برخصة المشاع الإبداعي: Alisdare Hickson، فليكر
منى سيف شقيقة علاء عبد الفتاح تتوسط وقفة تطالب بالإفراج عنه، أمام مقر رئاسة الحكومة البريطانية في لندن، 6 نوفمبر 2022

رباعية علاء عبد الفتاح.. التدوين ولينكس والسياسة والسجن

منشور الأحد 2 مارس 2025

"أعتقد أنني هنا بصفتي ناشط، جندي في ثورة، لأتحدث عن كيفية تمكين شركات التكنولوجيا من حماية وتعزيز واحترام حقوق الإنسان لمستخدميها. ولكن هذا موضوع أشعر تجاهه بالكثير من التشكيك. الشركات في العادة لا تفعل أيًا من ذلك. الشركات الكبرى لا تميل لفعل ذلك".

من كلمة علاء عبد الفتاح في افتتاح مؤتمر RightsCon 2011 في كاليفورنيا. أكتوبر/تشرين الأول 2011.


منذ انطلاقه عام 2011، أصبح مؤتمر RightsCon إحدى أهم الفعاليات التي تجمع نشطاء حقوق الإنسان والتقنيين وصناع السياسات والصحفيين والباحثين ورجال الأعمال في مواجهة التحديات التي تفرضها التطورات الرقمية على الحقوق والحريات الأساسية. يُعقد المؤتمر، الذي تنظمه مؤسسة Access Now الرائدة في مجال الحقوق الرقمية، سنويًا، ومن خلاله تتوفر مساحة للحوار بين مختلف الأطراف الفاعلة في مجالي التكنولوجيا والحقوق.

استضاف المؤتمر في دورته الثالثة عشرة، التي عُقدت من 24 إلى 27 فبراير/شباط الماضي، آلاف المشاركين من 150 دولة في تايبيه، عاصمة تايوان. وتناولت جلساته قضايا محورية مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة وحوكمة المحتوى وحماية البيانات والتكنولوجيا في وقت الأزمات.

علاء عبد الفتاح.. الحاضر الغائب

ألبوم صور أسرة علاء عبد الفتاح في اليوم التضامني مع ليلى سويف، 30 يناير 2025

في افتتاح نسخة المؤتمر هذا العام، وبعد أكثر من 140 يومًا من إضرابها عن الطعام، وجهت ليلى سويف والدة الناشط السياسي والمدون المصري علاء عبد الفتاح رسالةً إلى المشاركين عبر مداخلة مسجلة بالفيديو. بصوت متعب لكنه ثابت، نقلت كلماتها أوجاع آلاف من أمهات المعتقلين السياسيين وثقل الهزيمة وإصرار المقاومة، مؤكدة أن معركتها لم تنتهِ، وأن النضال من أجل حرية علاء لا يزال مستمرًا.

بدأت ليلى سويف حديثها بالتذكير بأن علاء كان من المفترض أن يُطلق سراحه في 29 سبتمبر/أيلول 2024، لكن السلطات لم تفرج عنه. وبأنها في اليوم التالي، قررت بدء إضرابها المفتوح عن الطعام، الذي تعهدت بعدم كسره حتى نيل ابنها حريته. رغم الإرهاق الجسدي الذي بلغ ذروته بعد أكثر من أربعة أشهر من الإضراب، وصفت ليلى قدرتها على الحديث أمام المؤتمر بأنها "معجزة".

كان هذا آخر ظهور للدكتورة ليلى سويف، أستاذة الرياضيات البحتة بجامعة القاهرة، حيث تدهورت حالتها الصحية لاحقًا ونُقلت إلى المستشفى. 

في كلمتها المسجلة، استعارت الأم كلمات من رسالة ابنها علاء للمؤتمر نفسه عام 2017، التي اقتُبس منها عنوان كتابه You Have Not Yet Been Defeated/أنتَ لم تُهزم بعد. لكنها قالت في كلمتها إنه بعد حرب الإبادة التي تعرضت لها غزة "نشعر جميعًا أننا قد هُزمنا، فقد شاهدنا الإبادة الجماعية وعجزنا عن إيقافها".

وفي ختام كلمتها القصيرة، وجّهت ليلى سويف نداءً إلى المشاركين بأن يستمروا في دعم علاء إلى أن ينال حريته. لكنها لم تتحدث فقط كأم تكافح من أجل ابنها، بل كمناضلة تدرك أن أيامها قد تكون معدودة، لتنهي حديثها بنداء قوي "لا تسمحوا أن تصبح هزيمتنا دائمة".

