
مربط التريلا
في كارثة دماء النساء
"كارثة عرايس الجنة"، "شهيدات لقمة العيش"، "19 زهرة ذبلت في يوم واحد"؛ أبدعت الصحافة في ابتكار عناوينها لتغطيات كارثة مصرع 18 فتاة ورجل واحد من قرية السنابسة بالمنوفية يوم الجمعة الماضي. وهي عناوين ممتازة لا يمكن لصحافة محشورة في زاوية البلاغة أن تأتي بأحسن منها. وكان على الصحافة المنكوبة في حريتها أن تجد جوانب مشرقة في المأساة، فنسبت إلى الأهالي إشاداتٍ وارتياحًا لسرعة تحرك الشرطة وقبضها على سائق التريلا الذي سحق ميكروباص الضحايا.
والناس بالطبع في وادٍ آخر، يقرأون بعضهم البعض على السوشيال ميديا، ولا يقرأون من الصحافة ولا يشاهدون من الإعلام إلا القليل، وهو كافٍ لتغذية غضبهم.
بلاغة عمياء
لا أخاطر بالقول إن منسوب الغضب الذي أثارته الكارثة هو الأعلى خلال سنوات، ربما هو الأعلى خلال هذا العام، ومن الواضح أن هذا الغضب هو السبب المباشر لرفع مستوى التعويضات، وفي هذا السياق لا يمكن لردٍ أن يزيد على ما صاغه أمل دنقل شعرًا في سياق آخر؛
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
الأبناء أغلى من نور العينين، ولو خُيِّر كل فاقد لابنته بين نور عينيه والفتاة لاختارها.
جاء الحادث في الذكرى السنوية لحادث معدية أبو غالب في الجيزة الذي راح ضحيته المعدل ذاته من الضحايا، وكُنَّ من البنات أيضًا، وكُنَّ ذاهبات لجني العنب أيضًا، الأمر الذي يبرر عناوين أخرى ظهرت من قبيل "فتيات العنب" و"صبايا العنب" وهو أقل بلاغية وبالطبع يجتزئ الصورة.
تصريحات الوزير المسؤول رفعت من منسوب البلاغة، وحظيت بالنصيب الأكبر من ردود الفعل، وبينها ردود قوية جدًا لإعلاميين في حجر النظام. حديثه عن شرف الجندية عظيم. وقد كان الوزير كامل الوزير ملهمًا بتذكير من نسي بأنه جندي، ولن ينسحب من الميدان، وأنه تعلم في الفنية العسكرية كيف يكون مخترعًا.
الاستعداد للتضحية هو شرف الجندية بحق، لكن الجندي لا يقرر الحرب أو الانسحاب من تلقاء نفسه، بل هناك قائد هو من يُصدر الأمر للجندي بالانسحاب عند الضرورة. وأما قوله بأن الكلية العسكرية تجعل من يدرس فيها ملهمًا في كل شيء، فهذا هو جوهر العقيدة العامة الحاكمة ولا يخص أحدًا بعينه من العسكريين، لكنه شيء من طبيعة المهنة ونوع التعليم الذي يتلقاه طلاب الكليات العسكرية، والثقة التي تُبث فيهم، وهي ثقة لازمة لأغراض الدفاع عن الوطن وعدم التردد عند الحرب، لكنها تزيد على المعدل المطلوب وقت السلم.
عمالة النساء
على أي حال؛ كل ما جاء بعد الكارثة مذهل مثلها، كما أن الكثير مما يجب أن يقال عنها بوصفها حادثًا مروريًّا قد قيل. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية انتبهت إلى البُعد الجندري في كوارث النقل والطرق. الحادثان الكبيران بالفعل ضحاياهما نساء، وهذا ملف ثقيل جدًا، بحاجة إلى أن يُفتح، لكنه ليس بعيدًا عن الإفقار الذي لا يتصوره أحدٌ للريف، ويعكسه تصاعد عمالة الصبايا في أعمار الطفولة وبينهن متفوقات في الدراسة لا يتاح لهن التفرغ للمهمة الأساسية: التعليم.
