تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
داود عبد السيد ما بين السلطة ويوحنا المعمداني

داود عبد السيد الصارخ في البرية

هواجس البحث عن الناس وتحديهم للسلطة

منشور الأحد 28 كانون الأول/ديسمبر 2025

"صوتُ صارخٍ في البرية: أعدِّوا طريق الرب، اصنعوا سُبُلَه مستقيمةً".

- الكتاب المُقدَّس


أبطالُ فيلم "قدرات غير عادية" (2015) أربعةٌ؛ يحيى الدكتور والباحث، الفنانة التشكيلية حياة، الطفلة فريدة، وصاحب السلطة عمر البنهاوي. معهم، ومع غيرهم، نخطو بصحبة المخرج والمؤلف داود عبد السيد الخطوة الأخيرة في رحلة تأمل عالمه الخاص، الذي نسجه بصبرٍ ومثابرةٍ.

عالمٌ يتمحور أساسًا حول الأسئلة والصراعات، وبَحْثِ ناسِه عن الحياة ومعناها وذواتهم الحقيقية، واكتشافهم لها خلال الرحلة، وخلال صراعهم مع أشكالٍ مختلفةٍ من السلطة، في سبيل تحررهم. وأبطال داود عبد السيد مثله، لا يمتلكون إجابات واضحة أو يقينية؛ بل أسئلة تقود للمزيد من الأسئلة. وهم يشبهوننا، مشاهدي أفلامه، في أنهم يستطيعون المغامرة بمحاولة قراءة الأسئلة، وتفسيرها، ومحاولة فهمها، من دون أن تكون أفلامه من هذه النوعية ذات التفسير الوحيد والقراءة اليقينية. فلا تمنحنا سينما داود عبد السيد أبدًا "الإجابة النهائية"، بل تمنحنا المزيد من الأسئلة.

بين يحيى ويوسف.. أسئلة الحياة والحرية

لم تكن المرة الأولى التي يختار فيها الفنان داود عبد السيد اسم "يحيى" للبطل الباحث عن ذاته وعن معنى الحياة والحرية. ففي أفلام سابقة خاض البطل يحيى رحلة النضج والمغامرة والتحرر في "رسائل البحر" (2009). وقبله خاطب يحيى أبو دبورة بطل "أرض الخوف" (2000)، السلطة، أو الإله، الذي لا يراه، وأرسله في مهمة، وظنَّه قريبًا منه ليسمعه، ليُخرجه من حيرته، فيما هو إله غائب. أما هذه المرة، فهو يحيى الباحث عن الحقيقة، وعن الناس، الذي يريد أن يعرف. إنه يحيى المراقب أكثر منه يحيى الفاعل.

في أفلام أخرى يمنح داود عبد السيد أبطالَه أسماء أخرى. فيُسمِّي بطله الذي استيقظ صدفة، وأراد أن يستعيد إحساسه بالحياة، ويخوض رحلة الاكتشاف خارج الشرنقة بـ"يوسف" في "البحث عن سيد مرزوق" (1991)، بعد أعوام طويلة من هَمْس المخبر يومًا في إذنيه خلال المظاهرة "ارجع بيتك يا يوسف". فيلازمه خائفًا، ليخرج منه مستيقظًا، مفتتحًا رحلةَ التمرد، وحياةً جديدة بالصدفة. وهو أيضًا "يوسف" في "الكيت كات" (1991)، الذي يحلم بالسفر بعيدًا، والتحرر من عالمه القديم، وقدماه يكادان لا يُلامسان الأرض مثلما يصف أبوه خطواته. هذا الأب الذي يواجهه الابن بصلابة "انت بعت البيت بالحشيش يابا؟". فنقف معه أمام سؤال المتعة، والغياب الطوعي، أم الضرورة.

ربما يكون يحيى هو ذاك "الصوت الصارخ في البرية". ربما يكون "يوحنا المعمدان"، المولود قبل المسيح بشهور قليلة ليبشر بمجيئه، ويُعمِّده. لكنه يتخلى عن مهمته الأساسية في التبشير، بل يصل للتشكيك في أنَّ يسوع هو المسيح المنتظر، ليعيش صارخًا في البرية بالحقيقة السياسية، رافضًا "هيرودس الملك" وسلطته، ومقدمًا رأسه المقطوع ثمنًا لحريته في القول، والتمرد، والشجاعة.

