بصرف النظر عما كانت تستهدفه مصر الرسمية وما حصلت عليه من استضافة قمة المناخ، فقد كشفت الأخيرة عن كوميديا سوداء أدارتها مصر الشعبية في أول احتكاك كبير لها بالعالم بعد يناير 2011.
كانت مصر الدولة الإفريقية الوحيدة التي تقدمت لاستضافة القمة فنالت الموافقة. ولا بد أن ذلك بدا للسلطة نصرًا دبلوماسيًا كبيرًا يكشف مدى رضى العالم عنها، بحضور ذلك العدد من الدول والزعماء، وربما وجدت فيه فرصة لإخراس من يعتقدون بأن المدرسة أهم من الكوبري.
ولا يبدو أن طلب استضافة المؤتمر قد سبقته دراسة مخاطر. ربما كانت هناك فكرة تقريبية عن وجود أقلية فضولية من الفوضويين الذين يحملون الصفة المستهجنة "ناشطون"، يتنقلون خلف اجتماعات القادة، ويتطفلون عليها ببعض الاحتجاجات، التي تذهب مع الريح بعد كل قمة.
وربما الأسوأ في الموضوع أنهم، النشطاء، يجب أن يذهبوا آمنين خلف كلامهم البغيض، دون أن يجربوا الإقامة السوبر لوكس في مراكز الإصلاح والتأهيل الحديثة.
كان اختيار شرم الشيخ مكانًا للمؤتمر وعروض الاحتجاجات المصاحبة له موفقًا بالطبع؛ فهي المكان الحصين بين البحر والجبل، ليهتف المتظاهرون الأجانب بما يشاءون من كلام، فلن يجد له منفذًا إلا جهة السماء. ومسارات الكلام نحو السماء معقدة وبطيئة.
وقد سبق لشرم الشيخ أن فتحت ذراعيها لمؤتمرات دولية كبرى، أكدت عدالة القضية الفلسطينية، وإجرام إسرائيل، ولم يحدث شيء حسن لفلسطين أو غير حسن لإسرائيل.
كانت السلطة في الحقيقة واعية بما هي مقدمة عليه، بآمال كبيرة في الكسب ومخاوف صغيرة من الخسارة. المشكلة في السكان الأصليين، وهم الذين صنعوا صورة غير مستحبة لمصر الحبيبة؛ فهم مثل الأطفال الخبثاء أغرتهم فرصة وجود الضيوف للقيام بالشغب وتذوق طعم الاحتجاج، وليكن ما يكون بعد انصراف الضيوف.
مصر الشعبية غير محصنة ضد العزل، وتصدق أحيانًا في طيبة قلب الضيوف. لذا خرجت دعوات للتظاهر في 11/11 في باقي أرجاء البلاد وليس في شرم الشيخ وحدها، والسلطة التي تعرف سوء أخلاق السكان الأصليين استعدت، وأجهدت نفسها، ولم يتظاهر أحد. وهنا مربط الفرس.
مرَّ يوم الوعيد في صمت واقتصرت المظاهرات على شرم الشيخ، فبدت المدينة الحبيبة مثل هونج كونج؛ شوكة في قلب الصين
ربما لو قامت مظاهرة هنا وأخرى هناك خارج شرم الشيخ وفُرّقت بخراطيم الماء واعتقال "الناشطين"، لكان أفضل لجميع الأطراف، بدلًا من الاعتقالات الوقائية دون مظاهرات. لكن يوم الوعيد مرَّ في صمت، واقتصرت المظاهرات على شرم الشيخ، فبدت المدينة الحبيبة مثل هونج كونج؛ شوكة في قلب الصين.
مظاهرات صاخبة من أجل المعتقلين، رغم أن شرم الشيخ "إيجيبشان لاند" كما قال النائب الذي اشتهر على تلك البقعة من الأرض، والذي أراد أن يُفحم الناشطين؛ فلخَّص وضع مصر باقتدار أكثر مما لو تظاهر 105 مليون ناشط.
تسبب النائب في كشف طبيعة العلاقة بين السلطات في مصر، وكشف حال السكان الأصليين المؤيد منهم والمعارض؛ لحظة إخراجه من خيمة الأمم المتحدة قالت ما تعجز عن قوله الكتب. المفارقة في بسطة الجسم بين النائب وفرد الأمن الأممي أنبأت عن قدرة الخارج على الغضب.
