تصميم نور الدين
...

اقتصاد العمالة المؤقتة وابتلاع الملايين

منشور الأربعاء 9 يوليو 2025

عرف النشاط الزراعي في مصر العمالة المؤقتة والموسمية منذ وقت طويل باعتبارها شكلًا من أشكال العمالة غير المنتظمة. ليس فقط عمال التراحيل الذين يَشْقُون في تطهير الترع وتعلية الجسور، بل أيضًا الأطفال الذين يجمعون دودة القطن وشتل الأرز وغير ذلك من الأعمال الموسمية، ومن بينها جمع العنب الذي أودى بحياة 18 فتاة من محافظة المنوفية في حادث أليم وقع نهاية الشهر الماضي.

تعتمد الكثير من أعمال الزراعة الموسمية على قدرة الأطفال تحديدًا على الانحناء وبذل الجهد لوقت طويل، كما تستطيع أصابعهم الدقيقة نزع لوزة القطن من أعماقها ولا تفسد أوزانهم القليلة استواء الأرض الرطبة وخطوطها. 

لذلك، فإن الفتيات اللواتي لقين حتفهن في طريق الموت نهاية يونيو/حزيران الماضي وهنَّ في طريقهن لقطف العنب لم يكُنَّ استثناءً، إذ يُقدِّر مركز البحوث الزراعية أن العمالة الزراعية المؤقتة تبلغ نحو 2.6 مليون عامل. فيما يبلغ حجم عمالة الأطفال في مصر نحو 1.6 مليون طفل، 83% منهم يعملون في الريف.

هذا النموذج من العمالة غير المنتظمة التي تعمل بلا ضمانات كان في عام 2014 محط اهتمام المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي عندما سأله أحد الإعلاميين البارزين عن تصوره لحل مشكلة البطالة، ليجيب متحدثًا عن توفير سيارات نصف نقل يستخدم الواحدةَ منها شابان من جيوش العاطلين في شراء الخضار بسعر الجملة من سوق العبور، ثم بيعه بسعر التجزئة في بقية أحياء القاهرة وغيرها من المدن.

يعمل هؤلاء بلا شهادات ولا ضمانات ولا تأمينات بل بلا مرتبات من الأساس معتمدين على بقشيش الزبائن

أصبح المرشحُ رئيسًا، وتصوراتُه بتعزيز العمالة غير المنتظمة باتت برامجَ تطبقها حكومات متعاقبة، يغيب عنها أي تخطيط اقتصادي كفء يشجع المشروعات كثيفة العمالة في الصناعة والزراعة وغيرهما. وفي ظل تدهور الموازنة العامة، مع الاضطرار لدفع معظم موازنتها لسداد أقساط الديون وفوائدها التي تتزايد سنة بعد أخرى مع استمرار الحكومة في الاقتراض المنفلت، تضاءلت قدرة الحكومة على الاستثمار وتنفيذ مشروعات اقتصادية كبيرة زراعية أو صناعية تعتمد فكرة العمالة الكثيفة.

ومع الإمعان في سياسة بيع الأراضي والمصانع ومحطات الوقود والتنازل عن الجزر لتدبير المال اللازم لسداد أقساط الديون، اضمحلت قدرة الدولة على الاستثمار، ما يعني زيادة البطالة حيث ترتب على بيع بعض المصانع تعطيلها وتسريح عمالها. ووفقًا لآخر إحصائية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بلغت معدلات البطالة سنة 2023 نحو 7% من إجمالي قوة العمل.

ويزيد من تفاقم مشكلة البطالة وقف التعيينات في الكثير من الجهات الإدارية الحكومية، ليتسلل مفهوم العمالة المؤقتة والهامشية إلى قطاعات مهمة وحيوية مثل التعليم، الذي بات يعتمد على أشكال من العمالة غير المنتظمة مثل معلمي الحصة أو التعاقد المؤقت أو المعلم المتطوع، وهي كلها أشكال قاصرة لا تنتج تعليمًا حقيقيًا.