يواجه "يحيى أبو دبورة" سلطتين؛ سلطة تجار المخدرات، وسلطة الجهاز الأمني الذي أدخله لهذا العالم كعين له. نراه يكلم الله الذي أرسله، ولا يسمعه في "البرية"، ويصرخ نفس صرخة يحيى في "رسائل البحر" حين يبخل البحر عليه بالإجابات واليقين وقت العاصفة. هل كانت صرخة "يحيى أبو دبورة" في مواجهة ساعي البريد أم في مواجهة الله؟ وهل كان يحيى الآخر يصرخ للبحر أم للإله؟ لا نعرف، ويدعونا داود لتجنب التسرع في الإجابات.

لا يصرخ يحيى في "قدرات غير عادية"، فمثلما قلت توًّا هو مراقب قبل أن يكون فاعلًا. يبحث ويتساءل ويختبر ويتأمل الناس وقدراتهم. فقط عبرهم، وعبر رحلته معهم، يكتشف قدراته غير العادية. ويكتشف نقيضها، أنه ليس حرًا مثلما تصور. يكتشف كيف تحول كمثقف، ومن دون أن يدري، لمجرد أداة في لعبة أكبر منه، لعبة السلطة التي تقرر من طرف واحد أن يعمل لصالحها. وأن يشكل كلاهما؛ المثقف والسلطة، فريقًا واحدًا، مثلما قال رجل السلطة القوي "عمر البنهاوي".

يحيى الأخير في مسيرة داود عبد السيد الطامح إلى بعض المعرفة، يعلم أن المعرفة نسبية. يرغب في مجرد الاقتراب من جوهرها، وتفسير بعض ألغازها، وبعض سحرها. هذا الطموح يضعه نقيضًا للسلطة التي تعترف بلسان عمر البنهاوي بأن حلمها الوحيد الوصول للمعرفة المطلقة، لا النسبية، لتتحقق السيطرة المطلقة على كل شيء. مصورة هذه السيطرة بأنها "هدفٌ وطنيٌّ سامٍ"، حتى ولو دمرت حياة الآخرين.

لعب داود لعبة الأسماء الموحية حتى وإن أنكرها. لكنها تتجاوز عنده حدود المباشرة المعتادة في السينما المصرية، بحيث يكون الاسم مفسرًا لسمات الأبطال وطرقهم. فما أراده أحيانًا، وليس دائمًا، أن تمنحنا الأسماء دلالات تقودنا للمعنى، أن توحي لنا بمفاتيح ممكنة للدخول للعالم الذي يريد لنا أن نراه ونتأمله.

يسمي المخرج/المؤلف بطلته "حياة". يخبرها مغني الأوبرا بأنها أصبحت أكثر جمالًا، بعد أن رأيناها تمارس الحب/الجنس/الحياة مع يحيى. و"حياة" هو اسم الخادمة في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" (2001). إنها أيضًا هذه المرأة التي تدفع بالكاتب لغمار الحياة ومغامرتها. مثلما يحدث بتنويعات أخرى في أفلام سابقة من دون أن يكون اسمها حياة. لكنها كثيرًا ما تكون صانعة هذه الحياة، أو ما تجذب البطل للمغامرة وللخطر والدخول في الحياة.

أما "فريدة"، الطفلة الساحرة التي تمتلك القدرات غير العادية، ففرادتها لا تنبع من امتلاكها لهذه القدرات، بل لأنها الأوضح في تحدي السلطة والتمرد عليها، ولو بسلاح الصمت، رافضة استخدامها من قبل الجهاز الأمني كوسيط لانتزاع معلومات من متهمين خلال التحقيق معهم. وهي فريدة كذلك لأنها تمكنت من الانتصار على السلطة عبر إصرارها، وتمسكها بحريتها، وألا تتنازل عن استمتاعها بلعبتها الطفولية مع الحياة من دون أية حسابات أو محاذير. و"فريدة" هي الوحيدة من بيننا، من بين كل شخصيات داود الذي كان يتحدث عنا، القادرة على التحليق وتجاوز الأسوار ورؤية ما لا يراه الآخرون.

