تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
لويس ويبر واحدة من رائدات السينما الأمريكية في الحقبة الصامتة خلال عشرينيات القرن الماضي

لويس ويبر.. أصوات النساء العالية في السينما الصامتة

منشور الخميس 12 يونيو 2025

وجود اسم امرأة في قائمة كبار المخرجين بعشرينيات القرن الماضي، زمن السينما الصامتة، كان استثنائيًا يليق بموهبة الأمريكية لويس ويبر (1879-1939)، ورغم ذلك جرى اجتثاثها بهدوء من مدونات التاريخ السينمائي للمرحلة الصامتة.

شريكا الحياة والعمل المخرجان لويس ويبر وزوجها فيليبس سمالي، في لقطة من فيلم Angels Unaware، من إنتاج 1912

أنجزت ويبر أكثر من 200 عمل سينمائي، لم يصلنا منها إلا عُشرها وكان عصيّ المنال حتى سنوات قريبة، إذ واجهت مصيرًا مشابهًا لمصير أفلام النترات، من الهلاك التدريجي، والإهمال المتعمد، وربما الاثنين معًا، خصوصًا في ظل تآكل سمعتها أواخر العصر الصامت حين أُسقطت من الاعتبار كمخرجة لا تستحق أرشفة منجزها.

أما اليوم فبات بمقدورنا إعادة اختبار خيالها الإخراجي، والانخراط في رؤيتها البصرية، والتنقيب عما طمرته السنوات من منجزها.

اغتيال أدبي

يمكن عزو الاغتيال الأدبي لويبر إلى التصاعد المُطرد للنزعة الذكورية المتأصلة داخل البنية الصناعية للسينما، مع ما أفصحت عنه من مدى اقتدار أسلوبي وتفوق مخصوص يُنسب إلى الخصائص النسوية.

في حوار أجرته معها مجلة Photoplay تضمن كتاب Lois Weber in Early Hollywood مقتطفات منه، تقول "أعشق الإخراج لأنني أؤمن أن المرأة، على نحو أو آخر، تُفصح عن كم من الانفعالات التي قلما تُستحضر على الشاشة. قد أتغاضى عما يلحظه بعض الرجال، بيد أنني أستخلص مؤثرات لا تخطر لهم على بال".

الولوج إلى ماهية "المؤثرات التي لا تخصر للرجال على بال" لا يتطلب استنطاق الفروق بين منجز ويبر ومنجز أندادها الذكور، بل يستدعي التنقيب فيما منح أعمالها فرادتها المنهجية والاستثنائية، فالتحديق في أفلامها المتبقية من طور السينما الصامتة يكشف عن صانعة مشاهد متقنة، تتعامل مع الكادر كما لو كان مسطحًا تشكيليًا ينذر بأن يُكتظ بطبقات من التكوينات الصُورية والتفاصيل الموحية أو التوازي الحركي المركب.

تمدح دورية Moving Picture World عام 1921 ويبر بأنها "نادرًا ما اضطلع الرجال بهذا الكم من المهام مجتمعة"، إذ كانت تشرف على كل مراحل الإنجاز الفيلمي من تكوين البناء السردي وصياغة الحبكة، إلى انتقاء العناصر التمثيلية، وتخطيط المؤثرات البصرية مرورًا بإدارة العناوين، وانتهاءً بالمونتاج النهائي للمشاهد.

صدفة بشراكة وزواج

ابتدأت ويبر رحلتها عام 1908 بعد مسار تمثيلي في مسارح برودواي بنيويورك، هناك التقت فيلبس سمالي، شريكها في العمل والزواج، وباشرت كتابة السيناريوهات في أحد استوديوهات نيوجيرسي التابعة لشركة Gaumont، تحت إدارة أليس جاي بلاشيه، التي وفرت لها بيئة حاضنة ودفعة تحفيزية، على إثرها شرع الزوجان في صياغة وإخراج أعمال لصالحها، ومن ثم لاستوديو Rex التابع لمنظومة Universal.

