لم يكن هذا صوت علاء عبد الفتاج الذي أعرفه، لذا استمريت في قراءة النسخة الإنجليزية من كتابه لم تهزم بعد/You have not yet been defeated. اشتريت الكتاب بدافع الحب والوفاء للجار القديم في شارع فيصل، وزميل التدوين، ثم صديق العمر، وشريك الزنزانة.
لم أخطط لقراءته. قلت لنفسي أعرف ما فيه، فأنا عشت تلك الأيام، وما تلاها من سنوات الانفجار الثوري في يناير، والتقلبات السياسية على الجنبين في غمضة عين، أيام العجب والموت، المراهقة الثورية، والعهر السياسي، ثم المواقف السياسية التي تحدد نفسها بالقطيعة والعداء مع الآخرين، وأخيرًا سلطة ثقيلة تطبق على الوجوه وتطمس أي اختلاف.
وضعت الكتاب في مكان بارز على رف المكتبة، وقلت هذا كتاب مناسب للاستعراض، أشير للزائرين من الأصدقاء الأمريكان واقترحه عليهم. ربما تكون فرصة لفتح حديث يتضافر فيه الشخصي مع العام. فكما تذكر ناعومى كلاين، علاء أصبح وجهًا من وجوه مصر؛ مبرمج وناشط سياسي لديه القدرة على رؤية أزمات مصر كجزء من عالم يقوده نمط استهلاك وحشي، يستنزف موارد الكواكب، ويزرع البؤس واليأس في سكانه من البشر. هو كذلك صديق شكلت علاقتنا بتناقضاتها وتقارباتها جزءًا أساسيًا من شخصيتي اليوم.
ظلَّ الكتاب على الرف شهورًا، أهرب منه أحيانًا بحجة الخوف من النظر إلى الخلف لتجنب التحول لعامود من الملح، وأحيانًا أخرى بأني أعرف ما فيه. لكن ذات يوم فتحته لقراءة مقدمة ناعومي كلاين، فوجدتني أنجرف لقراءته كاملًا.
اختارت الأسرة والأصدقاء الذين أشرفوا على تحرير الكتاب وترجمته، تقديم علاء للقراء في شكل كتاب يضم مختارات من مقالاته التي كان ينشرها في جريدة الشروق، وعدد من المقالات الأخرى، والخطب التي ألقاها، كلها بعد 2011.
يبدأ الكتاب بمقال نشره علاء في الشروق في يوليو/تموز 2011 بعنوان من سيكتب الدستور؟. وفيه يعرض مبادرة تبناها على الإنترنت وفي الشارع لكتابة الدستور بشكل تشاركي عبر لجان محلية تتلقى اقتراحات المصريين ودمجها في بنيان وثيقة الدستور. مبادرة شبه مستحيلة، لكن واقعية 2011 كانت الحلم بالمستحيل، وكان غرض علاء منها توسيع دائرة النقاش وميدان الصراع، مثلما كان غرضه في بقية المقالات أن نفكر معًا.
تتوالى المقالات والخطب المترجمة مع التركيز على تلك التي تتناول الوضع السياسي ورحلة علاء في السجون والقضايا التي لفقت له، وكتاباته الملهمة التي ينجح أحيانًا في تهريبها خارج السجن.
عن علاء عبد الفتاح
كان هذا علاءً آخر بالنسبة لي؛ مُنظّر سياسي يظهر في التليفزيون والمؤتمرات العالمية، يتحدث بلغة مهذبة ويعافر لضبط سخريته بشكل يناسب الصحافة الورقية والخطاب الإعلامي العام. أو كما قال في حواره مع مدى مصر في 2019 "عارفين قصة علاء سيف وعلاء عبد الفتاح؟ فيه كائن وهمي اسمه علاء عبد الفتاح، ده مش أنا.. ده شخص موجود عند اﻹعلام، وفي مخيلة بعض الناس اللي بينتموا للثورة وفي مخيلة اﻷجهزة السيادية للدولة اﻷمنية.. وده في مرحلة ما في حياتي دور كنت بلعبه في المجال العام وأنا شخص تاني.. وبعدين فلت مني خالص الدور ده، وبقى فيه ناس تانية بـتكتب له السيناريو، وماشيين بيه".
