نحن أيضًا نحتضن حلم تغيير حياتنا، أو على الأقل حشوها بمادة أقل تفتتا من حطام الأيام، عبر الرحيل من هنا. نشعر بحنين غريب نحو ما لم تره أعيننا، حنين نحو كل الأماكن باستثناء مكاننا، أو كما قال تشيرازي بافيزي ذات مرة "المرء يحتاج إلى وطن، حتى ولو كان ليرحل عنه". صبغة حب المكان تلك لا يخلو منها المخيال الثقافي على امتداد شرقه وغربه متجاوزًا ربما دون مزايدة كل حب آخر.
على ما يبدو يظهر حب الوطن عمومًا فوق كل المشاعر كمظلة تغطي وتتجاوز كل المشاعر، يتجمع حوله أكبر عدد ويهون أمامه وبسببه أخطاء عدة، وصفة مضمونة النجاح لعدد أكبر ممن يعيش معهم الصانع (الكاتب والمخرج) أن يصنع عملًا يصبح بطله مدافعًا عن البلد بشكل أو بآخر، يكفي ذلك ليتهافت عليك القادة في الدولة والعامة في الشوارع من كثرة حماسهم مع عملك البطولي، لن يجد الصانع أسهل من قصة تجسسية درامية لصناعة بطل قومي مضمون نجاحه.
مؤخرًا، بدأت نتفليكس بث سلسلتها الوثائقية المكونة من ثماني حلقات Spycraft التي تبحث في الطرق التي شرعت بها الدول المختلفة في استخدام التكنولوجيا للتجسس على بعضها البعض وكيف تطورت التقنيات بسرعة. أظهرت إحدى الحلقات كيف تجسس الروس على الولايات المتحدة لمدة ثلاث سنوات من خلال ربط ميكروفون مخفي بحذاء السفير الأمريكي، تظهر حلقات أخرى كيف استخدم الجواسيس السم والسيدات الجميلات وفرق العمليات الخاصة في خططهم لجمع المعلومات. في حلقات لاحقة، يتناول المسلسل كيفية استخدام التجسس الحديث للطائرات دون طيار والقرصنة الإلكترونية لمراقبة الأعداء أو الأصدقاء المفترضين،
المسلسل التسجيلي ذكي سريع الأحداث، يمنحك نظرة عامة على صناعة التجسس والعالم الخفي من حولنا، بشكل تسجيلي غير روائي نوعًا ما، وقلما يمكن أن تجد دول تسمح بصناعة أعمال "تسجيلية" حول الأمر بل حتى ربما هناك محاذير كبيرة على الأعمال الفنية الجاسوسية المعروضة دراميًا.
الفيديو الترويجي للمسلسل
لم تكن تلك السلسلة الأولى أو الأخيرة التي تختار الجاسوسية كتصور عام لحكاية قصة مجازها الأكبر حب الوطن، أتتبع في هذا المقال رحلة قصيرة داخل التصوّر المجازي والمحرك الداخلي ربما الذي يحرّك الصانع الغربي أو العربي لصناعة عمل فني في قلبه حواديت الجاسوسية التي تنشط مشاعر المتلقي نحو التوحد مع الأبطال كتعبير عن حب وطنهم بالتجسس على الآخر أو كشف هوية متجسس عدو.
الإنسانية تنتصر على الأشرار
لم تخرج السينما المصرية عن إطار البطل الوطني الذي ينتصر للخير في النهاية، وفي منتصف الستينيات كان نجم الترسو فريد شوقي مهووسًا بعمل فيلم شارك في كتابته بنفسه، رغم افتقاره للموهبة، بالتعاون مع الكاتب المحترف بدر نوفل، وقدماه إلى المخرج نيازي مصطفى، وفي مكاشفة واضحة مع الجمهور خرج الفيلم تحت اسم الجاسوس.
