي بتكتب، وبتعبر عن غضبها، وكمية الستات والأمهات والجدات اللي بيتصلوا بيا، وبيعلقوا، ويبدوا تعاطفهم، ناس من بره كل الدواير اللي كنت أتوقعها".
وتؤكد أن هذه الموجة ليست في مصر فقط "نواب في البرلمان البريطاني بيتواصلوا معي مباشرة وبيسألوا نعمل إيه؟"، وتحكي عن سائق تاكسي قابلها في لندن وعرفها وقال لها "سمعت عنك في البي بي سي، شدّي حيلك".
متأكدة إن علاء هيخرج لكن مش متأكدة لو التوقيت هيبقى وأنا لسه قادرة أستقبله
لكن كل أشكال التضامن لا تقارن عندها بالرسائل التي تصلها من أمهات سوريات وفلسطينيات، خاصة من غزة، "دي ناس في كرب لا يُقارن باللي أنا فيه". وتشير إلى أن "كل ما السلطة بتطوّل المدة، الموجة دي بتوسع".
ليلى متأكدة أن علاء سيخرج من السجن، لكنها لا تعرف متى، وهل ستكون وقتها في استقباله، "مش متأكدة التوقيت هييجي وأنا لسه قادرة أستقبله ولا لأ".
تدرك كم القهر والحزن اللذين سيصيبان أسرتها والمتضامنين لو لم تكن موجودة في لحظة خروج ابنها للنور، لذا تتمنى أن يحدث قريبًا، "عارفة قد إيه الناس دي هتتقهر لو ده حصل، فعشان خاطرهم، عايزة المسألة تخلص بسرعة".
أحمد سيف لا يغيب
تفتقد ليلى زوجها المحامي الحقوقي أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح، الذي جمعتهما شراكة ممتدة منذ الحركة الطلابية في سبعينات القرن الماضي وحتى وفاته في 2014، لكنها في الوقت نفسه تحمد الله أنه لم يرَ اللحظة الحالية، "أنا مش ناسية اللحظة اللي سيف واجه فيها قاضي مش عارف الفرق بين الحبس الاحتياطي والحبس اللي مش احتياطي قبيل وفاته في 2014. اتفاجئ.. أنا شفت لونه بينسحب، وشفته مش قادر يصلب طوله. وجوه قلبي قناعة إنه دي اللحظة اللي سيف بدأ يموت فيها. أنا مش ناسية ده".
تفتقد قدرة سيف الفائقة على خلق توازن بين المواقف العملية القادرة على تحقيق مكاسب، والمواقف المبدئية. حبيبها الذي برز كقائد في الحركة الطلابية في السبعينات، وشارك في تأسيس تنظيم "المطرقة" اليساري، وسُجن مرات عدة، كان آخرها حكمًا بالحبس خمس سنوات في الثمانينات، ترك خلالها ليلى مع "الوَلَد" علاء، لتنضم إليهما المولودة منى. واتجه بعد خروجه من سجن تعرّض فيه للتعذيب، للعمل الحقوقي، مكرسًا حياته لتحسين أوضاع حقوق الإنسان والحريات وتوفير البيئة الصحية للعمل السياسي، تلك المسيرة التي جعلته أكثر واقعية وأكثر مبدئية في الوقت نفسه.
"كان بيعرف يعمل توازن بين إنه نفضل مبدئيين لكن نزق أقصى زق عملي. بس الحقيقة فيه لحظات بيبقى التوازن ده هو إنك تاخد الموقف المبدئي وتقول يجرى اللي يجرى"، وتضيف "سيف كان عنده حلول مبدعة، مش هبقى مغرورة وأقول إن أنا في نفس درجة إبداع سيف. بس برضه فيه لحظات مفيش حاجة تانية تتعمل".
في موقفها الحالي، شديد التطرف، تؤمن أن سيف كان سيدعمها "كان هينصحني إني أستمر، أو كان مش هيقوللي حاجة. يعني غالبًا كان هيبقى زي الباقيين. في الآخر سيف كان عارفني، غالبًا مكانش هيحاول ينصحني أنا، كان هيحاول ينصح البهوات (في إشارة إلى المسؤولين)، ويقول لهم إن ليلى لا تتراجع"، تقولها وتبتسم ابتسامة شاحبة.
وصية أخيرة
سليلةُ عائلة سويف، ابنةُ رائد علم النفس الدكتور مصطفى سويف وأستاذة الأدب الإنجليزي فاطمة موسى، وشقيقة الكاتبة أهداف سويف، بدأت مسيرتها النضالية مبكرًا في جامعة القاهرة ضمن صفوف الحركة الطلابية، تظاهرت من أجل الحرية وبدأت جولاتها بين السجون مبكرًا، عندما اعتقل زملاؤها في مظاهرات الخبز في يناير 1977، ثم سجن زوجها.
ورغم عملها أستاذةً أكاديميةً، كانت توزع وقتها بين أطفالها وطلابها ودراساتها، دون أن تتخلى عن العمل العام، فكانت في صفوف التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي الاحتجاجات التي عمت الجامعة في 1991 ضد الحرب الأمريكية في العراق، وهي من مؤسسي حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وفي مقدمة المتضامنين مع فلسطين في انتفاضة الأقصى، ووقفت أمام قوات الأمن أمام السفارة الأمريكية في مارس 2003 مع المتظاهرين ضد غزو العراق، ونشطت ضمن مجموعة الحملة الشعبية من أجل التغيير التي سبقت حركة كفاية.
التزمت ليلى طوال حياتها بكل ما آمنت به لتكلل اليوم مسيرة ممتدة لأكثر من نصف قرن، ورغم أنه لم يعد لديها سوى جسد هزيل، فإن هذا لم ينل من قوة الروح ونور العقل. تتوهج روحها بالأمنيات بينما تنهي حوارها مع المنصة بوصية، كمن يتقدم بثبات نحو القدر الذي اختاره.
"وصيتي، لو لا قدر الله جرالي حاجة قبل ما علاء يطلع، إن الناس تكمّل، وتبقى معركتكم الصغيرة لحد ما علاء يطلع، ومعركتكم الكبيرة لحد ما الناس كلها تطلع".