في صيفٍ مضى، كنتُ بأحد قصور ثقافة المنيا في انتظار ندوة لفنان تشكيلي. لفت انتباهي الملل والانزعاج في عيون الحضور من تأخر وصول الضيف، حينها قرّرت إدارة المكان عرض فيلم الكويسين (إنتاج 2018) لكسر حالة الملل. بالفعل بدأ عرض الفيلم من خلال جهاز قديم ومتهالك.
لم تكن الصورة واضحة، وجودة الصوت سيئة للغاية. وسمعت إحدى الحاضرات تقول "اعتبروها سينما، مفيش سينما أصلًا عندنا"، زادت كلماتها من شعوري بالاستياء بدلًا من أن تخففه. قررت مغادرة القاعة ولم أعد.
السينما في الأقاليم، حيث وُلدتُ وعشتُ، أصبحتْ في كثير من الأحيان ذكرى باهتة؛ في صعيد مصر وعلى مدى الثلاثة عقود الأخيرة أُغلقت تقريبًا كل دور العرض تدريجيًا، لأسباب متنوعة. لكن يمكن أن ننظر إلى إطلاق يد الجماعات الإسلامية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي باعتبارها بداية الموجة التي بلغت ذروتها في التسعينيات.
إلى جانب الأسباب السياسية والاجتماعية، تقف أسباب اقتصادية مركبة وراء عزوف جمهور الأقاليم عن التردد على السينمات، إذ يركز نظام التوزيع الحديث على عرض الأفلام في المولات الكبرى، ويشترك سكان محافظات المنيا وأسيوط وبني سويف في صالتي عرض سينمائي في مولين بمدينتي بني سويف الجديدة والمنيا الجديدة، بينما لا يوجد أي نوع آخر من السينمات في المحافظات الثلاث.
في القوصية بأسيوط وجدت دار عرض سينمائية قديمة لكنها تحوّلت إلى سوق للملابس الداخلية
في مرحلة ما من تاريخ مصر، كان هناك اعتراف ضمني، وأحيانًا رسمي، بأهمية وصول الأفلام إلى الأقاليم. في مدينة ملوي، على سبيل المثال، كان هناك أكثر من دار عرض. وفي كل مركز ومدينة كانت دور العرض تعمل بشكل منتظم. هكذا كانت الأفلام تصل للأقاليم، وكان الموزعون والمنتجون حريصون على الوصول للجمهور.
سينمات مهجورة
يحدثني والدي عن سينما "ملوي بالاس"، وهي دار عريقة لم يتبقَّ منها سوى القاعة الشتوية، وتحوّل بقيتها إلى أطلال تعلوها طبقات من الأتربة. كانت المتعة الوحيدة للشباب الخروج إلى السينما في يومي الاثنين والخميس مع الأصدقاء والعائلة، إلى أن أُغلقت في التسعينيات مثل غيرها.
لم أدخل أي دار عرض في الأقاليم إلا ووجدتها مهجورة، وفي إحدى زياراتي إلى مدينة القوصية بمحافظة أسيوط، وجدت دار عرض قديمة لا تزال قائمة، لكنها تحولت إلى سوق للملابس الداخلية. فوق شاشة العرض، عُلّق حبل عُلقت عليه قطع الملابس في مشهد سريالي غريب.
حدثني أيضًا الناقد والكاتب محمود عبد الشكور عن سينما نجع حمادي، وكيف كانت تستقبل المواطنين من كافة الأعمار، يستمتعون بمشاهدة الأفلام طوال العام، وليس في المواسم والأعياد. كما هُدمت سينما أوبرا في سوهاج، خلال أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
أفلام منزوعة الهموم
أول مرة دخلت سينما في حياتي كانت بالإسكندرية خلال رحلة عائلية. أتذكر جيدًا أنني لم أتابع الفيلم بقدر ما تابعت الجمهور. كنت سعيدًا أشعر بأني في استاد لكرة القدم؛ الجميع متأثرون معًا، نضحك معًا، نبكي معًا؛ كانت السينما تصل إلى طبقات مختلفة وتخاطب جمهورًا واسعًا، أما اليوم، فهي كما وصفها المخرج داوود عبد السيد "سينما منزوعة الهموم".
السينما المصرية في السنوات الأخيرة أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الأفلام التجارية التي تستهدف جمهورًا معينًا في القاهرة والإسكندرية. هذه الأفلام غالبًا ما تُعرض في سينما المولات.
ومن المؤسف أن معظم صناع السينما الحاليين لا يعتبرون سكان الأقاليم جمهورًا مستهدفًا، ما يتسبب في غياب التنوع الثقافي عن العروض. بالتالي، تغير الجمهور، وتغيرت العلاقة بينه وبين صناع الأفلام. أصبحت الأفلام المستقلة هي الأقرب للتعبير عن هموم تلك الطبقات.