يحضر "جبريل" بشارة الميلاد، ميلاد كليهما؛ المسيح ويوحنا المعمدان/يحيى. وفي "قدرات غير عادية" يظهر في صورة مهرج السيرك الذي يُبشِّر، بمعنى ما، بفريدة، بميلاد فريدة. إنه أول من ينتبه لقدراتها، ويدعوها للسيرك، لمعترك الحياة مجازيًا، وهو من يمجد قدراتها، مصطحبًا الجميع ليقفوا تحت نافذتها، لتظهر إليهم عبرها، بملابس بيضاء، محاطة بهالات من النور الأبيض وكأنها العذراء أو الملاك أو القديسة، وهم واقفون بالأسفل لتمجيدها. والظهور المعجزة، الظهور الساحر، الذي يغير مجرى حياة أبطال داود عبد السيد، ويعقدها، يجبرهم على الدخول في الرحلة، فلا حياة من دون مغامرة، ومعاناة، وألم، وربما خسارة.

يُعاقَب الجميع بسبب هذا الظهور الساحر، الإلهي، لفريدة. يُعاقَبون لأن فريدة تكشف أن كلنا نملك قدرات غير عادية نستطيع اكتشافها، إن أردنا. وهنا تظهر تنويعة جديدة من السلطة، فبالإضافة لرجل الجهاز الأمني الذي يطاردها وأمها لاستخدامهما، تطرد القوى الدينية جبريل مع سيركه، فالسيرك/الحياة عملٌ شيطانيٌّ. ويخبر جبريل يحيى قبل طرده بجملة تُشكِّل أحد مفاتيح الفيلم؛ "الأسد محبوس في القفص، والحمار خايف منه عشان عارف إنه في الآخر هَياكله". لينتهي المشهد برجلٍ لا نرى وجهه، صاحب سلطة ثالثة، مجسدة في امتلاكه للمسدس، يتقدم بثبات مرعب من الحمار، يقتله بطلقة واحدة في الرأس.

الشرطة وسلطة القوة

في فيلم "سارق الفرح" (1995) يسرق عوض ملابس أخيه ليبيعها على نصبة في الشارع. فيتسبب أخوه في "جرجرته" لقسم الشرطة. وفيما يحقق معه الضابط، وأمام أخيه، يضربه المخبر.

هذا التدخل الشُّرطَي القمعي العنيف، المعتمد على امتلاك ميزة التفوق في القوة، ليس الوحيد في سينما داود، حيث لا يخلو فيلمٌ من وجود الشرطة، التي تتدخل في حياة أبطال أفلامه، لإفسادها، أو تعكيرها، أو لمجرد أن تزيد من مشاكلهم. في "رسائل البحر" ينال يحيى علقة من الشرطة لأنه يتهته. وفي "مواطن ومخبر وحرامي" يعذب المخبر الخادمة حياة متهمًا إياها بالسرقة. والشرطة لاعب أساسي في "أرض الخوف"، حيث يستخدم الضابط عمر الأسيوطي سلطاته المطلقة للإضرار بزميله السابق يحيى.

في "قدرات غير عادية" يُقتاد البطل يحيى لقسم الشرطة أيضًا، لكن المسألة هنا لا تنحصر في جهاز الشرطة، بل يُلمِّح داود عبد السيد في هذا الفيلم لجهاز سيادي يبدو أعلى من الشرطة. إنه الجهاز الذي يستخدم الطفلة فريدة لصالحه. وهو الجهاز نفسه الذي يمول أبحاث الدكتور يحيى. وهو السلطة السياسية بمجملها، الإله، صانع الكون، وحاكم المجتمع وواضع قوانينه، في "البحث عن سيد مرزوق".

وفي "سارق الفرح" تحضر الشرطة، لكن السلطة السياسية بمعناها التقليدي تغيب، وتغيب كذلك سلطة المجتمع المحافظ، لتحضر سلطة أخرى؛ الفقر والحاجة، لتقهر الشخصيات ولتوقف أحلامهم عند الحدود الدُّنيا التي لا يجوز للفقراء تجاوزها. لكنهم يقاومون سلطة الفقر والتهميش ويتحدُّونَها في محاولة سرقة بعض الفرح. مستعينين بسلطة أخرى، أكثر تسامحًا وميتافيزيقية ومرتبطة بالمعتقدات الشعبية، ممثلةً في ضريح سيدي أبو العلامات، الذي يلجأ إليه عوض لأخذ الأذن قبل الإقدام على أي فعل جديد في رحلته لاستكمال ثمن الشبكة المطلوبة ليتزوج حبيبته. فيمنحه سيدي أبو العلامات، بعض العلامات، أو مجرد صدف.

