تاريخ الأول من مايو/أيار عيد العمال، كانت له هيبة خاصة في بيتنا، وطقوس تتخطى حدود إحياء المناسبة إلى نضال التزم به أبواي من خلال نقابتيهما. فعيد العمال يعنيهما مباشرة في مسيرة كفاح استمرت معهما طوال حياتهما.
بالنسبة لنا نحن الأطفال، ارتبط العيد بلقاء أصدقائنا في المظاهرة السنوية التي تجوب شوارع بيروت رافعين لافتات كُتبت عليها شعارات تطالب بالخبز والعلم والحرية، وبهتافات كانت كالأهازيج بالنسبة لنا، يتبارى منظمو التظاهرات فيما بينهم لصياغتها وتحريك الشارع على وقع المطالبات بتحسين الظروف ورفع يد السلطة عن لقمة عيش المواطن.
في تلك المظاهرات، كان المُزارع القادم من البقاع أو الجنوب يسير إلى جانب المهندس والطبيب، يجتمعون على هدف واحد، لا فرق بين هذا وذاك في تحمل صعوبات المعيشة والمعاناة من الفساد الحكومي والقوانين الجائرة التي تساوي بين الناس في ظلمها. عشرات الآلاف كانوا يجتمعون من كل المحافظات والمدن لتوحيد الهتافات وتحقيق الهدف منها.
حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت الحركات العمالية قادرة على تحقيق بعض من المكتسبات لتحسين الظروف تحت ضغط الشارع المستمر. ولم تكن تلك الإنجازات قاصرة على لبنان وحده، فكانت أخبار الإضرابات العمالية في أوروبا، لا سيما بريطانيا في الثمانينيات، تصلنا عن نضالات العمال هناك في وجه سياسات مارجريت تاتشر التي غيرت مجرى التاريخ العمالي بسياساتها الاقتصادية.
كان صدى تلك النضالات كفيلًا بتحفيز التحركات العمالية في كل العالم، وكأن صفة العامل هي بمثابة الجنسية التي توحدهم أينما كانوا. وبما أني تربيت في بيت يساري الهوى، فكانت عبارة "يا عمال العالم اتحدوا" المأخوذة من المانيفستو الشيوعي هي الشعار الذي جعلنا نتماهى مع نضالات العمال بغض النظر عن اختلاف الظروف، لكنه يعبِّر عن وحدة في المصير التي تجعل العامل في الولايات المتحدة، "رفيقًا" في المعاناة حتى لو لم يكن يساريًا. ويجسد قناعة بأن تحسين ظروف العمال في أي بقعة من الأرض هو انتصار للجميع.
منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 زادت معاناة العمال
كبرنا وشاخت معنا الشعارات والهتافات، وكما صرنا نحن، لم يعد للمناسبة تأثير حقيقي كفيل بإعلاء كلمة الشارع بوجه توحش المؤسسات والسياسات الاقتصادية في النظم الرأسمالية وتغولها على مصالح العمال والموظفين في كل القطاعات.
مر العيد دون مسيرات في بيروت أو أي فعاليات أخرى في العواصم العربية، ولا حتى بيانات تناقلتها وسائل الإعلام تدين السياسات المالية في هذا البلد أو ذاك. فهل يا ترى صرنا نعيش في المدينة الفاضلة التي تحققت فيها شروط العدل والمساواة، بالتالي انتفت ضرورات النضال؟ أم أن المؤسسة تمكنت من تحقيق مقاصدها بزوال النقابات وتحويلها إلى كيانات كرتونية تعمل لصالحها؟
من المؤكد أننا لا نعيش في المدينة الفاضلة، بل على العكس، فمنذ الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، التي يرى الخبراء الاقتصاديون أن ما يعيشه الاقتصاد العالمي الآن هو امتداد لتداعياتها، زادت معاناة العمال بعد فشل الاقتصادات الكبرى في تصحيح المسار ولجوئها إلى السياسات الترقيعية بدلًا من الحلول المتكاملة.