أما الباحثة والناشطة الحقوقية سارة الشريف، فقالت في كلمة ألقتها في ختام المؤتمر قبل يومين "علاء في السجن، لأن الطريقة الوحيدة لإسكاته هي حبس جسده في واحد من أقدم أساليب القمع والسيطرة. ولا يختلف ذلك عن القمع الرقمي الذي نواجهه الآن عندما يحاول أي شخص مساءلة أو محاسبة السلطة. فشركات التكنولوجيا الغربية تحاول إخماد أصواتنا، وتتحكم فيما يمكننا وما لا يمكننا الاطلاع عليه، تمامًا كما أي دولة استبدادية. نحن الآن خاضعون لحكم نخبة تكنولوجية غير منتخبة من المليارديرات الذين يحاكون نفس سلوكيات الأنظمة الديكتاتورية!".

من لينكس والمدونات والثورة إلى السجون

كان علاء عبد الفتاح شخصية بارزة في دعم البرمجيات الحرة وتعزيز مجتمع المصادر المفتوحة في مصر. ففي عام 2004، شارك في تأسيس مجموعة مستخدمي جنو لينكس المصرية/EGLUG، التي كانت منصةً تجمع المهتمين بالبرمجيات الحرة/مفتوحة المصدر في مصر، وعمل مستخدموها على نشر المعرفة وثقافة الانفتاح والتشاركية في مقابل "جميع الحقوق محفوظة" التي تتكسب منها الشركات الكبرى ويتضاءل معها انتشار المعرفة والإبداع. 

من خلال EGLUG، نظَّم علاء العديد من الفعاليات، مثل فعاليات Linux Installations، التي أتاحت للمشاركين فرصة تثبيت أنظمة لينكس المجانية على أجهزتهم والتعرف عليها، مما ساهم في كسر الحواجز التقنية أمام المبتدئين، وتعزيز فهم أعمق للتقنيات الحرة ومفتوحة المصدر في مصر.

مثّل علاء عبد الفتاح نموذجًا فريدًا للمدون الذي لم يكتفِ بطرح الأفكار بل سعى إلى تمكين الآخرين من التعبير

ومع صعود المدونات أداةً للتعبير السياسي والاجتماعي في مصر خلال منتصف العقد الأول من الألفية، برز علاء عبد الفتاح (كان معروفًا باسم علاء سيف وقتها) باعتباره أحد الفاعلين الرئيسيين في ترسيخ التدوين مساحةً مفتوحةً للنقاش والتفاعل. لم يكن مجرد مدون يعبر عن آرائه، بل لعب دورًا محوريًا في بناء مجتمع المدونين المصريين، سواء من خلال دعمه التقني أو عبر نشاطه السياسي والنضالي.

في عام 2005، حين كانت المدونات المصرية لا تزال قليلة العدد، أطلق علاء مع زوجته حينها المدوّنة والناشطة منال حسن مدونتهما التي احتوت على مجمع المدونات المصرية، وكان المجمع بمثابة منصة مركزية تنشر تلقائيًا رابطًا لأحدث ما يكتبه المدونون المصريون، وكأنها وكالة أنباء بديلة، مما سهّل على المتابعين الوصول إلى المحتوى الجديد أولًا بأول.

إلى جانب ذلك، ساعد علاء العديد من المدونين تقنيًا في إنشاء مدوناتهم، مستضيفًا بعضها على السيرفر الخاص به، خاصة في ظل الصعوبات التقنية التي واجهت المبتدئين، منها دعم اللغة العربية في ذلك الوقت.

لم يكن نشاط علاء تقنيًا فقط، بل كان جزءًا لا يتجزأ من الحراك السياسي. حضر في المظاهرات والاعتصامات، كما حدث في مارس/آذار 2006، عندما شارك ودعا لاعتصام مجموعة 30 فبراير في ميدان التحرير تحت شعار "ليلة في حب مصر". وخلال هذا الاعتصام، نشر علاء تدوينة مباشرة/لايف عبر موبايله، في خطوة كانت جديدة، إذ لم يكن التدوين عبر الموبايل متاحًا بسهولة.

في الفترة ذاتها، تصاعدت حملات القمع الأمني ضد النشطاء والمدونين المشاركين في الحراك السياسي، وكان علاء من بين المعتقلين في مايو/أيار 2006، إثر مشاركته في اعتصام تضامني مع حركة القضاة المطالبة باستقلال القضاء. حينها كتب من داخل السجن تدوينة بعنوان "تالت خمستاشر"، رصد فيها تجربته في المعتقل. وأثار اعتقاله موجة تضامن واسعة تجلّت في حملات إلكترونية ومبادرات تدوينية تطالب بالإفراج عنه وعن بقية المعتقلين.