من ضمن المشاهد ذات الدلالة عظيمة الأهمية في "البحث عن سيد مرزوق" المشهد الأخير، عجز وانسحاق المواطن أمام اللص/الفاسد/الإله، أو الأسياد مثلما يُسمُّون في الفيلم، وأمام الشرطة في اللحظة ذاتها. فحين يفشل يوسف في قتل سيد مرزوق، يقف عاجزًا. يتركه سيد مرزوق مستهزئًا، فيما نرى حشود الشرطة بعساكرها وسياراتها وكلابها تتقدم في الطريق باتجاه الفيلا. ويتركنا داود عبد السيد دون أن نعرف أهي آتية للقبض على سيد مرزوق أم لقمع المواطن يوسف. النتيجة واحدة، أيًا كانت تدخلاتها فهي تعكر وتفسد حياة المواطنين. وهي نفس الصيغة التي تتكرر بوضوح في "رسائل البحر"، وفي "قدرات غير عادية".

لا تكتفي الشرطة باقتحام حياة يوسف في "البحث عن سيد مرزوق" مشاركة لسيد مرزوق في تخريبها، بل تقتحم أيضًا البيت الذي تحوَّل لحضانة لتلك الطفلة التي ولدت مبكرًا، فيما يتحدث أبيها عن أن الواقع غير صالح لأن يتعايشوا معه، فعليهم عزل أنفسهم على أمل أن يتغير هذا الواقع، وساعتها ربما يخرجون للتعامل معه، ومع الحياة. لكن الشرنقة لا تحمي في سينما داود، ولا مفر من المغامرة. فحتى لو اكتفى المواطن بشرنقته، ولم يخرج ويغامر مثل يوسف، ستأتي إليه السلطة لتدمر ما صنعه، وتفسد عزلته والجو النقي الذي خلقه لحماية ذاته.

حتى فيلم "الكيت كات" لا تغيب عنه الشرطة، تحضر عبر محاولتها لاستخدام هرم للتعاون معها وتسليمها قضايا هي عاجزة عن العثور عليها. وهي الشرطة نفسها التي تقتحم هذا المحل الصغير حيث تجتمع "شلة الصحاب" لتدخين بعض الحشيش والإحساس ببعض الونس، كما تقول أغنية الشيخ حسني في بداية الفيلم مع تيتراته الأولى، وكأنها حضانة أخرى، أو شرنقة، هشة في مواجهة بطش أصحاب السلطة.

سؤال المثقف والسلطة

يقول داود عبد السيد في حوار منشور بجريدة الدستور في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2021 وأحتفظ بنسخة منه، إن "أرض الخوف يحكي قصة جيلي الذي كلَّفته الثورة بمهمة المشاركة في المشروع الوطني ثم تم إلغاء المهمة". ربما نستطيع أن نضيف أن المهمة تم إلغاؤها من دون إخبار جيل داود بأنها أُلغيت.

يحب البعض الاتكاء على مثل هذه العبارات، وعلى حبكات بعض أفلام داود، مثل "البحث عن سيد مرزوق"، و"أرض الخوف" لوصفه بأنه فيلسوف. وفي تقديري أدى هذا التوصيف لإبعاد قطاع من الجمهور الطبيعي للمخرج/المؤلف عن أفلامه، استسهالًا. فإن كان فيلسوفًا فهو بالتالي غير مفهوم، ويحتاج منا لدرجة عالية من الثقافة كي نفهمه. فيما هموم داود، الذي -مثله مثل أي فنان كبير- توجد طبقات متعددة لفهم وتلقي عمله الفني، تصل بعضها للفلسفة، لم تبتعد في جوهرها عن أسئلة المواطن، والمثقف، وطموحهما للحياة والحرية والاكتشاف والمتعة.

يسحب داود سؤال السلطة لمستواه الأعلى من مجرد جهاز الشرطة في "قدرات غير عادية"، في وقت مناسب تمامًا، وكأنه يُشهِر موقفًا سياسيًا. إنه وقت الصراع الأكبر بين قوى مجتمعية وجهات أمنية كبرى، وما سُمي وقتها بالدولة العميقة التي يقدمها داود واضحة في شخصية رجل الأمن الذي يرغب في التحكم في كل الخيوط وكل الشخصيات وأن يملك كل المعلومات.

