قبل نحو 10 سنوات، غادر محمد منصور مغربي قريته التابعة لمركز البلينا بسوهاج في جنوب مصر، قاصدًا العاصمة القاهرة، قاطعًا مسافة 550 كيلومترًا على أمل حصد الشهرة والنجومية في السينما، لكن الشاب العشريني الذي كان يحلم بأن يصبح نجمًا في عالم التمثيل منذ الطفولة اصطدم بواقع قاسٍ لم يستطع فك رموزه ولا التأقلم معه.
لم يكن مغربي وحيدًا في رحلته؛ رافقه شباب آخرون شاركوه الحلم نفسه، لكن أحلامهم جميعًا بقيت معلقة في المسافة بين قراهم والقاهرة، أو "مصر" كما يسميها سكان الأقاليم.
بصوت مخنوق، وذاكرة لا تزال تحتفظ بقسوة الرحلة، يتذكر مغربي لـ المنصة أنه خاض غمار التجربة قبل سنوات مع مجموعة من أصدقائه الطامحين لدخول مجال السينما، وبعد سبع سنوات من المحاولات وطرق الأبواب عادوا جميعًا أدراجهم مرة أخرى لقراهم بعدما أيقنوا أنهم يطاردون سرابًا.
سباك صباحًا فنان ليلًا
شارك مغربي في عدة عروض مسرحية قبل أن يضطر للعمل في مهنة "السباكة" أثناء إقامته في القاهرة، لكي يتسنى له البقاء في العاصمة ومطاردة حلمه، لأن أسرته لا يمكنها التكفل بنفقاته في هذه المغامرة التي لا يعرف أحد نهايتها، كما أنه صار راشدًا ولا يحق له طلب المساعدة المادية من وجهة نظر أسرته التي ترى أنه اختار طريقًا صعبًا.
اضطر مغربي للاتفاق هو ومجموعة أخرى من الموهوبين، سواء في التمثيل أو الغناء، مع مخرج مسرحي، تعرفوا عليه من خلال فيسبوك، ووعدهم بأن يكون بوابتهم لعالم الفن والأضواء من خلال توجيه الدعوة لمجموعة من الفنانين لحضور عرض فني سيشرف هو عليه، إلا أن مغربي يقول إن مَن حضروا إما كانوا نجومًا خفت نجمهم، أو من نجوم الصف الثاني، وبالتالي فرصة ترشيحهم لأحد المواهب تكاد تكون معدومة.
يقول مغربي لـ المنصة إن العرض المسرحي يتكلف نحو 40 ألف جنيه، وقد تمتد بروفاته لأشهر، بجانب المصاريف الشخصية لكل مشارك في العرض، إذ يعمل المخرج على تنفيذ البروفات ويتحمل المشاركون نفقات كل شيء، على أن يوفِّر المخرج بعضًا من معارفه من الفنانين في يوم الافتتاح، لعل أحدهم يكون جسر الوصول إلى السينما.
تحضُر مجموعة من الفنانين المعروفين هذه العروض المرتبة، مثل أحمد ماهر وتوفيق رشوان وغيرهما، إلا أن أيًا من مثليها الطامحين لم يحصل على فرصة، وهو ما اضطر كثيرًا منهم للعودة إلى قراهم في المحافظات خارج نطاق القاهرة الكبرى سواء في الدلتا أو الصعيد، على حد قول مغربي.
لم يعد يتوفر في المحافظات أي مجال لاستيعاب المواهب، وما يتوفر "رعاية شكلية" على حد وصف الباحثة نجلاء محمد حامد، عضوة هيئة التدريس بجامعة القاهرة، في ورقة بحثية قدمتها خلال المؤتمر العلمي الدولي الثاني لكلية التربية النوعية جامعة المنوفية، عام 2014، وضمنتها تأكيدًا على وجود مدارس للموهوبين، وفصول متخصصة لرعاية المواهب، لكن ما تقدمه لا يساعدهم بشكل حقيقي.
الجامعات هي الأخرى تحرص على وجود مراكز لرعاية الموهوبين، منها جامعة بنها وجامعة سوهاج. إلا أن الجميع يهتم بالشكل على حساب المضمون وهو ما حدث بالفعل مع مغربي حينما قرر اللجوء لقصر ثقافة سوهاج الذي يبعد عن موقع سكنه بنحو 50 كيلومترًا.