هكذا كشفت اللحظة عن علاقة الخارج بالداخل، عن بنية السلطة، وعلاقتها بالسكان، والأهم علاقة السكان ببعضهم البعض. هناك مشكلة كبيرة على تلك الأرض بين أخلاط من البشر متبايني الاتجاهات، لا يتكلمون لغة واحدة، وليس هناك من استعداد لتغيير شيء من القناعات.
باختصار بدت صورة مصر وكأنها خرجت فجأة للنهار؛ فأعشت عيونها أشعة الشمس التي أشرقت في شرم الشيخ.
لماذا يرفضون ملاحظات الاستعمار السلبية ويبتهجون بابتسامته؟
"الخروج للنهار"هو مسمى البعث في بلاغة أجدادنا الفراعنة. وضع المصريون ذلك العنوان الشعري للنصوص التي تُصور لحظات عودة الميت إلى الحياة وعبوره إلى عالم الخلود. وجعلت الترجمات الغربية العنوان "كتاب الموتى"، وأعتقد أن فضل تصحيحه إلى "الخروج للنهار" يعود إلى الباحث والمترجم شريف الصيفي، لأنه يترجم إلى العربية عن الهيروغليفية مباشرة.
أحببت أن أكشف استعارتي للعنوان من كتاب البعث الفاتن، الذي يصور الرحلة إلى دار الخلود، كطريق للخوف تعترضه عشر بوابات عبور، تنفتح كل واحدة منها عندما يهتف المستيقظ من الموت أمامها بأنه لم يرتكب كبيرة من كبائر القتل والظلم وتلويث مياه النيل.
استعارتي آملة، أكثر منها واقعية؛ فبيننا وبين البعث طريق طويل، كشفته قمة المناخ. نائب مجلس النواب ينتمي إلى السكان، هو نائب عنهم، عمله مراقبة السلطة التنفيذية، ولا يصح أن يتحدث نيابة عنها. هو معني بتصحيح مقولاتها وسلوكها عندما يجدها على خطأ، وليس تصحيح خطأ فرد من السكان الأصليين. الفرد يرد عليه فرد، ليبقى المجلس ساميًا في مكانه.
هذه المسألة لم يدركها قطاع من السكان الأصليين واللجان التي هبَّت لنصرة النائب، ولأنهم يجهلون طبيعة قمة المناخ وتنوع ملفاتها فوجئوا بملف حقوق الإنسان يُطرح بذلك الإلحاح. من الواضح أنهم كانوا يتصورنه مظاهرة ضد البلاستيك والدخان، يسايرها قادة الدول بوعود محاربة البلاستيك والدخان.
هكذا رأوا أن ذلك المؤتمر فخ استعماري، جاء لتخريب الاستقرار بإثارة اللغط حول ملف حقوق الإنسان في الإيجيبشان لاند بالذات. لكن ذلك القطاع من الإيجيبشان بيبول عاد وافتخر بصور الرئيس مع رئيس الولايات المتحدة ورئيسة مجلس النواب. وقد بدا الضيفان الأمريكيان راضيين تمامًا وودودين.
لماذا يرفضون ملاحظات الاستعمار السلبية ويبتهجون بابتسامته؟
بالمنطق، إما أن العالم يستهدف إيذاء مصر، فيجب أن نحتاط من مظاهر الود، أو أنه لا يستهدفها وأننا نحن الذين نعاني من مشكلة يجب أن تُحل. لكن للأسف، تبدو الغيرة الوطنية منفصلة عن أي منهج تفكير.
لماذا ندافع عن استقلال القرار الوطني بالأرواح إذا تعلق الأمر بمطالبات الإفراج عن المعتقلين، بينما لا نرى في شروط صندوق النقد مساسًا باستقلالنا؟ في ذلك الازدواج تبدو رداءة مُنتَج السناتر التعليمي، وأشياء أخرى كثيرة يعرفها علماء النفس؛ فعندما يزداد منسوب الخوف يعبث بالضمير ويجعل الناس تغالط نفسها، ويطلق طاقات عدوانهم فيتسابقون لإدانة الضحية، سعداء لكونهم ليسوا في مكانه.
أمِلَت مصر أن تحصل في المؤتمر على مساعدات ضخمة من الدول الغنية الأكثر تلويثًا للبيئة، لها وللدول الإفريقية، وذلك نوع من الفعالية الضرورية لمصر وسط جيرانها. أشادت وسائل إعلام دولية بالمفاوضين المصريين ووصفتهم بـ"العنيدين" لكن تلك الإشادة ظلت في الظل، وبقيت الكاميرا مع الملف الحقوقي وسجناء الرأي.
