
معاك بكالوريوس وعايش في الأقصر؟ أمامك الهجرة وخلفك الكول سنتر
حملة المؤهلات العليا أكثر عرضة للبطالة في سوق عمل ظالمة
حصل أشرف محمد على الترتيب الأول على دفعته بكلية الإعلام جامعة الأزهر بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، لكنه لم يُعيَّن في الجامعة، فالقوانين لا تتيح التعيين الفوري للأوائل. كما أن مدينته، الأقصر، لم تكن أرحم عليه من جامعته، لم يجد فيها وظيفة ملائمة، فالمحافظة الجنوبية الشهيرة بتكدس الآثار فيها بعيدة عن الإعلام ومؤسساته. فاضطر إلى ترك مجال دراسته ومحافظته بأكملها والعمل في قطاع السياحة بمرسى علم.
دفع انعدام فرص العمل المناسبة لمجال دراسة أشرف، البالغ من العمر 27 عامًا، إلى حلول أخرى ليست في صالحه، يقول لـ المنصة "كل شاب بيحلم ببيت، زوجة، سفر، مستقبل. ولما تتأخر الوظيفة، بتتأخر الحياة كلها، ويلاقي نفسه متشتت بين إللي درسه وإللي مضطر يشتغله عشان أكل العيش".
لا يجد خريجو الجامعات وظائف تناسب الشهادات التي حصلوا عليها. يكشف تقرير القوى العاملة الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023 عن توزيع المشتغلين في محافظة الأقصر، إذ تشير البيانات إلى أن الفئات المهنية مثل أصحاب المهن العلمية، والفنيين، ومساعدي الاختصاصيين تعد الأقل تمثيلًا، مما يشير إلى قلة الفرص المتاحة في القطاعات العلمية والتقنية بالمحافظة.
في حين أن المهن المرتبطة بالزراعة والصيد تحتل الصدارة، يلي ذلك العاملون في مجال الخدمات ومحلات البيع، وهو ما يعكس الطبيعة السياحية للأقصر، التي تضم عددًا كبيرًا من الفنادق، والمنشآت السياحية، والمطاعم، والأسواق التجارية.
خلق الفرص
هاجر أحمد، 33 سنة، التي حصلت على ليسانس اللغة العربية قبل أعوام عدة، كانت تعرف جيدًا أن أغلب الفرص لحاملي شهادتها في الأقصر تنحصر في التدريس، ما جعلها تتبعها بشهادات أخرى لتعزز من مؤهلاتها، لكنها سرعان ما اكتشفت أن مسابقات التوظيف الحكومية سراب يركض خلفه آلاف الشباب على أمل الحصول على وظيفة ثابتة، قبل أن تصدمهم خيبة الأمل.
ولم يكن أمام هاجر سوى البحث عن بدائل، فعملت مع صديقتها في وظيفة "التسويق الشبكي"، تحاول إقناع دائرة معارفها بشراء منتج، ثم دفعهم لإقناع غيرهم بالشراء، حتى تتسع الشبكة وتتحول إلى مصدر دخل متدرج. كانت الفكرة مغريةً من الناحية المادية، لكن المشكلة أنها تحتاج إلى شخصية اجتماعية جريئة تستطيع بناء علاقات بسهولة، وهو ما لم يكن يناسبها على الإطلاق.
حسب ما جاء في مسح سوق العمل لسنة 2023، فإن الوظائف التي توفرها سوق العمل الحالية أقل جودة ولكن تضطر لقبولها الفئات الهشة، خاصة من النساء، فالمرأة في 2023 باتت تتوجه أكثر نحو الوظائف غير الرسمية أو العمل المستقل وربما يئست وفقدت الرغبة تمامًا في العمل.
محمد إسماعيل ابن قرية المدامود في الأقصر، خريج كلية التربية الإنجليزية وجد نفسه فني موبايلات!
انطلق محمد بعد تخرجه مباشرةً إلى القاهرة؛ كان يعلَم أن سوق العمل في الصعيد محدودة، فقرر المغامرة في العاصمة. لكنه بعد ثماني سنوات من الغربة، عاد إلى الأقصر تحت ضغط المسؤولية تجاه والديه اللذين كانا بحاجة إليه، كما أن تفشي جائحة كورونا في 2020 زاد من صعوبة الاستمرار في القاهرة.
ورغم عِلمه أن فرص العمل في الأقصر أقل، اضطر إلى البحث عن مهنة جديدة، فتعلم صيانة الموبايلات، واليوم يعمل في محل يملكه أحد أقاربه ليتمكن من تلبية احتياجات زوجته وطفله.
يرى الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي في حديثه لـ المنصة أن تركيز الاستثمارات في قطاعات غير معقدة مثل العقارات والتجارة في مصر، يصب أكثر لصالح توظيف العمالة ذات التعليم المنخفض والمتوسط، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين أصحاب التعليم العالي.
وبالعودة إلى تقرير العمل نجد أن النسبة الأكبر من المشتغلين في محافظات الصعيد، بما في ذلك الأقصر، تنتمي إلى الفئة الحاصلة على مؤهل فني متوسط. هذا يعكس طبيعة القطاعات المتاحة في سوق العمل بالمحافظة، حيث تتركز الفرص الوظيفية في مجالات تتطلب مهارات فنية ومهنية أكثر من المؤهلات الجامعية.