لقطة من فيلم The Blot، من تأليف وإخراج لويس ويبر، من إنتاج 1921

بعد انتقالهما إلى لوس أنجلوس، Universal City، التي تسامحت إلى حد مدهش مع الوجود النسوي في مجال الإخراج، توهج نجم ويبر مدعومًا برعاية علنية من قطب الصناعة كارل لايملي، لتتصاعد طموحات عائلة سمالي تدريجيًا، حتى استقر التواطؤ العلني في الأوساط السينمائية على أن ويبر، لا سمالي، هي صانعة القرار الفعلي خلف الكواليس.

في عام 1917، دشنت شركتها الإنتاجية الخاصة، تحت مسمى لويس ويبر للإنتاج، متسلحة بعقود توزيع مُترفة مع استوديوهات Universal، فغدت المخرجة الأعلى أجرًا في المدينة، وأول امرأة أمريكية تتولى إدارة استوديو خاص. وفي أفق عام 1921، أطلقت أحد أعظم منجزاتها السينمائية The Blot، لكن بصمتها ظلت أقل سطوعًا بكثير مقارنةً بأندادها الذكور من طراز دي. دبليو، جريفيث وسيسيل بي ديميل.

الإفلات من العقاب

إن كانت ويبر شكلت قيمة رمزية استثنائية خلال العقد الأول من القرن العشرين، فإن موقعها كان قد أضحى معزولًا بصورة قاسية مع مطلع الثلاثينيات. حين طُلب منها عام 1927 أن تسدي نصيحة للنساء الساعيات إلى تكرار تجربتها، أجابت بنبرة المقهور "لا تحاولي ذلك، لن تفلتي من العقاب أبدًا".

بالفعل في العقد التالي، جرى طمس منجزها بهدوء. ورغم الإقصاء المنهجي، فإن جهودًا بحثية حثيثة لمؤرخين مثل شيلي ستامب وأنتوني سلايد أعادت تسليط الضوء على إرثها المهمل، متزامنة مع انكشاف تدريجي لأفلامها التي طالما غابت عن التداول العام.

لقطة من فيلم Suspense، من تأليف وإخراج وبطولة لويس ويبر، وإنتاج العام 1913

يُجسد أحد أقدم أعمالها Suspense، من إنتاج عام 1913، براعتها التكوينية. في بكرة واحدة، تُعيد تشكيل حبكة الإثارة المُعتمدة على سباق الإنقاذ، وتضخ فيها بصمتها.

تُجسد ويبر شخصية امرأة محاصرة في منزل ناء مع رضيع، تستغيث بزوجها إثر رؤيتها لمتسلل يتربص بها من الخارج.

إنه سيناريو Grand Guignol، سبقتها إليه جريفيث في أفلام مثل The Lonely Villa وAn Unseen Enemy، إلا أن ويبر تنسج مقاربتها الخاصة، فتلجأ للتوليف المتوازي بين المواقع، غير أن توتر السرد يتولد من التكوين لا من القطع، الكادر يتشظى إلى ثلاثة محاور زمنية بصرية، تضم الزوجة، والمتسلل، والزوج في آن واحد، الزوجة المذعورة تتواصل مع زوجها، بينما يقتحم الدخيل المكان ويقطع الاتصال.

تمعن ويبر في تقسيم الكادر؛ فالمتسلل يطل من النافذة الخلفية بينما تحتضن هي طفلها، في حين يظهر طيف الشرطة في المرآة خلف الزوج المسرع بسيارة مسروقة. إنها تُوجه نظرتنا عبر زوايا عالية جدًا، توحي بأنها من نافذة علوية، ما يجعل فزع الزوجة ليس مجرد حدث نُشاهده بل تجربة حسية نُشاركها.