ورغم وجود حركة سينمائية مستقلة في مصر، تجد هذه الأفلام صعوبة في الوصول إلى جمهور واسع خارج المدن الكبرى بسبب قلة العروض والتمويل المحدود للتوزيع. ففي السنوات الأخيرة، ظهرت أفلام حاولت تقديم قصص مختلفة، من بينها فيلم يوم الدين، الذي يتحدث عن رحلة رجل مصاب بالجذام عبر المدن المصرية، لكن الفيلم، رغم نجاحه بين النقاد، لم يصل إلى جمهور الأقاليم كما يجب.
ذهبتُ لمشاهدة الفيلم في قاعة السينما الوحيدة في محافظة المنيا، داخل مول تجاري في مدينة المنيا الجديدة. اشترط المنظم لتشغيل الفيلم في البداية وجود أكثر من عشرة أفراد، وحين اكتمل العدد شغل الفيلم.
للعاصمة فقط
كيف يمكن للمخرج أن يضمن مشاهدة فيلمه في الأماكن التي ألهمته قصته؟ وكم عدد الأفلام التي تُصنع خارج القاهرة؟ وما النسبة التي يشكلها سكان الأقاليم في صناعة أي عمل بمدنهم؟
في المنيا، على سبيل المثال، جرى تصوير أجزاء من فيلم دكان شحاتة (إنتاج 2009) للمخرج خالد يوسف، لكن لا هموم المنيا ولا سكانها كانا جزءًا من الفيلم أو الصناعة بشكل عام، وهكذا الحال مع كثير من الأفلام التي يجري تصويرها بالكامل أو أجزاء منها خارج العاصمة.
انفصلت الصناعة المركزية تمامًا عن الأقاليم. ليس لدى جيلي ولا الأجيال اللاحقة مُخرج مفضل أو نوع مفضل من الأفلام، على عكس جيل والدي وجدي. فصديق والدي مثلًا من محبي المخرج صلاح أبو سيف (1915-1996)، بينما يفضل أبي المخرج عاطف الطيب (1947-1995). وأخبراني أن أفلامهما كانت تصل إليهما وكأنها تخاطبهما بشكل مباشر.
غياب الدعم الحكومي
يقع جانب من المسؤولية على عاتق الوزارات والهيئات غير الهادفة للربح. في غياب أي دعم حكومي يضمن استمرارية وجود دور سينما في الأقاليم، تساءلت كثيرًا عن دور هذه الجهات الرسمية. مشروع سينما الشعب التابع لوزارة الثقافة على سبيل المثال، لم يصل بشكل كافٍ للجمهور، على الرغم من عرضه للأفلام التجارية والمستقلة على حد سواء.
وإن كان يمكن للتنوع في المحتوى أن يساهم في جذب جمهور أوسع، لكن المشروع لم يغط العديد من المحافظات، بما في ذلك المنيا وأسيوط وبني سويف، فقصور الثقافة في هذه المحافظات تفتقر إلى أجندة ثقافية وفنية تحتوي على فعاليات تتعلق بالسينما، مما يجعلها تبدو خارج خريطة الثقافة والفنون.
من الجلي أن يطرأ في ذهن أي شخص سؤال عن نوادي السينما. للأسف، تعتمد نوادي السينما في الأقاليم على الجهود الذاتية. على سبيل المثال، أتولى تنظيم عروض أفلام في نادي سينما مجراية بملوي في المنيا منذ عشر سنوات، ونعتمد في اختيار الأفلام على موضوعات يجري تحديدها مسبقًا مثل الأرشيف السينمائي أو قصص من صعيد مصر أو قضايا المرأة، في معظم الأحوال تعرض أفلام عربية مستقلة من بقاع متعددة مثل فلسطين ومصر ولبنان والمغرب وتونس، ويجري هذا بالتواصل والتنسيق مع مؤسسات سينمائية مستقلة أو صناع الأفلام أنفسهم.
ويعقب كل عرض مناقشة مع الجمهور حول الفيلم، واستضفنا العديد من صناع وصانعات الأفلام في هذه المناقشات، بغرض وضع الجمهور المحلي أمام تجربة سينمائية مختلفة وإثراء النقاش حولها، وينظم بعض الأصدقاء في أسوان عروضًا مشابهة مع التركيز على كلاسيكيات السينما المصرية، لكنها تظل جهودًا بلا موارد تُذكر، وهي قليلة، قد تتوقف في أي لحظة بسبب قلة الموارد أو البيروقراطية والتعجيز الحكومي.
ويبقى سؤال كيف يمكن استعادة العلاقة بين المخرجين وجمهور الأقاليم؟ السؤال لا يتعلق فقط بتوفير دور العرض، بل أيضًا بتقديم محتوى سينمائي يعكس التنوع الثقافي والجغرافي في مصر. عندما نعرض أفلامًا مستلهمةً من الصعيد، والدلتا، ومدن القناة وغيرها، ونفتح دور العرض في مدن مثل ملوي وأسيوط وقنا والقوصية وبني سويف وسوهاج، يمكننا القول إن السينما أصبحت متاحة ومتصلة بجميع المصريين.