علاء عبد الفتاح متحدثًا أمام مؤتمر RightsCon عام 2011 في كاليفورنيا

بعد نجاح "مجمع المدونات المصرية"، ساهم علاء في تطوير منصة مدونات كاتب، التي أطلقتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عام 2007 أول منصة عربية تعتمد على البرمجيات الحرة لتقديم خدمة التدوين المستقل. لم يكن هذا المشروع تقنيًا فحسب، بل كان خطوة نحو تعزيز حرية التعبير على الإنترنت، في وقت بدأت فيه السلطات المصرية تشدد قبضتها على المحتوى الرقمي.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2008، قرر علاء مغادرة مصر إلى جنوب إفريقيا، وكتب حينها تدوينة بعنوان "موسم الهجرة إلى الجنوب"، أوضح فيها أن الخطوة لم تكن بدافع الإحباط أو التضييق السياسي، بل رغبة في خوض تجربة جديدة في بيئة مختلفة. 

إلا أن هذا الابتعاد لم يكن قطيعة مع الواقع المصري، فقد استمر في الانخراط بالنقاشات السياسية والحقوقية، مواصلًا دعمه للحراك الرقمي والسياسي من موقعه الجديد.

مثّل علاء عبد الفتاح نموذجًا فريدًا للمدون الذي لم يكتفِ بطرح الأفكار، بل سعى إلى تمكين الآخرين من التعبير عن أنفسهم بحرية. سواء عبر توفير البنية التحتية التقنية للمدونات أو من خلال دوره المباشر في المظاهرات والاعتصامات، كان علاء في صميم الحراك الرقمي والسياسي في مصر. 

ورغم التحديات والاعتقالات التي واجهها، ظل اسمه مرتبطًا بحركة التدوين المصرية، التي ساهم في تشكيل ملامحها الأولى، وجعل منها فضاءً لا يمكن تجاهله في المشهد السياسي المصري.

عندما انطلقت شرارة ثورة يناير 2011، كان علاء ما زال في جنوب إفريقيا لكنه ظل متابعًا للأحداث عن كثب. وعندما قُطعت الاتصالات داخل مصر، كان يتواصل مع النشطاء من خلال الهاتف الأرضي في مركز هشام مبارك للقانون، حيث كانوا يطلعونه على المستجدات لينشرها على موقعه من الخارج. 

عاد علاء إلى مصر قبل تنحي مبارك، وكان موجودًا في ميدان التحرير طوال الوقت. وبعد سقوط النظام، قرر البقاء وعدم العودة إلى جنوب إفريقيا، وانخرط في أنشطة سياسية وثقافية مؤثرة، من بينها تنظيم فعالية تويت ندوة، ومشاركته في مبادرة تعالوا نكتب دستورنا التي هدفت إلى إيجاد مساحة رقمية للنقاش المجتمعي حول الدستور المصري الجديد.

ما زال علاء قابعًا في السجن بينما تواصل والدته إضرابها في معركة يبدو أنها أبعد ما تكون عن نهايتها

ومنذ 2011، كان علاء عبد الفتاح في قلب المعركة من أجل الديمقراطية وحرية التعبير، لكن مسيرته تحوّلت إلى سلسلة لا تنتهي من الاعتقالات. 

بدأ الأمر بمشاركته في احتجاجات ماسبيرو، حيث رفض الخضوع لمحاكمة عسكرية، ليُعتقل للمرة الأولى. تلى ذلك اعتقاله في 2013 خلال مظاهرة ضد قانون التظاهر، ليُحكم عليه بالسجن لخمس سنوات، تلتها مراقبة شُرطية صارمة أجبرته على قضاء نصف يومه في قسم الشرطة بعد الإفراج عنه عام 2019.

لكنه سرعان ما عاد إلى السجن في سبتمبر/أيلول من العام نفسه (2019) ضمن حملة اعتقالات موسعة تعرض خلالها للتعذيب وسوء المعاملة في سجن طرة شديد الحراسة. وبعد أكثر من عامين قيد الحبس الاحتياطي، أُدين مجددًا في 2021 بالسجن خمس سنوات بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، ما دفعه إلى إضراب طويل عن الطعام احتجاجًا على ظروف احتجازه.

ومع اقتراب موعد الإفراج عنه في سبتمبر 2024، رفضت السلطات المصرية إطلاق سراحه، متذرعة بعدم احتساب فترة الحبس الاحتياطي ضمن مدة العقوبة، ليُمدد احتجازه حتى 2027. تزامن ذلك مع حصوله على الجنسية البريطانية، ما زاد من الضغوط الدولية للإفراج عنه. وفي مواجهة هذا التعنت، أعلنت والدته، ليلى سويف، بدء إضراب عن الطعام، انضم إليها لاحقًا ناشطون وصحفيون دوليون، في محاولة للضغط على الحكومة المصرية.

اليوم، في 2025، ما زال علاء قابعًا في السجن، بينما تواصل والدته إضرابها، في معركة يبدو أنها أبعد ما تكون عن نهايتها. ومع استمرار الجهود المحلية والدولية المطالبة بحريته، تبقى قضيته شاهدًا على تراجع الحريات في مصر، ورمزًا لنضال لا يعرف الاستسلام.