Suspense عمل يتسم بالإثارة المتوترة المتسارعة، لكنه أيضًا اختبار دقيق لاستبصار النظرة النسوية وهي تجربة ظلت ويبر تستنطقها في غالبية أعمالها.

استثمرت ويبر ببراعة معطيات الواقع المستمدة من تقارير المجلات وملاحظاتها الشخصية في أفلامها

في العام التالي أرست ويبر سابقة تاريخية بصفتها أول امرأة أمريكية تتولى إخراج فيلم روائي طويل؛ تاجر البندقية إنتاج ملحمي من أربع بكرات أضحى في عداد المفقودين. وبعده بعامين، في 1916 كيّفت ويبر بمعاونة دانيال أوبر، أوبرا The Dumb Girl of Portici، إلى دراما تاريخية مطولة، من بطولة راقصة الباليه آنا بافلوفا، التي أدت دورها بمزيج من الجاذبية الأدائية والتركيبات البصرية المُتقنة.

تُجسد بافلوفا شخصية فينيلا، فلاحة صامتة من نابولي القرن السابع عشر، تتعرض للإغواء من أحد نبلاء الاستعمار الإسباني، بينما يقود شقيقها ماسانييلو/روبرت جوليان ثورة شعبية. يتفاخر لايملي بتخصيص ميزانية ضخمة لمخرجته اللامعة - الأكبر في تاريخ استوديو يونيفرسال آنذاك - بينما تنهمك ويبر في تشكيل مشاهدها بجمالية محكومة بالتفصيل الذي يضمن لـبورتيشي تراكبًا بين المناظر الطبيعية الشاسعة والواقعية المُفجرة. فئران تتلوى في زاوية زنزانة.

كتبت ويبر عام 1915 " لا يحق للمخرج التغاضي عن أدق التفاصيل، سواء في تصميم المواقع، أو التمثيل، أو الإضاءة — لأن هذه العناصر الدقيقة هي ما يُنشئ المُناخ الكفيل بجذب المُشاهد إلى العمل السينمائي"، لذا تستخدم اللقطات المقربة، والزاويا العلوية الحادة، وتُسخر حركات الكاميرا على العربات، وتقنيات البانوراما لفضح البؤس المديني في نابولي، والتعريض المزدوج لإبراز بهاء الرقصات. إنه فعل إخراجي مُفرط، متسع النطاق، نافر عن السائد.

كما أفصحت في مقالها المؤرخ لعام 1915 عن "أن اكتشاف عجائب جديدة تندرج ضمن نطاق إعادة الإنتاج يمنح الفيلم إمكانيات لا حصر لها لفعل الخير؛ ومعرفة أن المرء يفيد الآخرين هي المتعة العليا للعمل... من الجيد أن تكون مخرجًا".

وبهيئة تقارب طيف الصحافي المُسلح بالكاميرا، استثمرت ويبر أفلامها بوصفها أعمدة سينمائية، تشكلها لا من فراغات الخيال الخالص، بل من معطيات مستمدة من تقارير المجلات وملاحظات الواقع. في Shoes من إنتاج 1916، دراما واقعية النبرة.

لقطة من فيلم Shoes، من إخراج لويس ويبر، وإنتاج العام 1916

وفي Idle Wives، من إنتاج 1916 أيضًا، تحتشد شخصياتها داخل دار عرض سينمائية لمشاهدة فيلم مرآة الحياة، عمل من توقيع ويبر نفسها، يُصيبهم بخدر من الندم، ويجبرهم على معاينة ارتدادات خياراتهم الوجودية. ليست سينما  وعظية بالضرورة، لكنها أولت الوسيط السينمائي أهميته لكونه منبرًا جماهيريًا، يسمح بانسياب رسائلها إلى أوسع دوائر التلقي.

سواء في طرحها لمعضلات أسرية وهشاشة أخلاقية في السخط 1916، أو مقاربتها الإشكاليات الاجتماعية في أحذية واللطخة، رغبت ويبر في أن يتماهى المتلقي مع صورته المُنعكسة على سطح الشاشة.