يحاول المثقف الهروب والانسحاب حين يكتشف أنه مجرد أداة في يد السلطة. لا يقاوم وضعيته كأداة، بل ينسحب لتأمل عوالم أخرى، من بينها عالم الصوفية. تنتهي مغامرته القصيرة مبتورة بقرار من نفس سلطة "عمر البنهاوي" في تعاونها مع السلطة الصوفية المتمثلة في "مولانا". تحتاج السلطة الأولى ليحيى لحل مشاكلها، وليمنحها شرعية. والسلطة الثانية لا تقبله لأنه مراقب، مشاهد، متأمل، متشكك، ولا يغرق مثل الآخرين في عالم الإيمان المطلق دون أسئلة.

يبتر مولانا رحلته قائلًا "هنا شربة ماء في وسط هجير الصحراء. نحن لا نريد المتشككين بل المؤمنين. أنت جئت لتعرف لا لتستريح. إحنا مش عايزين مشاكل مع الحكومة". جملة أخرى من مفاتيح فيلم "قدرات غير عادية"، تذكرنا مباشرة، وفي اللحظة نفسها، بأخرى سبقتها بأعوام كثيرة "ارجع بيتك يا يوسف.. ارجع بيتك أحسنلك"، التي حكمت على بطل "البحث عن سيد مرزوق" بـ"الموت" لأعوام طويلة، وظلت تتردد داخل رأسه وترعبه.

إن كان داود عبد السيد في فيلمه الأخير، الوداعي، يدعونا لتأمل عددٍ من المصائر والتركيبات، وعددٍ من القدرات غير العادية بكل تنويعاتها، سواء كانت قدرة على ممارسة السحر أو اللعب أو الحب أو المغامرة أو الإبداع الفني، فهو أيضًا يستعرض بعض أنواع السلطات التي حيرته وشكلت أسئلته طيلة مسيرته؛ الله، الدولة، الأجهزة الأمنية، الدينيون، المجتمع، وأيضًا سلطة الموسيقى في تحديدها ملامح مشهد المجابهة بين البطلين، المثقف ورجل السلطة. فالبيانو هو ما يحدد إيقاع المشهد وحواره ومساره. ووجه ونظرة العازف تحدد لحظة نهايته.

هذا عن فريدة ويحيى وجبريل وحياة ورجل الدولة، في واحدة من القراءات التي لا تنفي قراءات أخرى ومختلفة لفيلم "قدرات غير عادية"، الفيلم الوداعي لداود، الذي يحمل مفاتيح أفلامه الأخرى. لكن، ماذا عن داود عبد السيد نفسه؟ كان اختياره واضحًا؛ المسير للنهاية في مغامرته كمثقف وسينمائي وأديب ومشتبك مع قضايا زمنه ومجتمعه، والإصرار على نسج عالمه الخاص بإيقاعه الخاص، وبرسم شخصياته التي تثير دهشتنا ونرى أنفسنا فيها، وبطريقته الخاصة في سرده لقصصه، التي لم تنسجم مع بقية مفردات "السيرك"/السوق المحيط.

ربما شعر بنفس معاناة "حياة" التي تقر بأن أصعب الأشياء الاختلاف عن السائد. لكن، داود عبد السيد، حتى في لحظة إشهاره لغياب قدرته على الاستمرار، والإقرار بالاعتزال الاختياري/الإجباري، كان مختلفًا. ظل مُصِّرًا على تمرده على مفردات السوق رغم وعيه البالغ بطبيعتها وقوانينها. ومغامرًا مع كل فيلم جديد وكأنه آخر فيلم يصنعه. فيصنعه مثلما يريده وبالشكل الذي يرضيه، متحديًا، مثل فريدة ومثل الشيخ حسني، كل القيود. لكنه أيضًا داود عبد السيد المنسجم مع كل شخصياته، مع ناسه، في رحلتهم للتمرد والحرية، والمنسجم معهم في لحظات هزيمتهم وضعفهم. فيملأ بوشوشهم شاشة العرض، مشهرًا حبه وانحيازه لهم، ليدعونا أن نحبهم مثله.

آخر ما نسمعه في سينما داود عبد السيد، جملته على لسان يحيى في "قدرات غير عادية"؛ "جايز كل دول عندهم قدرات غير عادية". فيما تحلق الكاميرا فوق البحر، فوق البيوت، فوق المدينة، وفوق السيرك. لم يدَّعِ أنه "الصوت الصارخ في البرية" بألف لام التعريف، وألف لام نفي الآخرين، لكنه من دون أي شك كان صوتًا صارخًا في البرية، بحث عمن يصرخ معه، ومن يصنع السحر معه، وكان محرضًا لنا لنخوض مغامراتنا، معه أو بدونه، وأن ننتبه لامتلاكنا قدرات غير عادية.