تدور قصته حول ضابط بحري (فريد شوقي) من المخابرات استطاع أن يكشف شبكة تجسس لحساب إسرائيل بالانتصار على زعيمها (عادل أدهم)، الذي كان يعمل خبيرًا بحريًا في إسرائيل ويدير عمله التجسسي متخفيًا من خلال إدارته لمصنع تحفٍ وأدواتٍ زخرفية في خان الخليلي، يتمكن من إخفاء حقيقته مع مغنية تعمل في الملاهي الليلية وتتصيد الشباب العاملين في القوات المسلحة لاستخدامهم في التجسس على الجيش العربي. ينتهي الفيلم بانتصار الخير على الشر، وتحيا مصر فوق كيد المعتدي.
فهلوة الشخصية المصرية والقوة البدنية للضابط المصر ي وسذاجة الأعداء في إسرائيل، وحب النساء الكبير لفريد شوقي، جعل المنطق والإنسانية يرجحان انتصار المصريين ضد جواسيس إسرائيل.
كان تلك البداية الأكثر وضوحًا لسينما الجاسوسية المحلية، لم نذكر الكثير من الأعمال المصرية الخالصة التي تقدم سينما جاسوسية متقنة باستثناءات ربما لا يفرق ذكرها كثيرًا، من إعدام ميت وبئر الخيانة والصعود إلى الهاوية وصولًا إلى ولاد العم، الذي قدمه شريف عرفة مؤخرًا.
إلى جانب ذلك نجد أعمالًا تلفزيونية جيدة الصنع في سياق ظرفية إنتاجها وأدبية كتابتها على حساب منطقية أحداثها في العموم؛ أشهرها بالطبع متمثل في شخصيات مثل جمعة الشوان في دموع في عيون وقحة ورأفت الهجان في المسلسل الذي حمل الاسم ذاته، وغيرها من الأعمال الجاسوسية التي لا تخرج عن كونها ضد العدو الإسرائيلي الواضح الوحيد في المعادلة.
كان الاستثناء شبه الوحيد لصناعة جاسوس ذكي وقوي في مواجهة غير صهيونية مباشرة في فارس بلا جواد الذي خرج خلاله بطله محمد صبحي كجاسوس ضد الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر في سياق زمن العمل، ولاقي رواجًا وشعبية تجاوزت محلية صنعه بعرضه في العديد من الدول العربية التي أشادت به لسنوات.
فيما كانت الفرصة الذهبية التي أُتيحت للنساء التي التهمت أغلبها نادية الجندي خرجت مثيرة للسخرية والسذاجة أكثر من كل منافسيها، وربما إلى الآن يتراجع المنتجون عن تمويل أفلام نسائية جاسوسية بسبب مدى انحدار ما قدمته نادية الجندي في تلك الأفلام المقاولاتية، التي لا يوجد حتى ما يمكن كتابته نقديًا حولها.
لم تقترب أغلب أعمال الجاسوسية المصرية من مساحات تقديم النساء، حتى بالشكل المتواضع العادي الذي قدمت خلاله الرجال، وعلى مدار الأعمال القليلة في السينما والأدب المصري التي تناولت البطل الجاسوس سنجد أبطالنا في الداخل وسيلة انتصارهم هي عاديتهم، فقط، توحد المشاهد معهم كأبطال "غلابة" يسترها معهم ربنا، حيلهم ساذجة وأمنياتهم بسيطة وجلستهم مريحة وهادئة على عكس الجاسوسية التي نراها في الخارج، حتى الضباط الذين كان عليهم الإمساك بالعناصر الإجرامية.