المختلف في هذه الكارثة عما سبقها أن الضحايا لم يعدن أرقامًا، فلكل منهن قصة تعتصر القلب رواها الإعلام الشعبي على السوشيال ميديا. وهذه المرة، كما في كل مناسبة قتل للبنات أعيد طرح قضية حقوق المرأة العاملة في الزراعة وتقصير الدولة في حمايتها من الاستغلال في الأجر والعنف الذي يشمل التحرش.
وبالمناسبة، دفع محامي المتهمين في قضية معدية أبو غالي بأن موكله كان يدافع عن الفتيات ضد متحرشين. ولم يعد أحدٌ يذكر هذا الخيط في القضية التي تداولتها محكمة الجنح باعتبارها قضية قتل خطأ وصدرت فيها أحكام القتل الخطأ المعروفة.
أصوات في البرلمان ارتفعت هذا الأسبوع بالغضب والسؤال عن محاور الطرق، تكلفة الإنشاء وسرعة التلف والحجم الضخم للإصلاح؟ طالبوا بمثول الوزير أمامهم، ولكن بِمَ ينفع الغضب. قال النائب ضياء الدين داود إن بين المسؤولين عن الطرق "هيئات وجهات لا يمكن أن يستدعيها البرلمان"، هذا هو مربط التريلا!
ليس في الإعادة إفادة، خصوصًا أن المناقشات تدور في إطار مسلَّمات خاطئة أو قاصرة على أحسن تقدير، من هذه المُسلَّمات أن هذه الطرق أقيمت من أجل التنمية ولا ينبغي أن تتحول إلى مصايد للموت، فهل هي كذلك حقًا؟
حتى من ينتقدون يتبنون السردية المعلنة حول ضرورة المحاور، لا يذهبون أبعد من التساؤل حول التفاصيل، بينما يغيب النقاش عن البدائل التي كانت ممكنة.
لا يمكن اعتبار مذابح الأشجار من أجل كباري القاهرة قَدرًا وضرورة لا فرار منها إلا إذا كانت هذه المدينة هي كل مصر، لكن بالنظر إلى الخريطة الإجمالية للدولة فالبديل يقع خارج القاهرة. لنتصور كل هذه الخرسانة هياكل مصانع ومدارس!
التنمية الحقيقية للأطراف من شأنها أن تسحب الكثافة السكانية من المركز المرتبك. والمحاور الإقليمية كان لها بدائلها الأكثر أمانًا وهي خطوط سكك حديدية في الصحراء. وكمثال على هذا. معظم شاحنات طريق بنها الحر تخدم مدينة العاشر من رمضان، تخترق الزراعة لتسير في طريق الإسكندرية الزراعي، وفي الاتجاه المعاكس تمامًا امتداد الصحراء، وكان من الممكن لخط سكة حديد أن يوصل تلك المدينة الصناعية بميناء السويس بدلًا من الإسكندرية.
ثيران في مزرعة دجاج
جذور احتقار النقل بالسكك الحديدية بدأت منذ عقود، جرى ضرب قطاع النقل بالسكك الحديدية والتوسع في النقل البري واستيراد التريلات. وكان من الممكن أن يجري التصحيح وإعادة الاعتبار للقطاع الأرخص والأكثر أمانًا والأقل تكلفة، لكن الذي حدث كان العكس، ببناء المحاور التي اخترقت الأرض الزراعية.
وبصرف النظر عن خسارة الأرض الخضراء التي أقيمت عليها هذه المحاور فقد اقتحمت مجتمعات بطيئة لا تلزمها السرعة، فوجئوا بحركة المحاور مثل من يفاجئه قطار يدخل من نافذة غرفة نومه. إذا أردنا تشبيهًا من بيئة الفلاحين لتداخل النقل الثقيل مع وسائل النقل الفقيرة فهو يشبه إفلات ثور في مزرعة دواجن أو العكس (تربية الكتاكيت تحت حوافر الثيران)، سواء تعاطى سائقو الشاحنات المخدرات أو لا، فالخطر قائم من هذا التجاور، في طرق مفتوحة فسيحة، ومتقشفة الخدمات والبنية.