دوامة غير نظامية

نضال العمال في مواجهة أصحاب العمل

في هذا السياق الذي يدفع ملايين المصريين نحو العمالة المؤقتة وغير المنتظمة، تزايدت القطاعات التي تعتمد على هؤلاء وغطَّت خدمات حيوية عجزت الحكومة عن الوفاء بها للمواطنين. 

من بين هؤلاء سائقو التوكتوك، بعد أن اقتحمت هذه المركبة الصغيرة مجال المواصلات في القرى والأحياء الفقيرة منذ نحو عشرين عامًا في ظل حكومة أحمد نظيف الأولى عام 2004. ومع تدفق مكاسبه المعقولة وانخفاض مصروفاته من تراخيص وضرائب وتأمينات، راح ينتشر انتشارًا هائلًا ويغزو مختلف المحافظات والقرى والأحياء.

في عام 2021، قدَّرت رابطة مالكي التكاتك في مصر عددها بنحو 5 ملايين و400 ألف توكتوك، المرخص منها أقل من 300 ألف، أي نسبة لا تزيد على 7%. فلو افترضنا أن التوكتوك يعمل ورديتين، بسائقين اثنين، لأصبح لدينا ما يزيد على 10 ملايين سائق توكتوك.

ومع عدم الاضطرار لترخيص التكاتك، أصبح العمل عليها فرصة سانحة للأطفال الذين لم يستخرج بعضهم حتى بطاقة شخصية. ومع هؤلاء الأطفال العديد من أرباب السوابق، ما تسبب في تزايد المشكلات المرتبطة بهذا التوكتوك، من فرض تعريفة ركوب بأساليب البلطجة، وتعاطي المخدرات، وغيرها من الجرائم.

ومع كل هذا، يتعرض الملايين من سائقي التكاتك لأبشع أشكال الاستغلال، من العساكر وأمناء الشرطة الذين لا يطبقون القانون بالضرورة، بل ومن أصحاب التكاتك أنفسهم، مستغلين حاجة هؤلاء للعمل الذي لا يتطلب شهادات خبرة أو أي شهادات دراسية.

وهناك مجال آخر ينشط فيه ملايين المصريين كعمالة غير منتظمة، وهو طيارو الدليفري، الذين تقدر بعض الدراسات عددهم بنحو 6 ملايين شخص. يعملون لصالح الصيدليات ومحلات البقالة والمطاعم، أو لصالح تطبيقات الطلبات المنزلية المتنوعة، وغالبيتهم يتعرضون لأبشع أنواع الاستغلال.

يعمل هؤلاء بلا شهادات ولا ضمانات ولا تأمينات بل بلا مرتبات من الأساس معتمدين على بقشيش الزبائن، وفى أحيان كثيرة يضطرون لدفع إتاوات باهظة، وبعضهم يضطر لتأجير الموتوسيكل واليونيفورم الذي يحمل اسم ولوجو المحل.

ويمكن أن نضيف إلى تلك العمالة اليومية المؤقتة عمال الأسواق الشعبية الذين ينظفون الأسماك والخضار وغيرها نظير بقشيش المشتري، ومعهم العمالة الموسمية والمؤقتة في الفنادق والقرى السياحية، التي يزداد تشغيلها في شهور الصيف. 

يعمل هؤلاء الشباب والفتيات في مواسم الذروة خدمًا وحراسًا ومنظفي شواطئ ومسؤولين عن الشماسي والكراسي. يعيشون ظروفًا بالغة القسوة في غرف سكن متكدسة، وكلهم يعرفون أن اللحظة التي سيُقال لهم فيها "خد باقي حسابك ومع السلامة" آتية لا محالة.

كان من المفترض أن تواجه الحكومة وتكافح تلك الظاهرة التي تبتلع ملايين الشباب والفتيات في أعمال غير منتظمة بعضها خطر، وتعمل على أن تضمن لهم ظروف عمل أفضل وأكثر استمرارية. لكن ما حدث، هو تعزيزها، بما تتضمنه من استغلال، وفق تصوراتٍ بلا خطة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.