أما علاء الذي أعرفه، فكان يسخر من الصحافة، ومن لغة مقالاتها. وقتها لم تكن السخرية وسيلة للمقاومة فقط، بل أداة لنزع أكاذيب عالم مبارك، وللحلم بعالم آخر مختلف، نعيش فيه بكرامة وقدر ضئيل من الحرية، يجعلنا قادرين على الإبداع وخلق معنىً لحياتنا.
قرأت الكتاب بحثًا عن ذلك الصديق القديم، لكني وجدت وجوهًا أخرى دفعتني للبحث بين السطور والفصول عن ذكرياتي الخاصة، وعن علاء آخر عرفته عبر الإنترنت والمدونات، لا المقالات الصحفية والخطب السياسية.
كنت وحيدًا، والإنترنت والمدونات كانوا سفينة تحمل وعدًا بإمكانية الخروج من البيضة
بحثت على الإنترنت عن موقع مدونة علاء ومنال فلم أجده، وحينها أدركت أن وجوهًا أخرى لعلاء في طريقها للزوال. فمع ضياع أرشيف الموقع، وأسوار السجن التي تحجب جسده وعقله اللامع عنا، لا يبقى من علاء سوى رمزية "شبح الربيع اللى فات"؛ كارت متداول في أروقة السياسة الدولية، وهدف لرغبة انتقامية لقوى خفية.
السأم من الكفاية
كنت في التاسعة عشر من عمري حين عثرت على مدونة منال وعلاء للمرة الأولى، ووجدت تدوينة له تتحدث عن حضوره مظاهرة ضد التعذيب في يونيو/حزيران 2004. لم أكن أعرف وقتها أن هناك تعذيبًا في مصر، ففي عالم ما قبل 2008 كان عنف الشرطة أو تعذيبها يُسمّى تأديبًا، ونتعلم في المدارس والسياقات الاجتماعية أن "شلوط الحكومة دفعة للأمام".
حكايات التعذيب، أو اعتداء الشرطة على المواطنين، نتبادلها باعتبارها نكاتًا وحكايات طريفة. بل إن أول فيديوهات تعذيب انتشرت في مصر، كانت من تصوير الضباط أنفسهم؛ يوزعونها وينشرونها تفاخرًا بالإنجازات، أو باعتبارها مقاطع طريفة ومضحكة.
في جريمة تعذيب عماد الكبير التي حازت اهتمامًا إعلاميًا محليًا وعالميًا، شكّلت إدانة الضابط الذي ارتكبها دافعًا لضحايا آخرين للظهور وفضح التعذيب الممنهج في زمن مبارك. دليل الإدانة الأول في القضية كان فيديو يتداوله الناس، عبر البلوتوث، باعتباره فيديو كوميديًا. ويظهر فيه ضابط شرطة يعذب مواطنًا ويغتصبه شرجيًا باستخدام عصاً غليظة.
طبعًا كان هناك خطاب حقوقي ضد التعذيب، يتشكل من عدة منظمات حقوقية سمح لها النظام بالعمل في مصر منذ الثمانيات لكن في إطار ضيق، وأبعد مدى قد تصل إليه تقاريرهم عن التعذيب، هو خبر صحفي في جريدة معارضة. وبالتالي ظل الخطاب الحقوقي المصري محصورًا في تقارير وأنشطة منظمات حقوقية لا يتجاوز عددها أصابع اليد.
علاء، بحكم نشأته ابنًا للمحامي الحقوقي أحمد سيف الإسلام، كان جزءًا من ذلك الحراك الضيق. لكن الإنترنت سمح لذلك الخطاب بالخروج من حصار البيضة المباركة ليصل لشاب مثلي، كان أفضل ما يجده في الصحافة المصرية وقتها حملات عادل حمودة عن الفضائح الجنسية في وزارة الزراعة.
لكن ما جعلنى ألتفت لمدونة علاء وأتوقف عندها، لم يكن تغطيته للمظاهرة في 2004 ورفعه صور وفيديوهات منها، بل لأنه كتب أن المظاهرة كانت بضان أو طبقًا لنص تدوينته "frankly it SUCKED".
ففي 2004، بدأت تظهر بوادر حركة كفاية كحركة سياسية واجتماعية ضد التوريث، وضد استمرار مبارك في الحكم. كنت سئمت، مثل جيلي من مواليد الثمانينيات، من عشرين عامًا لا أرى فيها سوى قفا مبارك وابتسامة البقرة الضاحكة في كل مكان. لكني كنت أكثر سئمًا من عواجيز كفاية، الذين جاؤوا محملين بميراث سنوات العمل السياسي السري، وأثقال الأيديولوجيات القومية القديمة.