ويتوافق هذا الاتجاه مع ما أظهرته البيانات السابقة حول محدودية الفرص المتاحة لحملة المؤهلات العليا، مما يشير إلى اعتماد سوق العمل في الأقصر بشكل كبير على العمالة ذات الشهادات المتوسطة، لا سيما في القطاعات الزراعية والخدمية.
رضيت بالهم.. ورغم ذلك انتقلت للقاهرة
لم يكن من المفترض أن تلتقي ماريان وأميرة في مكان عمل واحد. فإحداهما درست الهندسة الكهربائية، والأخرى كانت تحلم بمستقبل في عالم الإعلام والصحافة. لكن سوق العمل في الأقصر لم تعترف بشهادتيهما، ولم تمنحهما سوى طريق واحد؛ العمل في وظائف لا علاقة لها بتخصصاتهما، ولا بأحلامهما.
عندما حصلت ماريان جرجس على بكالوريوس الهندسة قسم كهرباء عام 2014، لم يكن لديها شك في أنها ستجد فرصة تناسب تخصصها في الأقصر، لكنها اكتشفت أن سوق العمل هناك "عقيم وغير مجزٍ بالمرة" والفرص تكاد تكون منعدمة حسب وصفها لـ المنصة.
وجدت ماريان نفسها أمام خيار الانتظار في طابور الفرص القليلة، أو تغيير مسارها المهني بالكامل، فانتقلت إلى العمل في كول سنتر!
أما أميرة حسين، البالغة من العمر 27 عامًا، فقد كان الطريق أمامها أكثر وضوحًا في البداية. درست الإذاعة والتليفزيون في كلية الآداب جامعة المنيا، وبدأت رحلتها العملية في الصحافة والراديو. لكن سرعان ما أدركت أن البيئة المحيطة لن تساعدها على الاستمرار في المجال.
تتذكر محاولاتها للعمل كمراسلة صحفية، والقيود الاجتماعية التي واجهتها في كل خطوة، وكيف اتجهت للكول سنتر والمبيعات عبر التسويق الهاتفي، وحتى حين رضيت بالهم، كان عليها الانتقال إلى القاهرة هربًا من الرواتب الضئيلة.
"أقل مرتب ممكن تاخده في القاهرة 7 آلاف، وبيوصل لـ12 كمان. في الأقصر تقريبًا مستحيل تلاقي الأرقام دي. أقصى حاجة ممكن 4 آلاف، وده لو كنت محظوظة"، تقول لـ المنصة.
حلول حكومية
تعلن الحكومة كل فترة عن مبادرات لتوفير وظائف جديدة. وفقًا لبيان وزارة العمل، شاركت مديرية العمل في الأقصر في تنظيم ملتقى توظيف وفر 2250 فرصة في مجالات مختلفة، منها 250 لذوي الهمم، وذلك بالتعاون مع الشركات السياحية والصناعية والتجارية.
لكن هل توفر هذه الفرص وظائف ملائمة للحاصلين على المؤهلات العليا الذين يشكلون النسبة الأعلى بين العاطلين عن العمل؟ أمام قلة الفرص، لا حل إلا في الهجرة خارج المحافظة.
"كل المحافظات أو أغلبها مفيهاش شغل ولا فيها حاجة تشجع إنك تعيش وتبني أسرة وبيت، مش عارفة المشكلة فين بس إحنا بندفع ضريبة غربة وبهدلة وإحباط ولحظات كتير أوي بتفوتنا وذكريات مع أهلنا مش بنبقى موجودين فيها"، تقول أميرة حسين بمرارة.
هيمنة القطاعات العقارية والتجارية على الاقتصاد تتركز بطبيعتها في المدن الكبرى
وتستحوذ القاهرة الكبرى على النصيب الأكبر من الاستثمارات مما يجعلها مركزًا لجذب العمالة، وفقًا لدراسة عن الهجرة الداخلية بين أقاليم مصر. كما أن قائمة المشروعات الكبرى تتركز في العاصمة والساحل الشمالي، وتحديدًا في العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة الجلالة، والعلمين الجديدة. بينما لم يحظَ الصعيد سوى بعدد قليل من المشروعات من بينها محطة الطاقة الشمسية في بنبان بأسوان، الذي رغم أهميته، لا يخلق اقتصادًا متكاملًا.
ويرجع الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي تركز الاستثمار في القاهرة والمدن الساحلية المركزية إلى ضعف البنية التحتية الاستثمارية في الصعيد، مما يجعل المستثمرين يفضلون المدن القريبة من المواني والأسواق.
ويشير عبد الهادي إلى هيمنة القطاعات العقارية والتجارية على الاقتصاد، التي تتركز بطبيعتها في المدن الكبرى، ويرى أن الحل يكمن في إعادة توزيع الاستثمارات الحكومية، عبر إنشاء مناطق صناعية متكاملة في الصعيد، تستهدف تشغيل الخريجين، وكذلك تحسين شبكة النقل العام لتسهيل انتقال العمالة، وتحفيز المستثمرين عبر الإعفاءات الضريبية، لجعل الصعيد أكثر جاذبية للاستثمار.
ورغم كم الإحباطات، عزم أشرف خريج الإعلام على استكمال مسيرته الأكاديمية جنبًا إلى جنب مع عمله المؤقت، محاولًا ألا يفقد ثقته في أن القادم أفضل، وأنه سينال مكانته التي يستحقها، ولن يتخلى عن حلمه في الانتماء لسلك التدريس الأكاديمي.