وأخذت المواجهة بين المعارضين والمؤيدين وجهًا فكاهيًا، يذكرنا بالمواجهة بين سيوف المماليك ومدافع نابليون.
اللقطة التي نافست النائب الوطني كانت للنساء الوطنيات اللائي انتفضن لمناصرته في مظاهرة موحدة الزي. فتاة من ذوات الزي الموحد أخطأت أمام الكاميرا في اسم النائب الذي جاءت لدعمه، ونسيت اسم السجين الذي جاءت لتدينه في محبسه. ثم كانت ضجة ثريد تويتر المنشور على حساب صحفي يحمل اسم "مصطفى"، استطاع بتقنية تحليل الصور كشف شخصيات قائدات مظاهرة النُصرة، مستخدمًا مصادر مفتوحة للجميع.
بدأت حرب مقدسة على الصحفي. اعتبر الغاضبون الكشف عن هويات قائدات نصرة النائب عدوانًا على خصوصياتهن، وذلك دليل إضافي على مستوى تعليم السناتر ؛ فالنساء قائدات في العمل الاجتماعي، ولسن ربات بيوت متخفيات في الخباء. والصور التي استدعاها الصحفي كلها منشورة من قبل، في مناسبات عامة، ولم يستخدم وسائل غير مشروعة كتفتيش موبايلاتهم عنوة، ولا تلقاها مُسرّبة من أي سامسونج. هي إمكانية وضعتها التكنولوجيا في يد صحفي تجاوز تعليم السناتر الصحفية.
كل تلك الاختلافات بين السكان الأصليين هي ما صنعت زوابع شرم الشيخ، وعكست الخلاف الأخطر من الخلاف على هذا الملف أو ذاك، وهو الخلاف على كلمات شديدة الأهمية كـ: الوطن والوطنية والشرف والأمانة.
عندما تتحقق مصالح الجميع بقدر معقول من العدالة، يصبح ما نسميه "الوطن" آمنًا
تحولت تلك المفردات على مدى العقد المنصرم إلى كلمات خطرة قتَّالة، يستخدمها المختلفون دروعًا، مما يعيق الخروج إلى النهار، ويشوش المرايا. فهي تجعل كل طرف يرى نفسه الوطني والآخر الخائن، يرى نفسه الشريف والآخر الوضيع.
الذين دعوا إلى مظاهرات 11/11 دعوا إليها باعتبار أنهم الوطنيين، والذين رفضوها رأوا الداعين خونة ورأوا أنفسهم الوطنيين الشرفاء. ذلك الخلاف اللغوي هو ما يفسر عدم استجابة الصين لحراك هونج كونج المؤقت. وذلك لا يعني فشل الداعين إلى المظاهرات ولا إلى نجاح السلطة.
لا تعبر تلك النتيجة عن موازين القوى بين الطرفين، لكنها تعبر عن وجود نسبة لا يُستهان بها من السكان الأصليين تحترم المنهج، وتريد معرفة الطريق بشكل عملي. هذه الفئة المنهجية ترى الخطر في التغيير الانتقامي من جهة والثبات العنيد المكلف في الجهة الأخرى، وتمترس الطرفين خلف كلمات تبلبلت معانيها.
لهذا قد يتمثل الحل الآمن في تعليق العمل بالكلمات التي تعرضت للانتهاك خلال العقد الفائت: الوطن، الشرف، والأمانة.
يجب أن يتعلم الجميع لغة المنافع والأضرار على الأرض، ولنتحدث عن أرض، عليها بشر مصالحهم متباينة، تحكمهم سلطة مسؤولة عن التوفيق بين مصالح مختلف الشرائح والفئات. وعندما تتحقق مصالح الجميع بقدر معقول من العدالة، يصبح ما نسميه "الوطن" آمنًا.
ولا مجال لتعظيم أثر الخارج سلبًا أو إيجابًا. نعم، للخارج دخله في أوضاع أي بلد بحُكم تشابك العالم، والخارج ليس نبيًا، وبالتالي يمكن شراء رضاه. لكن تكلفة رضاه عالية وتتزايد باستمرار، ومع ذلك فهذا الرضا ليس حاسمًا في المصائر.