كل شيء في البلد كان قديمًا وراكدًا، لكنه في ذات التدوينة، ورغم قرفه من المظاهرة، يقول "ليس لي أن أشتكي فأنا لم أساهم في التنظيم".
سفينة الوعد
إذا عدنا لأرشيف مدونة منال وعلاء المحفوظ منها نسخة على موقع أرشيف الإنترنت، سنرى كيف تحول القرف والسأم لديه من كفاية ومظاهراتها، إلى دافع لأن يبدأ هو الدعوة لمظاهرات أخرى تغيِّر من شكل التظاهر والتعبير عن الرأي في الشارع والإنترنت.
نفَس جديد يسري في الجسد المتحلل. وتقنيات وألعاب مستحدثة في التظاهر والعمل السياسي والتعبير عن الذات. مظاهرات يتم تصميم بوسترات لها، دعواتها تنشر على الإنترنت مع تحديد المكان والزمان دون خوف أو استسلام لتقاليد المعارضة السرية، مظاهرات فيها شباب يحملون البالونات، أو "شباب من أجل التغيير" يسيرون في زفة بلدي يدقون الطبول والآلات الموسيقية على وقع الهتاف برحيل مبارك، أو مظاهرة عند جامع السيدة زينب لكنس عتبتها والدعاء على الظالمين وجلادي التعذيب.
كان ما يحدث غريبًا ومريبًا ليس للسلطة فقط، بل حتى للمعارضة المتكلسة. هناك تدوينة من يونيو 2006 لعلاء، يسرد فيها شهادته عن وقائع مظاهرة نظموها أمام مبنى أمن الدولة في لاظوغلي. وهذا المرة لم تكن المظاهرة بضان، بل كان علاء فَرِحًا باستمرار التصعيد والمظاهرات التي تحولت لفعاليات شبه شهرية.
يقول في تدوينته إن العدد يزيد، وهناك دائمًا وجوه جديدة. لكنه ينتقد المنظمات الحقوقية لأنها لم تنضم للمظاهرة واكتفت بندوة في نقابة الصحفيين. وكذلك غابت كفاية، أو على حد تعبير علاء "كفاية فين بقالهم شهر؟ ولا هما اكتفوا بأن يتقال إنهم هم اللي نظموا كل حاجة من غير ما يتحركوا، ولا بلاش دي الإخوان و[حزب] العمل فين ولا التعذيب عاجبهم؟".
كان ما يُنشر على المدونات بمثابة ضوء يتسلل من شقوق عتمة الجدران. أعرف أن بعض القراء لا يمكنهم الآن تخيل العالم بدون إنترنت، أو تصور الحياة في مصر مبارك حيث مصادر المعلومات والمعرفة المتاحة لك هي ما يسمح به صفوت الشريف وفاروق حسني فقط. نحن لم نكن قادرين حتى على معرفة مدى تخلفنا، ومدى الشقاء والبؤس الذي نحيا فيه، لأن العتمة توهمك أن بؤسك إنما هو من قوانين الطبيعة، ولا أمل في المواجهة.
علاء كان يدرك هذا، لذا كان يخاطب أمثالي الذين يقرأون ويتابعون على الإنترنت، ويقول لهم "قبل ما أحكي رجاء تجاهلوا الصحافة تمامًا، لا مصري ولا عربي ولا أجنبي، لا نت ولا ستالايت ولا ورق، دي عالم مش عاوزة تعمل شغلها". وفي المقابل يدعونا لمتابعة المدونات التي كان عددها قليلًا، لكن بسبب مدونة علاء ومنال عرفت مدونة مصطفى، وصاحب الأشجار، ونورا يونس الوحيدة التي كانت تغطيتها لأخبار محاكمة أيمن نور تكشف عبثية محاكمة المرشح الرئاسي السابق.
كانوا يكتبون بأسمائهم الحقيقة، وينشرون صورهم الشخصية، وكنت اكتب باسم مستعار، أقل ثقة في نفسي، وأقل اهتمامًا بالشأن السياسي رغم أهميته. كنت وحيدًا، والإنترنت والمدونات كانوا سفينة تحمل وعدًا بإمكانية الخروج من البيضة. البيضة التي رقد مبارك عليها 30 عامًا، حتى فطَّس البلد وفطَّس أرواحنا.