وعليه تُستشف واقعية التصميمات الداخلية في أفلام ويبر باعتبارها مقاربة تخطيطية تنضح بانغماس كامل في طوبولوجيا المكان المعاش. مع حلول لحظة إنجازها لفيلم The Blot، كانت قد بلغت من التحكم ما أتاح لها امتلاك استوديو مستقل، ما مكنها من التصوير داخل منازل فعلية، لا ديكورات مُلفقة.

ومع ذلك حتى في المواقع المصطنعة، كانت تخلق إيحاء بفراغ ثلاثي الأبعاد مأهول، مثلما يتجلى في زوايا تصوير Suspense، أو التضاد البصري ما بين ملذات مادية وموائد الطعام في مساكن المحاربين القدامى مقابل منازل البرجوازية الدنيا في Discontent.

بوفاتها عام 1939 جرى اختزال إرثها لتُذكر لا كمخرجة لكن كـ"صانعة نجمات" فقط

تبلغ ويبر ذروة مهارتها في التقاط دقة تجليات العيش المنخفض الدخل ضمن Shoes وThe Blot. في Shoes تقطن إيفا، التي تؤديها ماري ماكلارين، مع أسرتها داخل وحدة سكنية، لكن الفقر هنا لا يُستدرج بوصفه مكونًا تجميليًا - تنتزع شظايا من قدميها المُجهدتين بعد يوم عمل، حذاؤها مثقوب؛ أختها تحتسي حليبًا مُخففًا؛ قطتهما تتغذى من بقايا القمامة.

في The Blot، تؤدي مارجريت ماكويد دور السيدة جريجز، زوجة أكاديمي يعمل بأجر متدن، تدير منزلًا ينتمي اسميًا إلى الطبقة المتوسطة، سجادة ممزقة، أريكة يتهرّأ حشوها، قطة تتغذى على بقايا طعام الغرباء بل وتلعق شحم الأحذية، والقسيس الجار يلمع حذاءه بدهن الإوز. تعيش السيدة جريجز على حافة الإنهاك العصبي والأخلاقي، تترنح حين تتواجه مع فيض بصري من الوفرة، في سوق أو خلف واجهة عرض.

ضجيج الصوت السينمائي

استمرت مسيرة ويبر السينمائية حتى ما بعد اجتياح الصوت للأفلام، لكن أسلوبها ومنظورها لما يُشكل تصويرًا أمينًا للعالم وباتا آنذاك متقادمين.

في منظومة استوديوهات يهيمن عليها مديرون تنفيذيون من الرجال، جرى تهميش اسمها تدريجيًا، بوفاتها عام 1939، تم اختزال إرثها بشكل مخز، لتُذكر لا كمخرجة، بل كـ"صانعة نجمات"، فقط لأنها قدمت أسماء نسائية شابة إلى صناعة السينما منهن: ماري ويندسور، ماري ماكلارين، ميلدريد هاريس، بيلي دوف، وإستر رالستون وفقًا لما ذكره ريتشارد كوزارسكي في كتابه An Evening's Entertainment/ترفيه المساء: عصر الصورة الصامتة، 1915-1928 تاريخ السينما الأمريكية، المجلد 3.

نُسيت ويبر تمامًا، وبهذا الإقصاء خسر تطور السينما مركبًا نوعيًا من الذائقة البصرية والبوصلة الأخلاقية. صنعت ويبر أفلامها جزئيًا على الأقل، بدافع نفع عمومي، ومن خلال ذلك بلورت منهجها الخاص في صناعة الصورة المتحركة. ومن هذا المنبع تولدت "المؤثرات الأخرى" التي طالما كانت تقصد تضمينها، بمعنى استيعاب الحياة بصفتها ممارسة يومية لشخصيات واقعية، معظمها من النساء، لا بطولات منمطة من عالم الاستعراض.