حينها لجأت الحكومات إلى دعم البنوك والشركات المتعثرة من خزينة الدولة، أي من أموال دافعي الضرائب، دون أي عائد حقيقي عليهم. اليوم وبعد مرور 15 عامًا، قوبلت المسيرات العمالية في الأول من مايو بالغازات المسيلة للدموع في باريس واشتباكات بين المتظاهرين والشرطة.
وفي بريطانيا، تهدد الحكومة المحافظة العمال والموظفين المضربين عن العمل باللجوء إلى المحكمة العليا وحتى تعديل القوانين لمنعهم من الإضراب في القطاعات الحيوية كالمدارس والمستشفيات، التي تشهد إضرابات هي الأولى من نوعها.
لم تسارع هذه الحكومات إلى احتواء الأزمة وتخفيف معاناة الناس تحت وطأة التضخم إلى زيادة الأجور من خزائن الدول، فهي لا ترى أن العائد عليها بالجدوى نفسها جراء مساعدة البنوك والشركات الكبرى لتخطي الأزمة، ليظل الإنسان، العامل، هو الحلقة الأضعف في هذه المعركة الطاحنة.
بدلًا من رفع المطالب التي تنادي بالتغيير، يدور نقاش مجتمعي عنصري حول العمالة الأجنبية كسبب لتردي الأوضاع
بل على العكس تمامًا، لجأت الحكومة البريطانية على سبيل إصلاح الأوضاع الاقتصادية إلى الاقتطاع من ميزانية القطاعات الحيوية كالتعليم والطب، الذي انعكس على تردي الخدمات العامة المقدمة للمواطنين. بدلًا من مكافأتهم على تحمل السياسات الفاشلة تم تقليص الخدمات المقدمة لهم، في مسعى إلى خصخصة تلك القطاعات وتخلي الدولة عن دورها في الحفاظ عليها كمكتسبات مستحقة للشعب.
وعلى طريقة إيلون ماسك (شخلل عشان تعدي) لم تعد الحكومات تكتفي بالضرائب العالية التي يدفعها المواطنون للحصول على خدمات جيدة ولو بالحد الأدنى، وصارت حكرًا على الذين يستطيعون التعاقد مع القطاع الخاص والحصول على تأمينات صحية مع الشركات الخاصة. أو الحصول على مستوى تعليمي جيد في المدارس الخاصة مرتفعة التكلفة.
أما في العالم العربي، لا يوجد حتى اعتراف بأن هناك أزمة تهدد كيانات ودول في طريقها إلى الإفلاس كما في لبنان، أو في المستقبل الاقتصادي المظلم الذي لا يبشر بالخير كما في مصر. وقد نجحت السياسات الحكومية بتفريغ النضال العمالي من محتواه وتسطيحه، وتفتيت النقابات المهنية والعمالية إلى شرذمات تعمل ضمن مصالح ضيقة تسعى إلى تنفيذ السياسات الحكومية وليس العكس.
وبدلًا من رفع المطالب التي تنادي بالتغيير، يدور نقاش مجتمعي ذو طابع عنصري حول وجود العمالة الأجنبية كسبب رئيسي لتردي الأوضاع، وبهذا نجحت السلطات بالنأي بنفسها عن المسؤولية المباشرة لما آلت إليه الأوضاع بسبب فشل السياسات وتفشي الفساد وغياب الرؤية الاقتصادية المستقبلية.
تغيرت وسائل الإنتاج كثيرًا منذ أن صاغ كارل ماركس المانيفيستو الشيوعي، وشهد العالم قفزات في عالم الاقتصاد منذ الثورة الاقتصادية، لكن حال العمال والموظفين لم يتغير وازداد سوءًا منذ منافسة الآلة لليد العاملة إلى تفوق الذكاء الاصطناعي على العقل البشري في مجالات عدة. ولم تعد الشعارات المحفزة التي رفعت في القرن الماضي كافية للضغط على الدول الرأسمالية ونظمها.
ربما ما نحتاجه اليوم ليس ثورة للتغير، بل انهيارًا كاملًا للمنظومة برمتها كي يصبح التغيير ضرورة تفرض نفسها على رأس الهرم قبل القاعدة العريضة.