جيمس بوند كتعبير عن التفوق
من الكاتب والمخرج ألفريد هيتشكوك الأستاذ الأول للسينما التي يمكن تصنيفها كسينما غامضة ومثيرة وملهمة، وصولًا إلى إيان فلمنج كاتب شحصية جيمس بوند، وصانع أشهر جاسوس سينمائي على الإطلاق، وحتى الآن، قُدمت مختلف السرديات في سينما الجاسوسية الهوليوودية على اعتبار سياسة التفوق. على مدار ستة عقود متواصلة سنشاهد الجاسوس 007 كرجل متفوق بدنيًا وذهنيًا لا كرجل "غلبان فهلوي"، تتطور النظرة عامًا بعد الآخر ولا يمكن الملل منها ومن أبطالها الخارقين المدافعين عن بلدانهم وسط حروب التجسس بين الدول لإظهار التفوق الأمريكي، الذي لا يمكن محاربته، أسلحة متطورة ومعارك مغرية بصريًا وتفوق جسماني وخفة حركة يتمتع بها كل جيمس بوند في مقابل عدو قوي أيضًا لكنه ليس بالقوة ذاتها.
استثناءات قليلة يمكن الوقوف عندما مثل جسر الجواسيس الذي كان بطله (توم هانكس) متورطًا في الموقف الدفاعي عن بلده مضطرًا لإنقاذ ذاته ووطنه كرجل "غلبان" يشبه أبطالنا في مصر، يحمل الصفات ذاتها (الوسامة والذكاء وحب الخير والذكورية الطاغية)، لكنها استثناءات لا يمكن البناء عليها في محورية الشخصية الأمريكية.
البطولة النسائية التي ظهرت خلالها أنجيلينا جولي مثلًا في فيلمي تجسس على الأقل، دُعما بشكل مباشر من وكالة المخابرات المركزية في الراعي الصالح 2006، وملح 2010. لكنها في النهاية لا يمكن فصلها عن السرديات الذكورية الفجة المكررة لتيمة النجاح الخارق ذاتها بشكل دون المستوى عمومًا، بإخراجهما السيئ الذي صنعه الممثل روبرت دي نيرو.
لوك بيسون والنساء الخارقات
قدم المخرج الفرنسي لوك بيسون عددًا من الأفلام التجارية الشهيرة من داخل هوليود، وقدمت أفلامه نظرة مغايرة للجاسوسية من خلال بطلاتها النساء الأكثر حكمة وذكاء وجذبًا للتعاطف من الخارقين الرجال، الذين يتعاطف المشاهد معهم فقط ككائنات فضائية لا أمل في توقع أن يكون مثلهم.
قبل أن يستقر بيسون على مهنة الكتابة والإخراج السينمائي جاء من البحر، إذ كان يعمل مع أبيه مدربًا للغطس، قبل أن يخرج لدراسة السينما والكتابة في أمريكا ثم يعود مرة أخرى لصناعة أفلام عادة ما ستجد الحديث داخلها بأكثر من لغة.
سنوات التدرب والتجربة ستنتهي بصناعة فيلم الأزرق الكبير في أواخر الثمانينيات عن الأصدقاء الذين يجمعهم البحر، ثم تظهر معالم توجهه التي ستظهر جيدًا في الفيلم الذي يليه وفي العالم الذي سيستمر معه بعد ذلك خلال مسيرته الطويلة.
في 1990 يكتب ويخرج فيلم Nikita الفتاة المجرمة التي ستستغل الدولة جاذبيتها وحركتها في العمل جاسوسة، ستظل تلك التيمة ملازمة لسينما لوك بيسون بعد ذلك. البطلة ذاتها ربما بالمشاهد نفسها سيقدمها في نقطة اللا عودة، البطلة التي ينقذها النظام للعمل كجاسوسة.
في فيلم The Fifth Element ستصل نظرة بيسون إلى أقصى حدود نضجها، ستتجاوز فكرة الجاسوسية من دولة إلى أخرى لتخرج إلى فكرة أكثر تجاوزًا، كفلسفة محضة، مستقلة، يجب التفكير فيها كتمثيل للشر المطلق، حتى يعود بتطبيقها على بطلاته مرة أخرى بشكل أكثر نضجًا.