عن هذه المحاولة يقول الفنان الشاب "لو كان القصر ينفذ عروضًا، ويشارك في مسابقات محلية أو إقليمية، ربما كان هذا طريقًا سهلًا لاكتشاف عشرات المواهب من المبدعين وتسليط الضوء عليهم"، مقرًا بأن مثل هذه الفعاليات كانت تحدث في السابق لكن منذ سنوات لم تشهد محافظته أيًا منها.
ومع محاولة التواصل مع قصر ثقافة سوهاج، لم نتلق ردًا، غير أن الموقع الرسمي لوزارة الثقافة المصرية نشر تقريرًا عن استمرار عروض نوادي المسرح الإقليمي لمحافظات أسيوط والمنيا وسوهاج، خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
عجزه عن الحصول على فرصة عبر القنوات الحكومية أو حتى الخاصة، دفع مغربي لاحتراف التمثيل على السوشيال ميديا، إذ يكتب اسكربتات تمثيلية قصيرة مع ثلاثة آخرين من قرى مجاورة لقريته، يصورون أعمالهم بكاميرا موبايل، ويتولى مونتاج المقاطع قبل عرضها على الجمهور، واختارت المجموعة تخصيص فيديوهاتها لمناقشة قضايا اجتماعية مهمة مثل إدمان المخدرات والاستقواء على الضعيف والإساءة للجار في قالب كوميدي ساخر.
مغلق أمام أبناء الأقاليم
تجربة المغربي تكاد تتشابه مع ما مر به المغني الشاب عبد الله ربيع، الذي قطع مسافة 200 كيلومتر من مركز الزرقا بمحافظة دمياط إلى القاهرة، حالمًا بالحصول على فرصة في عالم الغناء، الذي يراه مغلقًا أمام أبناء الأقاليم مفتوحًا لسكان القاهرة.
رحلة ربيع الذي تخطى الثلاثين من عمره بعام واحد بدأت قبل 10 سنوات تقريبًا، حينها نجح في إنتاج مجموعة من الأغنيات، وعرض ألحانه على مطربين كبار في الوسط الفني أشادوا بموهبته حسب قوله، من بينهم الملحن الراحل حلمى بكر الذي اتصل به عقب طرحه لأغنية "البشرى" لتهنئته على أدائه، والملحن هاني شنودة الذي يقول عنه ربيع إنه كان مؤمنًا به ومشجعًا له.
إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لاحتراف هذه المهنة التي في رأيه لا تعترف إلا بـ"الشلة" وهو الرأي نفسه الذي تتبناه الفنانة بشرى وقالته صراحة في مقطع مصور لها إنها تسببت في تراجع الدراما المصرية.
اضطر ربيع للعمل في مهن معاونة لكي يستطيع توفير نفقاته في القاهرة، من بينها العمل في مقاهٍ شعبية، أو مطاعم للوجبات السريعة، وهو ما كان يرهقه بشكل كبير، ويجعل أداءه أقل من المتوقع خصوصًا وأن الوردية تستمر لـ12 ساعة، "ما بلحقش آخد كفايتي في النوم".
استطاع ربيع أن يشارك في عروض موسيقية بدار الأوبرا المصرية، ودرس علم المقامات، والموسيقى الشرقية، واحترف العزف على الجيتار، إلا أنه يشبّه تجربته بلاعبي كرة القدم المحترفين في أندية الأقاليم، فمهما كانت موهبتهم مميزة، فإنهم لا يستطيعون إثبات أنفسهم إلا إذا لعبوا للأهلى أو الزمالك.
تمكَّن مغربي من كسر احتكار العاصمة للنجومية وتحوّل إلى صانع محتوى درامي على السوشيال ميديا، على الرغم مما يواجهه من تحديات تتعلق بحصد مشاهدات عالية تضمن له تحقيق أرباح تساعده على الاستمرار والإنتاج.
ويرى أن التعاون مع صفحات موثقة وتتمتع بجماهيرية كبيرة ساعده في أن تحصد بعض فيديوهاته 9 ملايين مشاهدة، وأن يرتفع عدد المشتركين في قنواته على يوتيوب إلى مئات الآلاف حسب قوله، ليحقق بذلك قدرًا من الشهرة التي حُرم منها لمجرد أنه ولد في الجنوب.