الحكومة بيدها شهادة دولية على فخامة هذه الطرق، فقد صارت في المرتبة 18 على المؤشر الدولي للطرق قافزة 100 موقع في عشر سنوات. ألا يدعو هذا للفخر؟
لكن المؤشر العالمي يصدر عن موسسات دولية هي المنتدى الاقتصادي العالمي ومنظمة الصحة العالمية والاتحاد الدولي للطرق والبنك الدولي، ويعتمد على آراء رجال أعمال وخبراء وبيانات الحكومات. ودون الدخول في النوايا؛ يكفي أن تكون للبنك الدولي كلمة في شأن كهذا، فهو يُحفز الاقتراض من أجل الطرق.
ولطالما أشادت المنظمات الدولية بأداء دول وأنظمة حتى وقعت الكارثة. ويمكن ببساطة مراجعة تقارير التنمية الدولية عن مصر في الأعوام التي سبقت سقوط مبارك. هذا لا يعني أن التقارير مزورة لكن الأرقام عمياء. كانت مصر تنمو، وربما لم تزل تنمو إلى الآن، لكن من الذي ينمو وعلى حساب تدهور أحوال من؟ هذا سؤال لا يعني المؤسسات الدولية في شيء، لكن عدم الإجابة عليه تجعله قنبلة موقوتة.
الطرق قبل البشر
إذا ما وضعنا مؤشر جودة الطرق في مواجهة الوقائع التي نعيشها ونلمسها وتعتصر قلوبنا فالوقائع أصدق. هناك حوادث كثيرة ضحاياها أقل ويقتصر حزنها على القرى المنكوبة في ضحية أو اثنتين، وليس أدل على ذلك من الحادث الآخر الذي مرَّ من جانبه موكب الوزير وهو يتفقد الطريق، الذي تعامل معه البعض باعتباره رد القدر على تصريحاته، بينما هو في الحقيقة حدث يومي، خصوصًا في المحاور الخاضعة لإعادة التأهيل.
الحقيقة المؤكدة أن الطرق ليست قضية مقطوعة الصلة بواقع التنمية في مصر، والأمر نفسه ينطبق على الواقع المرير للمرأة العاملة في الزراعة. كلاهما يتعلق بإدارة الموارد البشرية والمادية وتدهور العدالة وافتقاد التوازن. وفي القلب من هذه المعايير المختلة يقع الريف أرضًا وبشرًا. يواصل الاختناق بسكانه بينما تزم الرقعة عليهم شيئًا فشيئًا ببناء المحاور التي يمكن النقاش حول ضرورتها والبيوت التي ليس هناك مفر من بنائها، لأن الريف منذور للعمالة الرخيصة بتواطؤ صامت.
لم تفلح كل جهود استصلاح الأراضي في توسيع رقعة العمران، لأن الدولة لم تبادر بإنشاء قرى ولم تُلزم كبار المستثمرين الزراعيين ببناء مثل هذه القرى لينزح إليها من يريد العمل فيها، وهذا ما يُفسر عودة ظاهرة عمال التراحيل التي كانت تقلصت بقوانين الإصلاح الزراعي.
ولم تساهم المناطق الصناعية الجديدة في توسيع هذه الرقعة لأن الدولة تضع أسعارًا لأراضي البناء في الصحاري لا تتناسب أبدًا مع دخل العامل لكي تيسر له الإقامة بالمدينة بالقرب من مصنعه. وهكذا ظل ثقل العمال على الأرض الزراعية المحتقرة.
وبات من المعتاد أن تُحمل النساء إلى أراضي الإقطاع الجديد لجني العنب، ويُحمل الرجال إلى المصانع في أوتوبيسات أفضل حالًا من عربات النقل التي تحمل الفتيات، وكلاهما تترصده الشاحنات التي لا ترحم في محاور خُططت على خريطة، وقطعت أوصال الأرض الزراعية كما تُقطَّع صينية بسبوسة دون النظر إلى البشر والدواب فوق تلك الأرض، مثلما هبط على تلك الأرض وأولئك البشر مشروع تبطين الترع وانتهى دون اكتمال، ودون أن يُسأل أحد عن جدوى البدء وجدوى الانسحاب ولا عن مليارات المغامرة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.