لسنا هنا أيضًا بصدد المرور الأرشيفي على مشروع الرجل الفني، فيلمًا بعد الآخر، خصوصًا على اعتباره مخرج غزير الإنتاج بشكل مرهق، حتى أنه سيقدم أفكاره القديمه بعد ذلك بسنوات بالاسم ذاته في مسلسل كما فعل مع Nikita مثلًا، لكننا سنضع خلاصتها وما يجعلها أكثر ذكاء وجاذبية من منافستها.
على خلاف التجارب الفردية حدّد بيسون لنفسه طريق سينما الجاسوسية التي يصبح أبطالها نساء منذ البداية بوضوح شديد، فتاة شديدة الذكاء والجمال وسرعة البديهة في مقابل تام مع ذكورية الأبطال الرجال مثل جيمس بوند وفريد شوقي لدينا، لكنه أوجد مع الوقت النقطة الإنسانية التي جعلت بطلاته يتفوقن.
قبل سنوات كان يقول بنفسه إن "كل السينما هي سينما تجارية حتى الأفلام التي تدعي غير ذلك" وربما كان هذا الإيمان هو المحرك الأكبر لصناعة عمل يجمع كل ذلك، في أحدث وأفضل أفلامه Anna سنجد تلك البطلة النموذج، التي تصلح نجمة لشباك التذاكر في هوليوود، ليست كبطلة فيلم مهرجانات فحسب، قوية بما يكفي لتمثل الدولة كجاسوسة، ذكية، وجميلة، لكنها تعتبر عملها جاسوسة أساسًا نوعًا من الأسر.
لا يقف الرجل طويلًا في تأمل الأمر فلسفيًا لكنها هنا نحاول ذلك، تختلف آنا البطلة التي تعمل لحساب الروس ثم تتحول ضدهم، تدخل في قصة حب بالفعل هنا، وتجد نفسها في قصة حب مماثلة في الجانب الآخر دون أن تكون كاذبة في الحالتين، جاسوسة ضد ذاتها.
في الفيلم تتأمل دون وعي فكرة الجاسوسية كحالة، كشعور فلسفي، يضطرك عملك كجاسوس أن تصل بنفسك إلى أعمق درجات زيف المشاعر ليناسب مع من يجالسك الآن، لا تقدم آنا هنا مثلما شاهدنا الجاسوسة حكمت فهمي أو رأفت الهجان وهو يسمع خبر خسارة المصريون للحرب وهو مضطر على الفرحة ظاهريًأ كإسرائيلي والحسرة كمصري بينما تراها كإنسانة تضل الطريق أمام ذاتها ولا يشغلها الوطن كثيرًا.
تراهن الفتاة هنا على كل شيء فقط أمام حريتها، وحدها، أثناء تجنيدها يخيّرها الضابط الروسي بين قتلها وبين الانضمام لهم لا تفكر كثيرًا قبل أن تقطع شرايينها، فقط لأنه "لا فرق إن كان ذلك سيسلبني حريتي أيضًا"، تحاول الخروج من حياتها "القذرة" إلى الحرية ليس إلى التمسك بالعمل الوطني على اعتباره يمنحه المعنى.
المعنى الذي يتصنعه الأبطال الجواسيس في الداخل والخارج، سواء كان عادم إمام أو توم كروز هو الوطن الذي ينقذه البطل، الوطن الذي يقف خلفه، منطقة شديدة الحساسية ربما لا يمكن المساس بها سوى يد فتاة، جميلة، ذكية، خارقة، على اعتبارها أشياء تجعله فيلم تجاري مربح، بينما في قبله لا يوجد أمريكي يدّعي التفوق ولا مصري يدّعي الجدعنة، في قلبه فتاة، بِكر، بالرغم من ذنوبها الظاهرة والباطنة، كل ما تريده هو حريتها هي قبل حرية وطنها، وربما في ذلك من الفلسفة والتجرد ما يجعل تلك الأفلام تتفوق بخطوة عن منافسها.